في خلط المفاهيم: العقلانية الديكارتية ومعرفة المفاهيم
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
osmanabdin@gmail.com
بقلم عثمان عابدين عثمان
لازال هناك مفهوم سائد بأن "العقلانية الديكارتية" تمثل مقاربة معرفية تتساوى مع المقاربات التي تعتمد على حقائق الطرق العلمية أو نظريات المعرفة الموضوعية.
أول من قدم مصطلح "العقلنة" كمفهوم يؤطر لطريقة التفكير الإنساني المستقل الذي يقود للتغيير والابتكار والإبداع هو ماكس ويبر، وليس ديكارت، أو سبينوزا، أو لايبنيز.
عند ماكس فيبر اتبع مفهوم العقلنة خط تتطور تماهى لحد ما مع نموذج معرفته في علم الاجتماع والاقتصاد والقانون. في البداية تماشى فيبر مع مفهوم العقلنة الذي مَيَّز طريفة التفكير التي سعت بها بعض المذاهب البروتستانتية إلى "الخلاص من الجزع" بتحقيق مكاسب اقتصادية بطريقة تبتعد عما اعتبره ماركس وإنجليز "دفعات تفكير متكلس من الحسابات الأنانية". ومع أن العقلانية مصطلحًا يحتوي على أجناس ومفضالات اجتماعية ودينية معقدة، سرعان ما تغرب مصطلح "الخلاص من الجزع" عن جذوره الدينية وانتقل نحو مصطلح يشير لنموذج اجتماعي وسياسي رآه ويبر يمثل "سلطة قانونية عقلانية" تطورت فيما بعد لمفهوم أشمل يتعلق بالطابع العلماني والمؤسسي للنظام الاجتماعي والسياسي في نظام الدولة الحديثة.
حَريٌّي عن القول إنه في عصر ما قبل الحداثة كانت السلطة الاجتماعية، أو الأسطورية، أو الدينية، تمثل كُل مصادر المعرفة. فمثلاٌ، في الكثير من نظم العقائد والديانات يكمن مصدر المعرفة في ذات كائن كامل، سامي، سرمدي، بعيد لا يمكن الوصول إلى كنه معرفته إلا من خلال الإيحاء الروحي أو معرفة تعاليم كتابه المقدس. لكن، بعد فشل الإصلاح اللوثري - اللاهوتي في إيجاد حلول للواقع المتكلس اتجهت المجتمعات الأوربية لتعويض فراغ المشاعر الدينة بالانتماء القومي – الشعوبي الذي مهد الطريق لقيام نظام الدولة الحديثة. لكن، مع كل ذلك لم تنجح محاولات فلسفة حركة التغيير في التحرر كليا من قبضة مرجعية الكنيسة وعالم الغيبيات.
نظرية معرفة "التلازم الفطري" أو "الحَدَس" أو "البداهة" استندت على فكرة الوجود المُسْبق للمعرفة كجزء من تركيبة البناء الحيوي للإنسان لكنها المستقلة عن معرفة الحواس، أو على كونها نتيجة لعملية الإيحاء الديني المبني على ’الحِسْ السليم‘. أما المدرسة "العقلانية" فقد اعتبرت معرفة البداهة والحدس أساسا للمعرفة اللاحقة المكتسبة عن طريق الاستنتاج العقلاني الممنهج. في ذلك استندت المدرسة "العقلانية" على فرضية أن محتوى المعرفة اللاحقة المكتسبة يفوق المعلومات الأولية المتوفرة من خلال تجربة الإدراك الحسي على الرغم من الفارق المفاهيمي بين معرفة الحس والحَدَس، إضافة لضبابية تعريفها للاستنتاج العقلاني الممنهج ومفهوم الحِس السليم.
رينيه ديكارت، الفيلسوف وعالم الرياضيات، على الرغم من قوله إن الأشياء تُعرَّف من خلال البداهة والاستنتاج كما ذكر في كتابه "التأمل الثالث: وجود الله" إلا أنه قال "فقط الحَدَس والاستنتاج يمكنهما توفير اليقين المطلوب للمعرفة ..." واسترسل ليقول "أن أفكارنا تأتي من عند الله. فمعرفتنا بتساوي أضلاع المثلث، أو تشعبات المواضيع المعقدة، فهي من العناية الإلهية التي أوجدها الخلق في عقولنا عند لحظة الخلق." "إن تصوري اللامتناهي هو الله، وفي مرحلة ما قبل تصوري للمحدود، هو وجود ذات نفسي." "معرفتي بشكوكي، رغباتي وقصور تحقيقها، انكشاف ذاتي الضعيفة حمالة الخطايا، جعلتني أعرف أن هناك روحا وذات مكتملة المعرفة، منزهة عن النقائص وفوق حدود لمكان والزمان." وهكذا سلك ديكارت طريقا متفرع في بحثه عن اصل المعرفة حاول أن يوفق بين متناقضي المعرفة المسبقة الموجودة كجزء من طبيعة الخلق والمعرفة المكتسبة لاحقا عن طريق التفكير المنطقي.
