نشرت مجلة "إيكونوميست" البريطانية تقريرا حول الأزمة الحادة التي تشهدها أسواق المال في الصين في ظل انعدام ثقة المستثمرين والخسائر المالية الهامة التي عانوا منها، على الرغم من محاولات الرئيس شي جين بينغ التعامل مع هذه التحديات من أجل تهدئة التوترات واستعادة الاستقرار الاقتصادي.

وتقول المجلة في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن المستثمرين في الأسهم الصينية عانوا خلال العام المنقضي من التوتر والإحباط، إذ أنه في وقت وصلت فيه قيمة أسهم الشركات الأمريكية المدرجة ضمن مؤشر ستاندرد أند بورز 500 إلى مستويات قياسية، عانت الأسواق في الصين وهونغ كونغ من خسائر بلغت 1.

5 تريليون دولار في شهر كانون الثاني/ يناير فقط.


وتضيف المجلة أن المستثمرين في قطاع البيع بالتجزئة لجؤوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي الصينية للتنفيس عن غضبهم، وقد كانت ردة فعلهم قوية لدرجة أن الرئيس تلقى إحاطة حول هذا الوضع في السادس من شباط/ فبراير، ثم في اليوم التالي قام بإعفاء يي هويمان رئيس الهيئة المنظمة للأوراق المالية في البلاد. هذه الخطوة أدت لتعاف طفيف بعد أن توجهت بعض المؤسسات الحكومية نحو شراء الأسهم، ولكن المشكلة أعمق من ذلك.

إذ تؤكد المجلة أنه لا اختلاف في الوقت الحالي على أن الصورة الكاملة لقطاع المال في الصين تبدو سوداوية، حيث أن القيمة الإجمالية للأسهم في الصين وهونغ كونغ انخفضت بقيمة 7 تريليون دولار مقارنة بما كانت عليه في ذروة ارتفاعها في 2021، وهو ما يمثل هبوطا بنسبة 35 بالمائة، في وقت ارتفعت فيه قيمة الأسهم الأمريكية بنسبة 14 بالمائة والهندية بنسبة 60 بالمائة.

وترى المجلة أن هذا التراجع يؤشر إلى وجود مشكلة عميقة، حيث أن المستثمرين المحليين والأجانب كانوا في الماضي ينظرون إلى الحكومة الصينية على أنها يمكن الوثوق بها لتنظيم القطاع الاقتصادي، ولكن هذه الثقة تآكلت، وستكون لهذا تبعات وخيمة على النمو الاقتصادي.

وتذكر المجلة أنه قبل أقل من عشر سنوات كانت كل المؤشرات في الأسواق الصينية إيجابية، وكان المستثمرون الأجانب يتسابقون للاستفادة من هذا النجم الاقتصادي الصاعد، الذي كان يحقق نسب نمو مستقرة ومبهرة تبلغ ستة بالمائة سنويا. وقد أقبلت الصناديق الاستثمارية الأجنبية خاصة بعد أن منحت تسهيلات للدخول للسوق الصينية عبر هونغ كونغ في 2014.

وكان الانطباع العام في هذه السنوات أنه مهما كانت سياسات الصين، فإن مسؤوليها يمكن الوثوق بهم لتوجيه دفة الاقتصاد نحو الازدهار، وأن هذا البلد سيواصل النمو بمعدلات تثير غيرة المنافسين، وأن مواطنيه سيواصلون وضع الثروة والاستقرار الاقتصادي في مكانة أهم من الحريات السياسية، وأن المستثمرين الأجانب سيواصلون حصد الأرباح، في معادلة يستفيد منها الجميع.



ولكن بحسب المجلة فإن إحدى المشاكل التي أدت لتعكير الأوضاع هي السياسات غير المستقرة للرئيس شي جين بينغ. حيث أنه أطلق حملة تشريعات وقيود ضد قطاع التقنية منذ 2020، تسببت بفقدان ثقة المستثمرين. كما أن فترة مكافحة فيروس كورونا شهدت حالة فوضى وفشل ذريع، وعانت الحكومة من حالة تخبط شديد إزاء أزمة العقارات التي أضرت كثيرا بالمدخرات والموارد المالية، ودفعت الاقتصاد نحو حالة انكماش، لتهوي بالأسعار خلال العام الماضي بأسرع وتيرة منذ الأزمة الاقتصادية بين 2007 و2009.

