الجماعات المسلحة.. ومخاطر عدم التقدير الأمريكي لقوتها
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
د. عبدالله باحجاج
الحقبة الزمنية الإقليمية الراهنة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية قابلة لكل الاحتمالات المُستقبلية، أو تلك التي قد تُفاجئ التفكير غير الاستباقي؛ سواءً استمر العدوان الصهيوني البربري الوحشي على غزة أم نجحت الهدنة التي يكثر الحديث عنها في تثبيت وقف إطلاق النار.
وما يُعتقد أنه غير ممكن الآن، قد يصبح مُمكنًا غدًا (نعم) بهذه الزمنية الديناميكية المتسارعة، ومن ثم على كل دولة إقليمية أن تكون منهجية تفكيرها الاستشرافي والاستباقي قائمة على الممكن واللاممكن معا، ومن الواضح أن هناك عدم تقدير حقيقي لميزان القوة الإقليمية الجديدة، بالذات للفاعلين من غير الدول، ونقصد هنا الجماعات المسلحة؛ حيث إن القوة "الرادعة" لم تعد تحتكرها الدول وحدها؛ بل تفوَّقت عليها جماعات آيديولوجية مُسلّحة، وبالتالي، فإنَّ استعمال القوة ينبغي أن يكون آخر الحلول، وفي الحدود الاستثنائية.
وينبغي أن يطرح الآن التساؤلات التالية: ما حجم القوة العسكرية الراهنة للجماعات؟ وما هي آفاقها المستقبلية؟ وكيف ينبغي للدول التعامل معها؟ والمتأمل في خارطة الجماعات المسلحة الإقليمية وما تظهره فوق السطح من قدرات وإمكانيات عسكرية بتقنية عالية جدًا، يجعل من تلكم التساؤلات مشروعة وعاجلة، وكل دولة لا تعمل فكرها فيها سترتكب أخطاء استراتيجية، مثلما ارتكبت أمريكا وبريطانيا، بقصفها المُستمر على اليمن رغم نصائح وتحذيرات سلطنة عُمان، وأصبحت المصالح الإقليمية لأمريكا وبريطانيا هدفًا لجماعة أنصار الله اليمنية، بعد ما كانت تستهدف فقط السفن التجارية الصهيونية في البحر الأحمر، من منظور نُصرة غزة.
والقصف الأمريكي البريطاني واستمراره حتى الآن يصنع عداوات إقليمية جديدة مستدامة حتى في مرحلة ما بعد العدوان على غزة، فعمليات قصفهم لا تزال مستمرة، وتلحق خسائر متعددة لن تكون عابرة، وكان ينبغي استيعاب عملية احتجاز الحوثيين للسفينة التجارية الصهيونية في نوفمبر الماضي عبر حل الأزمة عن طريق الدبلوماسية، عوضًا عن القوة إذا ما كان هناك تقدير لحجم قوتها العسكرية من جهة، والإيمان بالحلول الدبلوماسية التي لا تترك وراءها مُسببات لاستدامة استعمال القوة من جهة أخرى. بمعنى، أنه لو كان الخيار دبلوماسيًا، فإن أزمة الملاحة في البحر الأحمر ربما تنتهي عاجلًا، أو على الأقل ستنتهي بانتهاء العدوان على غزة؛ لأنها ردة فعل وليست فعلًا، وما دام لم يُحتكم للدبلوماسية، فليس هناك ضمانات من عودة الملاحة الآمنة للبحر الأحمر حتى بعد العدوان.
والسيناريو الأخير ينبغي أن يُطرح فوق الطاولات السياسية الآن في ظل صراع دول إقليمية مع الحوثيين لأكثر من تسع سنوات، ليظل التساؤل حول قدرة الحوثيين العسكرية مفتوحًا، وهو هنا مُتخيل بحكم تصاعد انكشاف تطوره، ونقدمه وفق مقاربات التساؤلات التالية.
- من كان يتوقع القدرة العسكرية المتقدمة لجماعة أنصار الله اليمينة قبل السابع من أكتوبر 2023؟ إذ إنَّ إقدامها على قصف عمق الكيان الصهيوني يُفترض أن يضعها في ميزان الحسابات السياسية والعسكرية الدقيقة، ولا تتهور واشنطن ولندن بقصف محافظات يمنية.