في كتابه "مقال يتعلق بالفهم الإنساني" لم يدحض جون لوك مقاربة ديكارت الثنائية لطبيعة المعرفة التي تفصل بين عالم المادة والروح وحسب، لكنه ذهب أبعد من ذلك لينفي وجود المعرفة الفطرية أو المسبقة كليا بحكم أنه "لا يمكننا إلا أن نحصل على معرفة لاحقة قائمة على التجارب".
آين راند، الكاتبة الأمريكية، الروسية الأصل، في طريق بحثها عن طبيعة وأصل منظومة "المعرفة الموضوعية" رفضت المنهجين العقلاني والتجريبي باعتبارهما يقدمان بديلان كاذبان. ففي حين يقارب المنهج العقلاني طبيعة المعرفة اللاحقة من غير اعتبار لمعرفة الإدراك الحسي، يؤسس المنهج التجريبي المعرفة اللاحقة على إدراك الحواس لكنه يتجاهل طبيعة معرفة المفاهيم. سطرت راند في كتابها "سطوة الإيمان: طاعون العصر": "أن كل المعرفة هي في الأصل معرفة يتم علاجها بالعقل سواء كان ذلك على صعيد الإدراك الحسي أو اكتساب المفاهيم"، وأضافت "إن أية ادعاء لمعرفة غير ذلك لابد أن يكون مبني على معرفة لا علاقة لها معرفة الحواس".
فالعقل عند جون لوك إذاٌ، هو كما عند أرسطو، تابولا راسا: ورقة بيضاء تكتب فيها المعرفة المستمدة من تجارب الحياة عن طريق الحواس. أما عند راند فالعقل ليس بمقدوره أن يخلق الواقع، لكنه وسيلة لسبر أغواره لاكتشاف القوانين التي تتحكم في صيرورته وتقود للحظة التغيير.
في فضاء حركة الاستنارة المعرفية التي اتسمت برفض التقليد واعتماد النموذج الاِجتماعي السياسي المتمثل في العلمنة والديمقراطية والليبرالية والتقدم العلمي والتكنولوجي كأساس لحاكمية المعرفة والسياسة وعلم الاجتماع على حد سواء، تتداخل مفهومي العقلنة والعلمنة حتى إستحال التفريق بينهما من غير تحديد المنظور الفكري (البراديقمي\النقلة النوعية) الذي يعبر عنهما. لذلك رأينا هنا، من أجل ردم الهوة المصطنعة بين مفهومي العقلنة والعلمنة أن نعرفهما كمصلح واحد متداخل ومتحرك سميناه ’العقلنة-العلمنة‘. فمثلا، في حالة صيرورته الاجتماعية يمكن تعريف مصطلح العقلنة-العلمنة على أنه تعبير عن حوجه المجتمع في اللحاق بعجلة التقدم في العلوم وتطبيقاتها التكنلوجية. أما في حالة صيرورته السياسية فيمكن اعتبار على أنه تعبير عن فكرة الفصل بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وحيادها تجاه الثقافات والمعتقدات. أما في سياق اجتماع – تاريخي أكثر شمولا يمكن تعريف مصطلح العلمنة-العقلنة على أنه العملية الاجتماع – تاريخية التي يفقد من خلالها المجتمع انتماء عقله الجمعي إلى التفسير الغيبي للعالم ويتبني أسلوب الفهم المبني على حقائق العلم والمنطق والتجريب.
في إطار الترابط العلائقي بين مفاهيم الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة والمشاركة الجماهيرية الفاعلة ذات الطبيعة الشعوبية، يمكن تعريف العقلنة-العلمنة على أنها العلمية السياس-اجتماعية التي تخرج فردها من دائرة التنميط الثقافي الضيق وتحرره من قيود الإتساق والتجانس الإجتماعي اللصيق وتزوده بعقل حر ومنفتح علي الرأي الأخر ومُتَفهِّم ومُتَقبِّل للإختلاف والتنوع، أو "تحرر العالم من الوهم" كما أسماه ماكس ويبر.
نحن كبشر، في صغرنا، نعتمد كُليّاً على حواسنا من أجل البقاء، وكلما نمت ونضجت خلايا دماغنا - قرصنا الصلب، أصبحت لدينا القدرة على تخزين المعلومات واكتساب قدرة التفكير المنطقي والمجرد. في البداية نتعرف على العالم من خلال إدراكنا الحسي، ومن بعد ذلك نطور تلك المعرفة من خلال عملية بناء جمل مفيدة نخضعها لقواعد النحو والضبط اللغوي ثم نركب تلك الجمل في مبادئ وتعميمات عامة نسترشد بها في سلوكنا الحياتي وأحكامنا الأخلاقية، أو استنتاجات و فرضيات تتناسق مع أدوات المنطق وأدوات التجريب العلمي نحيلها لتطبيقات عملية تساهم في رفاهية وسعادة الإنسان.