وتحرص الحكومة على تجنب خلق فقاعة اقتصادية جديدة، ولكنها في نفس الوقت تفضل تجنب سياسة ضخ المساعدات المالية، وتركز بدلا عن ذلك عن حث النمو في القطاعات ذات الجودة العالية التي ستساعد في المنافسة ضد الخصم الأمريكي، وهي بالأساس التكنولوجيا والقدرات العسكرية. ولكن حتى في هذه القطاعات تراجعت الأرباح خلال العام الماضي، ويبدو أن الصين تفتقد للمحفزات الاقتصادية التي تتطلبها المرحلة.

وتنبه المجلة إلى نقطة أخرى لم تحظ بالاهتمام الكافي، وهي أن المستثمر الأجنبي لم يعد منبهرا بالصين كما في الماضي. حيث أنه بات يواجه عقبات لا تقتصر فقط على سياسات الدولة، بل أيضا مخاطر تدهور العلاقة بين الصين والولايات المتحدة، وآثار ذلك على الاستثمارات. وبعد أن كان مدراء المؤسسات الاستثمارية في الماضي مسرورين بإدماج الصين في المؤشرات الاقتصادية الدولية، باتوا الآن يتجنبون التعامل معها، واتجهوا بأنظارهم صوب الهند التي تتميز بثقلها الديمغرافي الكبير، واليابان التي تتميز بتكنولوجياتها فائقة التطور.

ولكن يبقى المؤشر الأكثر إثارة للقلق هو أن المستثمرين المحليين يعانون أيضا من فقدان الثقة، حيث أنهم بعد ثلاثة عقود من النمو القياسي، بات أثرياء الصين قلقين من تراجع ثرواتهم، سواء تعلق الأمر بالعقارات أو الأوراق المالية، وقد انتشرت ظاهرة خفض مرتبات كبار الموظفين في الشركات الصينية، مع وجود أدلة على تدفق المزيد من رأس المال إلى خارج البلاد.

وتنبه المجلة إلى أن كل هذه المؤشرات ستوجه ضربة خطيرة للنمو الاقتصادي في الصين، خاصة وأن الإحصاءات تؤكد أن أقلية محدودة العدد من الصينيين تتمتع بالنفوذ وتمتلك أغلب الأموال، وهو ما يؤدي لخفض القدرة الشرائية لدى عامة الشعب ويجعل اتخاذ قرار الاستثمار مسألة صعبة. وفي وقت بات فيه المستثمرون المحليون في ورطة أمام محدودية خياراتهم بما أنهم لا يسمح لهم بإخراج أموالهم التي كسبوها من الأسهم، فإن الأجانب ليسوا ملزمين بهذه القيود وسيكون من الصعب إقناعهم بالعودة والبقاء في الصين.

وجود هؤلاء المستثمرين الأجانب خلال السنوات الماضية ساهم في تعديل أسعار الأسهم بفضل عامل التأثير الخارجي، كما أنهم ساهموا في ضخ الدعم المالي في مجال البحث والتطوير في الشركات الصينية، وبالتالي فإن مغادرتهم ستؤثر سلبا على الابتكار والتجديد.

وتؤكد المجلة أن الرئيس شي جين بينغ مدرك لوجود مشكلة في الاقتصاد، ولذلك فإنه بالإضافة إلى إعفاء يي هويمان، أمر بفرض قيود على عمليات البيع المكشوف، ووجه تعليمات للصناديق الاستثمارية التابعة للدولة لشراء الأسهم. هذا قد يبعث انتعاشة مؤقتة في أسعار الأسهم، ولكن التدخل الحكومي سيعمق من أزمة الثقة ويؤكد رجاحة موقف المستثمرين الذين غادروا.


وترى المجلة أن الرئيس شي جين بينغ زاد من تعقيد الأمور بسبب الحملة التي استهدفت منتقدي السياسات الاقتصادية في البلاد، والريبة التي يتم بها التعامل مع الشركات الأجنبية، والقيود التي باتت تصعب على المستثمرين الأجانب الحصول على البيانات المالية في الصين.

ولذلك اعتبرت المجلة أن العائق الحقيقي أمام الاقتصاد الصيني هو تصميم الرئيس شي جين بينغ والحزب الشيوعي الحاكم على إحكام السيطرة على هذا القطاع، ومن أجل استعادة ثقة المستثمرين يجب عليهم إعادة التفكير في دور الدولة في الاقتصاد، ولكن في الوقت الحالي لا يبدو أنهم مستعدون لتخفيف قبضتهم المحكمة.