- من كان يتوقع قدرتهم التأثير على الملاحة البحرية في البحر الأحمر قبل السابع من أكتوبر 2023؟
وهذه المقاربات تطرح تساؤلات منطقية ردًا على المزاعم الأمريكية، خاصة تلكم التي تتحدث عن استدامة خطر الحوثيين على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وأبرزها:
- لماذا لم يستخدم الحوثيون هذه القدرة قبل السابع من أكتوبر الماضي؟
- ماذا بمقدورهم فعله، ولم يفعلوه، ويمكن أن يلجأوا إليه مع تطورات الأحداث المقبلة سواء في غزة أو المنطقة؟
الإجابة على التساؤل الأخير جاءت في تحليل لمنتدى الخليج الدولي كشف فيه عن سلاح لدى جماعة أنصار الله في اليمن، اعتبره التحليل مُقلقًا للغرب وللمنطقة، وهو يستهدف شبكة كابلات الاتصالات الحيوية تحت البحر، مما قد يُعطِّل الاتصال والاقتصاد العالميين، وتكمن الخطورة هنا- كما أشار اليها التحليل- في أن اليمن يحتل موقعًا استراتيجيًا؛ حيث تمر بالقرب منه خطوط الإنترنت التي تربط قارات بأكملها، وليس الدول فقط، وقد فنَّد التحليل الحجج التي ترى صعوبة ذلك، وأبرزها عدم وجود الغواصات للوصول إلى الكابلات، وسلّموا بأن هذا لن يكون مستحيلًا أمامهم بافتراضيين؛ الأولى: إمكانية حصولهم على الغواصات، والآخر أن المياه ليست ضحلة، ويصل عمقها إلى 100 متر فقط؛ مما تقلل من الحاجة إلى غواصات عالية التقنية لإنجاز المهمة.
خرج التحليل بالنتيجة التالية: "يمكن أن تكون شبكة الكابلات تحت البحر هدفًا سهلًا مثاليًا لهجومهم القادم"، ورأى أن هذه النتيجة تمثل احتمالًا يجب أن يُثير قلق جميع الدول التي تعتمد على هذه البنية التحتية الحيوية، وذهب التحليل الى أن الجماعات المسلحة الأخرى في المنطقة لها نفس قدرة الحوثيين على استهداف الكابلات تحت البحر.
وسلّطت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الضوء على الموضوع نفسه في تحليل مماثل، وتوقعت أن يكون الهدف القادم كابلات الاتصالات البحرية المهمة؛ بما في ذلك خطوط الإنترنت التي تمر عبر البحر الأحمر وتربط آسيا بأوروبا. واستدلت المجلة بما نشره أحد الحسابات عبر تطبيق "تيليدرام" في أواخر ديسمبر الماضي، عن خريطة توضّح مسارات كابلات الألياف الضوئية التي تمر عبر مضيق باب المندب غربي اليمن.
هذان التحليلان يُعززان ما ذهبنا إليه في كثير من مقالاتنا السابقة، حول مُتغيِّرات وتحوُّلات القوة الإقليمية ليس ماهيًا فحسب، وإنما دخول فاعلين من غير الدول في امتلاكها والاستفراد بها تقنيًا، وبالتالي، فإن ميزان القوة الإقليمية يشهد تحولًا "نوعيًا وكميًا"، وشخوصه يتغيرون بصورة دراماتيكية، ومعه يشهد مفهوم الأمن لكل دولة مُتغيِّرات كبرى في ظل التطور الكبير والمتسارع في تقنيات الطائرات المُسيَّرة؛ حيث تعكف الاستثمارات العالمية والإقليمية على تطوير هذه التقنية بصورة مذهلة. من هنا نُكرر القول إن الدولة- بالمفهوم المجرد- لم تعد تحتكر القوة ولا تحتكر تطوير التقنيات بما فيها العسكرية المعاصرة، وأصبحت الجماعات المسلحة الآيديولوجية تدخل كطرف منافس وقوي فيه، وفي حالات متفوقة على الدول.
وللأسف يقفز الغرب وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا فوق هذا الواقع في المنطقة، ولا يزال تفكيرها متعاليًا ويحكمه منطق الغطرسة، بدليل تسويقها هذه الأيام لهجمات الحوثين في البحر الأحمر من غير مقاصدها، فهي تبعدها عن غايتها المستهدفة، وهي نصرة غزة، وترى أنها لن تتوقف بانتهاء العدوان على غزة، وتتجاهل الحقائق التي أوردتها في صيغ مقاربات على شكل تساؤلات سابقة، مثل أنها لو أراد الحوثيون ضرب الملاحة البحرية، فلماذا لم يستخدموها إلّا بعد العدوان على غزة؟ ولماذا حصَرُوا استهدافهم على السفن التجارية الصهيونية قبل أن تدخل المصالح الأمريكية والبريطانية ضمن الاستهدافات.