الفوارق البيولوجية وجودة اتساق وترتيب ملفات المفاهيم المُخَزنة في أدمغتنا هي التي تحدد التمايز في قدرات ’البناء المعرفي‘. لكن هذا ’التمايز المعرفي‘ سماته التغيير وعدم الثبوت، لذلك يتطلب حالة من الصحيان والتأهب الذهني حتى لا يكون عرضة لقرصنة المفاهيم الخاطئة وغزوات ’أفكار طروادة‘ إذا أردنا لمعرفتنا أن تكون معرفة حقيقة تفيد الأنسان في حياته.
وهكذا نبني معرفتنا الدنيوية المكتسبة، معرفة المفاهيم - معرفة الأفكار. فأفكارنا هي جوهر وجودنا الواعي وفي ذلك لا ينقصنا شيء، فنحن كبشر لدينا كل شيء: غريزة البقاء، معرفة الإدراك الحسي، معرفة المفاهيم، ملكة التفكير المجرد والافتراضي، وفوق ذلك الإرادة الحرة: القدرة على التمييز بين الصالح والطالح واتخاذ الخيارات الأخلاقية الصحيحة.
لكل ذلك، مثلت عندنا نظرية المعرفة العقلانية وعملية "الشك الممنهج" في التفكير عند ديكارت، تعبيراً عن سطوة الوازع الديني وتنازعه بين اليقين والتسليم وحقائق الواقع القلق والمتغير باستمرار. وفي ذلك لم تختلف عقلانية ديكارت عن عقلانية باروخ سبينوز الذي رفض القانون اليهودي الذي فرض الدين على الحياة بحجة أن البشر يمتلكون إحساس فطري من الأخلاق يتفوق على القوانين الدينية.
عثمان عابدين عثماند
osmanabdin@gmail.com
10.02.2024
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق المؤتمر العالمي لطب الأعصاب
برعاية صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز أمير المنطقة الشرقية، افتتح رئيس جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل المكلف الدكتور فهد الحربي، اليوم، المؤتمر العالمي لطب الأعصاب والمعرض المصاحب، الذي ينظمه قسم طب الأعصاب بكلية الطب ومستشفى الملك فهد الجامعي، بمشاركة أكثر من 350 مختصًا، وذلك بفندق المريديان بالخبر.
وأوضح الدكتور الحربي، أن المؤتمر الذي يستمر يومين، يهدف إلى تعزيز الابتكار والتميز في طب الأعصاب من خلال تقديم جلسات علمية وورش عمل لتبادل المعرفة حول أحدث التطورات في المجال، منوهًا بدعم القيادة الرشيدة -حفظهما والله- للبحث العلمي والابتكار، مؤكدًا دور الجامعة في تطوير القطاع الطبي والصحي من خلال الشراكات الأكاديمية.
وبين أن علم الأعصاب يُعد من أعقد وأهم فروع الطب، وله دور حيوي في فهم وعلاج الأمراض العصبية، ومع التطور التكنولوجي السريع والابتكارات الطبية، تقع على عاتق العلماء والأطباء مسؤولية تسخير هذه المعرفة لخدمة الإنسانية، وتوفير منصات لتبادل الأفكار بين الخبراء بما قد يسهم في اكتشافات طبية جديدة تحدث تغييرًا إيجابيًا.
9
وعدّ رئيس الجامعة المؤتمر فرصة لتسليط الضوء على الابتكار وتطوير الأنظمة الصحية، وتعزيز الحلول التقنية لدعم القطاع الصحي، وكجزء من مبادرات الجامعة لتعزيز الوعي بالابتكار، وبناء شراكات أكاديمية وطبية لتوسيع الفائدة العلمية، متمنيًا للجميع التوفيق لتحقيق أثر إيجابي مستدام.
من جانبها لفتت رئيسة قسم طب الأعصاب الدكتورة دانة الجعفري، إلى أن المؤتمر يتناول أحدث التطورات والابتكارات في هذا المجال الحيوي من خلال جلسات علمية وورش عمل تفاعلية، مما يوفر فرصة قيمة لتبادل المعرفة والخبرات، مؤكدة سعي القسم لمواكبة التطورات العالمية في طب الأعصاب وحصوله على الاعتراف الكندي لزمالة طب الأعصاب عام 2022.
فيما كرّم رئيس الجامعة الأبحاث العلمية الفائزة بالمؤتمر، حيث نال بحث “التصوير بالرنين المغناطيسي لعلاج أورام الدماغ” المركز الأول، بينما حصل بحث تأثير النشاط الإثاري على إعادة تشكيل القشرة والتعافي الوظيفي بعد السكتة الدماغية الإقفارية على المركز الثاني
9