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي اقتصاد اقتصاد دولي اقتصاد عربي اقتصاد دولي الصين الاقتصادي الاستثمارية اقتصاد الصين استثمار المزيد في اقتصاد اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد دولي اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الرئیس شی جین بینغ أن المستثمرین المجلة أن فی الصین حیث أن

إقرأ أيضاً:

لا حق للدول في الوجود ولكن الحق للشعوب

ترجمة: أحمد شافعي -

في واشنطن التي تغلي اليوم بالتناحر الحزبي، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على هذا الأمر في الأقل: لإسرائيل حق في الوجود. وقد تأكد هذا الحق على لسان رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسن وخصمه الديمقراطي زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز وعلى لسان أنطوني بلينكن وزير الخارجية في إدارة بايدن وخلفه الجمهوري ماركو روبيو، وعلى لسان بيت هيجسيث وزير الدفاع الجديد في حكومة ترامب، وزعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر. وفي عام 2023 أكد مجلس النواب حق إسرائيل في الوجود بتصويت 412 في مقابل 1.

وما بهذه الطريقة يكون حديث ساسة واشنطن بعامة عن البلاد الأخرى. فهم في الغالب يبدأون بحقوق الأفراد، ثم يتساءلون عن نصيب دولة معينة من حسن تمثيل الشعب الذي تسيطر عليه. ولو كانت أمريكا تبالي بحياة من يعيشون في ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، لتبين بوضوح أن التساؤل عن حق إسرائيل في الوجود هو السؤال الخاطئ. وخير منه هذا السؤال: هل تحسن إسرائيل، بما هي دولة يهودية، حماية حقوق جميع الأفراد الخاضعين لسيطرتها؟

والإجابة هي لا.

وتأملوا هذا السيناريو: إذا انفصلت أسكتلندا قانونيا، أو أنهى البريطانيون الحكم الملكي، فلن تصبح الممكلة المتحدة مملكة أو متحدة. وسوف تنتهي بريطانيا التي نعرفها من الوجود، وسوف يقبل روبيو وشومر وزملاؤهما هذا التحول ويرونه شرعيا لاعتقادهم أن الدول ينبغي أن تقوم على رضا المحكومين.

وهذه نقطة يؤكدها الزعماء الأمريكيون قطعيا وهم يتناقشون مع أعداء أمريكا. وهم كثيرا ما يدعون إلى أن تُستبدل بأنظمة الحكم القمعية دول تتحقق فيها الأعراف الديمقراطية الليبرالية على نحو أفضل. في عام 2017، ذهب جون بولتن ـ الذي أصبح لاحقا في إدارة ترامب الأولى مستشارا للأمن الوطني ـ إلى أن «سياسة الولايات المتحدة المعلنة ينبغي أن تطيح بنظام الملالي في طهران». وفي 2020، وصف وزير الخارجية مايك بومبيو جمهورية الصين الشعبية بأنها «نظام حكم ماركسي لينيني» وبأنها «ّذات أيديولوجية استبدادية مفلسة». وحثَّ كلا المسؤولين الأمريكيين كلا البلدين لا على استبدال قائد بقائد وحسب، وإنما على تغيير نظاميهما السياسيين، وذلك يعني في جوهره إقامة الدولة من جديد. فيكون معنى ذلك في حالة جمهورية الصين الشعبية ـ الخاضعة لسيطرة الحزب الشيوعي، أو في حالة جمهورية إيران الإسلامية التي تتبع حكما إسلاميا، تغيير اسم البلد الرسمي نفسه على الأرجح.

في 2020، أعلن الوزير بومبيو في خطبة له أن مؤسسي أمريكا كانوا يؤمنون بأن «الحكم يوجد لا لتقليص حقوق الأفراد أو إلغائها وفق أهواء من يتولون السلطة، وإنما يوجد الحكم لضمان هذه الحقوق. فهل يكون للدول التي تنكر على الأفراد حقوقهم «حق وجود» بالشكل الراهن؟ ما يوحي به كلام الوزير بومبيو أن هذا الحق لا يكون لها.