بهذا الغباء السياسي الأمريكي- الغربي تُرسِّخ واشنطن كذبتها قولًا وفعلًا، والفعل هنا يكمن في استمرار عمليات القصف الأمريكية والبريطانية على مواقع للحوثيين في اليمن، وبه تؤسس حقبة سياسية من التوترات الإقليمية غير المدروسة؛ لأنها تتجاهل انكشافات القوة وتقدمها التقني والتكنولوجي رغم أن هذه القوة قد أصبحت أفقية وليست رأسية، ويتطور هذا المسار بصورة مُخيفة بسبب السياسات الأمريكية في المنطقة، فسياساتها هي التي أنشأت مثل هذه الجماعات في المنطقة، وهي التي ستجر المنطقة إلى تعميمها، فكل جماعة آيديولوجية تفكر في القوة الآن، خاصة في الدول الضعيفة التي لا تفرض سيطرتها على كامل ديموغرافيتها وجغرافيتها.
والدول الذكية هي التي تعمل الآن على تجنب أن تنتقل إليها تجربة الجماعات المسلحة، وذلك عبر عدم التماهي مع السياسات الأمريكية والبريطانية الإقليمية من جهة، وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية بانتماءاتها الداخلية- الفوقية والتحتية- وثوابتها الإسلامية من جهة أخرى، وينبغي أن تدرك أنها في حقبة سياسية خطيرة وحساسة جدًا، تُحتِّم عليها إعمال الذكاء في كل خططها ومساراتها المعاصرة، فما تؤسسه الآن سيُشكِّل واقعها المستقبلي، فأي واقع اجتماعي- على وجه الخصوص- تريده لهذا المستقبل؟
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري
– منذ إنطلاق هذه الحرب اندلع جدل في دار يسار بين جماعة منه تدعو لتدمير الدولة وتيار آخر يري في هذا استعجال شديد الخطورة علي مصير الشعب. شاركت هذه الصفحة في هذا الجدال الذي لم يكن موجودا بهذه الدرجة قبل الحرب حيث كانت شعارات اليسار: ديمقراطية، مدنية، عدالة إجتماعية نسبية، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل. ولم يكن حل الدولة أو الجيش علي طاولة الحوار العام ولا في أوساط فقهاء اليسار ولا أدري لماذا اشتعل بعد الحرب ولكن من الطبيعي لي تخميناتي.
– الداعون لهدم الدولة أحيانا يصوبون سهامهم نحو الدولة في حد ذاتها واحيانا ضد “الدولة القديمة” . لكن عليهم واجب تحديد المشكلة. فلو كانت مشكلتهم مع تدمير “الدولة القديمة” فهل يعني هذا أنهم يدعون لدولة أخري تحل محلها؟ إن كان الأمر كذلك، فعليهم تحديد القوي الإجتماعية الجاهزة لإستلام الدولة وتجديدها بما أنهم يدعون لتحطيم جهاز هنا الآن والبلاد يستبيحها الغزاة.
– يردد الداعون لهدم الدولة حجة إنها أداء قمع طبقي وسوط الطبقة المتنفذة علي حساب الآخرين. وهذا الزعم عموما صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة. إذ أن الدولة أيضا هي التي تنسق المصلحة العامة مثل توفير الأمن وحد من التعليم والصحة والبني التحتية وإنفاذ القانون، والمعايير الصحية والمهنية وإدارة العملة وتنظيم الأسواق والتجارة وحماية الحدود وهذه متطلبات لا تقوم حياة حديثة في غيابها. ولكن حتي الآن لم يحدد الداعون لهدم الدولة هنا الآن من سيقوم بهذه المهام. من سيقوم في سودان ما بعد تدمير الدولة ببسط الامن وحماية المواطن في حياته وبدنه وماله ومن سينظم الصحة العامة ويدير المواصلات والإتصالات ومن يحمي الشعب من الغزاة الطامعين؟
– لا جدال في أن الدولة ليست أداة محايدة طبقيا في أي مكان في العالم ولكن هذا لا ينفي حوجة المجتمعات لها مرحليا، وبالذات مجتمعنا. لذلك فان الطرح عن نزاهة الدولة هو السؤال الخطأ لتحديد الموقف منها. من الممكن رفع الوعي بعيوب الدولة بهدف تجاوزها ولكن لتدمير الدولة يجب علي الداعين لذلك إقناع الراي العام بوجود بديل جاهز أحسن منها وجاهز للقيام بكل مهامها ببساطة لان إنهيار الدولة قد يدفع السودان إلي واقع أكثر تخلفا.