ماذا لو تكلمنا عن إسرائيل بمثل تلك الطريقة؟ قرابة نصف البشر الخاضعين لسيطرة إسرائيل فلسطينيون. وليس بوسع أكثرهم ـ من المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ أن يصبحوا مواطنين في الدولة التي تفرض عليهم سلطة الحياة أو الموت. وقد فرضت إسرائيل هذه السلطة في غزة حتى قبل غزو حماس في السابع من أكتوبر سنة 2023، بل منذ أن سيطرت على المجال الجوي للقطاع، والساحل، والسجل السكاني، وأغلب الممرات البرية، فجعلت من غزة بحسب وصف هيومان رايتس ووتش «سجنا مفتوحا».

وحتى أقلية الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية ممن يحملون المواطنة الإسرائيلية ـ ويوصفون أحيانا بـ’عرب إسرائيل’ ـ تعوزهم المساواة القانونية. فالصندوق الوطني اليهودي، الذي قصر التزاماته على «اليهود» وأكد أنه لا يعمل «من أجل نفع جميع مواطني الدولة»، فيحوز قرابة نصف مقاعد جهاز الدولة المسؤول عن تخصيص أغلب أرض إسرائيل.

في الشهر الماضي، وعد الوزير بلينكن بأن الولايات المتحدة سوف تساعد السوريين على إقامة دولة «احتوائية غير طائفية». بينما إسرائيل الموجودة اليوم فعليا فاشلة في هذا الاختبار.

ومع ذلك، فبالنسبة لأغلب قادة المجتمع اليهودي الأمريكي المنظم، لا مجال للتفكير في بلد احتوائي غير طائفي في هذه الأرض. ولليهود حق الغضب حينما يدعو القادة الإيرانيون إلى محو إسرائيل عن الخريطة. لكن هناك فارق حاسم بين دولة ينتهي وجودها بغزو من جيرانها لها، ودولة ينتهي وجودها بتبنِّيها شكلا في الحكم أكثر تمثيلا.

ولا يكتفي القادة الأمريكيون اليهود بإصرارهم على حق إسرائيل في الوجود، إنما يصرون على حقها في الوجود بوصفها دولة يهودية، ويتشبثون في فكرة أنها يمكن أن تكون يهودية وديمقراطية معا برغم التناقض الأساسي بين التفوق القانوني لمجموعة عرقية دينية ومبدأ المساواة الديمقراطي في ظل القانون.

إن الإيمان بأن لدولة يهودية قيمةً مطلقة ـ بغض النظر عن أثرها على الشعب الذي يعيش فيها ـ مناقض لطريقة الأمريكيين في الحديث عن البلاد الأخرى. وهو مناقض أيضا للتراث اليهودي الذي لا يرى أن للدول حقوقا، بل ينظر إليها في ارتياب عميق. ففي الإنجيل أن شيوخ الإسرائيليين يطلبون من النبي صمويل أن يجعل لهم ملكا يحكمهم. فيأمر الرب صمويل بأن يحقق للشيوخ رغبتهم على أن يحذرهم من أن حاكمهم سوف يرتكب انتهاكات شنيعة. ويقول لهم صمويل إن «يوما سيأتي فيبكون فيه بسبب الملك الذي اختاروه بأنفسهم».

والمعنى واضح، وهو أن الممالك ـ أو الدول بموجب اللغة المحدثة ـ ليست مقدسة. فإن هي إلا أدوات تحمي الحياة أو تدمرها. ولقد كتب الناقد الاجتماعي الإسرائيلي الأورثوذكسي يشعياهو ليبوفيتز سنة 1975 يقول «إنني أنكر بشدة أن تكون للدولة أي قيمة في ذاتها على الإطلاق». ولم يكن ليبوفيتز أناركيا. وبرغم أنه كان يعد نفسه صهيونيا، فقد أصر أن تحاكَم الدول ـ ومنها الدولة اليهودية ـ بناء على معاملتها للبشر الخاضعين لسيطرتها. فلا حق للدول في الوجود وإنما هذا الحق للشعوب.

يخاطر بعض أعظم أبطال الإنجيل ـ ومنهم موسى ومردخاي وغيرهما ـ بحياتهم إذ يرفضون معاملة الحكام الطغاة بوصفهم آلهة. وبرفضهم عبادة سلطة الدولة، فهم يرفضون الوثنية، وذلك الرفض من ركائز الديانة اليهودية حتى لقد وصفه الحبر يوحنان في التلمود بأنه التعريف الجوهري للمؤمن باليهودية.

غير أن هذا الشكل من الوثنية ـ أي عبادة الدولة ـ يبدو اليوم مستشريا في الحياة اليهودية الأمريكية السائدة. وتبجيل أي كيان سياسي أمر خطير. لكنه يصبح خطيرا بصفة خاصة حينما يخص كيانا يصنف بعض الناس باعتبارهم أرقى أو أدنى قانونيا بناء على انتمائهم القبلي. وحينما تصر أهم الجماعات اليهودية الأمريكية ـ شأن الزعماء الأمريكيين ـ مرارا وتكرارا على أن لإسرائيل حقا في الوجود، فهي تقول عمليا إن إسرائيل لا يمكن أن تأتي بعمل ـ مهما بلغ إيذاؤه للشعب الخاضع لسيطرتها ـ فيستوجب إعادة التفكير في طبيعتها كدولة.

ولقد فعلت ذلك حتى حينما تزايدت انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان بصورة صارخة. فعلى مدار قرابة ستة عشر عاما، منذ أن رجع بنيامين نتنياهو إلى السلطة سنة 2009، خضعت إسرائيل لحكم زعماء يتباهون بمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من تأسيس بلدهم، وإجبارهم بالتالي على الحياة بوصفهم (لامواطنين) على الدوام، بلا أي حقوق أساسية في ظل الحكم الإسرائيلي. في عام 2021، اتهمت جماعة حقوق الإنسان الإسرائيلية الكبرى (بيتسليم) إسرائيل بممارسة الفصل العنصري. وأورد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية هجمات للمستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في 2024 تتجاوز هجماتهم في أي عام منذ أن بدأ الرصد قبل قرابة عشرين عاما.

غير أن القادة اليهود الأمريكيين ـ والساسة الأمريكيين ـ مستمرون في إصرارهم على أن التشكيك في شرعية الدولة اليهودية أمر غير مشروع، بل ويندرج في عداد معاداة السامية. وبذلك جعلنا من إسرائيل مذبحا مقدسا. وتحققت مخاوف ليبوفيتز: «عندما تكون أمة وبلد ودولة قيما مطلقة، فأي شيء حينئد يستساغ».

كثيرا ما يقول القادة اليهود الأمريكيون إن وجود دولة يهودية ضروري لحماية حياة اليهود. فلا يمكن أن يأمن اليهود دونما حكم يهودي. وإنني أتفهم ما يجعل كثيرا من اليهود الأمريكيين ـ وهم بصفة عامة يؤمنون أنه لا ينبغي للدول التمييز بناء على الدين أو العرق أو العنصر ـ يستثنون إسرائيل. فذلك ناجم عن آلام تاريخ شعبنا. لكن برغم معاداة السامية العالمية، يبدو أننا معشر يهود الشتات ـ الذين نعلق الأمن على مبدأ المساواة القانونية ـ أشد أمنا من يهود إسرائيل.

وليس هذا من قبيل الصدفة. فالبلاد التي يكون لكل فرد صوت في حكمها تنزع إلى أن تكون أكثر أمنا للجميع. وقد تبين لدراسة أجريت سنة 2020 على مئة وست وأربعين حالة صراع عرقي في العالم منذ الحرب العالمية الثانية أن الجماعات العرقية التي أقصيت من سلطة الدولة كانت أكثر احتمالا بثلاث مرات لأن تحمل السلاح مقارنة بالجماعات الممثلة في الحكم.

ويمكن أن نرى هذه الآلية حتى في إسرائيل نفسها. ففي كل يوم، يضع اليهود الإسرائيليون أنفسهم وهم في أضعف حالاتهم بين أيدي الفلسطينيين، أي على طاولات العمليات. وذلك لأن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يمثلون 20% من أطباء إسرائيل، و30% من ممرضاتها، و60% من صيادلتها.

لماذا يجد اليهود الإسرائيليون أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل أقل خطورة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة؟ يرجع سبب ذلك إلى حد كبير إلى أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل يمكن أن يصوتوا في الانتخابات الإسرائيلية. ولذلك، وبرغم أنهم يواجهون تمييزا شديدا، فإن لديهم على الأقل بعض السبل السلمية والقانونية لإسماع صوتهم. قارنوا ذلك مع الفلسطينيين في غزة، أو في الضفة الغربية، ممن يعدمون سبيلا قانونيا للتأثير على الدولة التي تقصفهم وتسجنهم.