– النقاش حول ضرورة الدولة أو ضرورة حلها يجب أن ينطلق من الواقع الماثل أمامنا ولا يحتاج لنصوص فقهية من تاريخ يسار غربي نظر في سياق تاريخي يختلف تماما عن واقعنا الحالي. وهذا لا يعني عدم الإستفادة من الخلفيات التاريخية والفكرية والفلسفية. ولكن – كما قال الصديق عثمانتو- المرجعية الأخيرة يجب أن تكون لواقعنا الماثل هنا الآن وليس لنصوص أنتجت في أزمنة مختلفة وفضاءات جيوسياسية أشد إختلافا. لذلك فان الداعين لهدم الدولة عليهم إقناع الراي العام بوجود بديل أفضل منها وجاهز للتركيب الآن في أثناء قصف مسيرات الغزاة لحيواتنا وبنانا التحتية.
– حسب تقديري هذا البديل للدولة لا يوجد حاليا في أكثر الدول تطورا في أوروبا وأمريكا واسيا دع عنك في عرصات رجل أفريقيا المريض. لذلك فان تدمير الدولة السودانية حاليا لن يقود إلي فردوس أناركي أو شبه أناركي تزدهر فيه العدالة والحريات. تدمير الدولة السودانية يعني عمليا تصفية نهائية للسودان ككيان إجتماعي، ثقافي ولن ينعم أحد بفردوس ما بعد الدولة ولكن سينتقل جميع أهل السودان للعيش كأقنان في كنف دول إستعمارية أخري ونكون فقط قد استبدلنا دولة السودان بدول أخري أشد بطشا واكثر غربة. وفي المساحات من السودان التي تعافها الدول الإستعمارية إلي حين سيخضع المواطن لحكم عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الجنجويد ولن يعيش في فردوس أناركي. لذلك فان الدعوة لتدمير الدولة والجيش الآن تعني الدعوة لتصفية السودان ككيان/ات إجتماعية مستقلة وهذا حد بعيد من كراهية الذات وكراهية السودان.
– في أدبيات اليسار لا أعلم بنصوص تدعو شعب لحل دولته وحده بينما الدول الإستعمارية والطامعة حوله تحافظ وتنمي من مقدراتها العسكرية ومن قدراتها التقنية علي إخضاع الآخرين. حل الدولة أو حل الجيوش في السياق التاريخي الصحيح يكون باتفاق دولي تقوم فيه جميع الدول في نفس الوقت بتصغير جيوشها ثم حلها في إطار تعاون دولي عميق وواسع. لذلك فان دعوة دولة لحل مؤسساتها وجيشها بينما الدول الأخري تحافظ علي هذه الأدوات هي دعوة للإنتحار وعزومة مجانية للغزاة والمغتصبين وتبرع مجاني بالوطن للأجنبى. وهذه هدية يسارية للاستعمار وهي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
– جوان روبنسون عالمة إقتصاد بحت رفيعة بقامة كينز أو أعلي كانت في هيئة التدريس في جامعة كامبريدج. يقال أن جائزة نوبل تجاهلتها لانها كانت متهمة بالماركسية وكانت من أنصار ماو المتحمسين له. ويجادل البعض أن غياب جوان عن قائمة شرف نوبل فضيحة للجائزة. وبالنظر للتنمية المذهلة في الصين الآن، ربما كان علي لجنة نوبل أن توقظ جوان من الموت وتمنحها الجائزة مرتين.
– ينسب لجوان قولها أن من أفظع الأشياء للعامل أن يستغله صاحب عمل راسمالي ويحلب عرقه قيمة زائدة. ولكن أسوأ من ذلك ألا يجد العامل راسمالي يستغله. هكذا الدولة السودانية. فظيعة جدا ولكن النقطة الأهم هي أن غيابها أفظع. وهذه هي نقطة عمي أعداء الدولة السودانية إذ هم يرون فظاعتها ومن ثم يقفزون إلي إستنتاج متعجل بضرورة تدميرها الآن بينما المنطق يقول أن تدميرها سيقود إلي واقع أكثر جحيمية. وإلي بزوغ شمس مجتمع آخر، علي العامل أن يجد راسمالي يستغله حتي لا يجوع تحت شعارات ثورية براقة. وإلي أن تتوفر شروط الإنتقال لتنظيم إجتماعي أكثر عدالة وكفاءة الدولة بصلة نتنة في فمنا من يدعو لحلها يضع جمرة “حمراء، يسارية”، متقدة، مكانها. ولا أعتقد أن مضغ الجمر حل مناسب لمشكلة البصلة.