فمن ينكر على شعب حقوقه الأساسية، يعرضه لعنف هائل. وعاجلا أم آجلا، يكون هذه العنف خطرا على الجميع. لقد حدث في عام 1956 أن رأى طف صغير عمره ثلاث سنوات اسمه زياد النخالة جنودا إسرائيليين يقتلون أباه في مدينة خان يونس بقطاع غزة. وبعد قرابة سبعين سنة، يرأس جماعة الجهاد الإسلامي وهي جماعة أصغر من حماس ولكنها تنافسها في التشدد.

وفي السابع من أكتوبر، قتل مقاتلو حماس والجماعة الإسلامية قرابة ألف ومائتي شخص إسرائيلي واختطفوا مائتين وأربعين. وردت إسرائيل على ذلك بمجزرة عبر هجوم على غزة تقدر مجلة لانسيت الطبية البريطانية قتلاه بأكثر من ستين ألفا، ودمرت أغلب مستشفيات القطاع ومدارسه وزراعته. ويمثل دمار غزة دليلا مريعا على فشل إسرائيل في حماية وكرامة جميع البشر الخاضعين لسلطتها.

والفشل في حماية أنفس الفلسطينيين في غزة يمثل في النهاية خطرا على اليهود. ففي هذه الحرب، قتلت إسرائيل في غزة بالفعل أكثر بمائة مرة ممن قتلت في المجزرة التي أودت بحياة والد زياد النخالة. فكم من ولد في الثالثة من العمر الآن سوف يطلب الثأر بعد سبعة عقود من الآن؟

ومثلما حذر عامي أيالون، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) حتى قبل نشوب الحرب الراهنة في غزة بقوله «إننا لو استمررنا في نشر الإذلال واليأس، فسوف تزداد شعبية حماس. وإذا تمكنا من إبعاد حماس عن السلطة، فسوف نواجه القاعدة، وبعد القاعدة داعشا، وبعد داعش ما لا يعلم إلا الله».

ولكن، باسم سلامة اليهود، يبدو أن المنظمات اليهودية الأمريكية تتسامح مع أي شيء تفعله إسرائيل في الفلسطينيين وإن يكن حربا تعتبرها الآن منظمة العفو الدولية إبادة جماعية، شأنها في ذلك شأن عمر بارتوف الباحث البارز في الهولوكوست المولود في إسرائيل. ولكن ما لا يستطيع الزعماء اليهود والسياسيون الأمريكيون أن يقبلوه هو المساواة بين الفلسطينيين واليهود ـ لأن من شأن هذا أن ينتهك حق إسرائيل في الوجود بوصفها دولة يهودية.

بيتر بينارت كتاب الرأي المشاركين نيويورك تايمز وأستاذ في كلية نيومارك للصحافة في جامعة مدينة نيويورك، ومحرر في مجلة (جويش كارنتس)، وكاتب نشرة (بينارت نوتبوك) الأسبوعية.

خدمة نيويورك تايمز

مقالات مشابهة

  • ارتفاع أسعار النفط وسط تقييم الأسواق لتهديد الرئيس الأمريكي
  • الصحفيين والإعلاميين: خلال لقاء محافظ الدقهلية كلنا خلف الرئيس في جميع القرارات السياسية التي تحافظ على الأمن القومي
  • رئيس الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع يتلقى رسالة تهنئة من رئيس الجمهورية التركية السيد رجب طيب أردوغان أكد فيها الرئيس التركي على وقوف بلاده إلى جانب الشعب السوري والارتقاء بالعلاقات الثنائية واللقاء في أقرب وقت
  • الرئيس الفلبيني مخاطبا الصين: أوقفوا العدوان البحري وسوف أعيد الصواريخ لأمريكا
  • الرئيس الألماني يحذر من ارتداد بلاده إلى "عصر مظلم"
  • أبو مازن: نقدر دور الرئيس السيسي ومواقف بلاده الثابتة والرافضة لتهجير الشعب الفلسطيني
  • الرئيس الكينى يشيد بجهود السيسى وقيادته الحكيمة للوضع في غزة وتعزيز استقرار المنطقة
  • لا حق للدول في الوجود ولكن الحق للشعوب
  • ما الأسرار التي يحاول ترامب كشفها حول اغتيال الرئيس جون كينيدي؟
  • الرئيس العراقي يؤكد موقف بلاده الثابت تجاه القضية الفلسطينية