فرنسا غابرييل أتال وقيم الجمهورية في اختبار الضواحي
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
قبل دخول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون قصر الإليزيه، كشفت دراسات ميدانية أجراها معهد "مونتين" أن نسبة المقاطعة من جانب الناخبين في الضواحي الفقيرة للانتخابات الرئاسية عام 2017 بلغت 48% مقابل 29% في عموم البلاد.
واعتُبرت تلك النسبة انعكاسا طبيعيا لأزمة ثقة عميقة في تلك المناطق إزاء السلطة، وذلك بسبب فشل السياسات المتعاقبة تجاه الأغلبية المنحدرة من أصول مهاجرة في تلك الأحياء.
وينتظر الفرنسيون كيف سيتم التعامل مع هذه المعضلة، بعد صعود أصغر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية، غابرييل أتال الذي يحمل أصولا مهاجرة، وينظر له كأحد أكثر المقربين إلى الرئيس ماكرون وحامل لوائه.
سياسات يمينيةقبل دخوله الإليزيه، كان أتال قد عرض بالفعل في وزارة التربية خططا إصلاحية تحت يافطة "الحد من الهوة الاجتماعية" في المؤسسات التربوية، بأن عرض إعادة اللباس الرسمي المدرسي، على أن يخضع هذا الإجراء لفترة تجربة في نحو 500 مدرسة متطوعة، لاختبار أثره في نجاح الموسم الدراسي.
لكن في نظر المراقبين فإن الاختبار الأكثر تعقيدا أمام أتال سيكون مرتبطا بمدى قدرته على تبديد الفوارق الفجة بين الأوضاع الاجتماعية في الضواحي وباقي المناطق في فرنسا.
وفي حين كان يتوقع من رئيس الوزراء أن يمنح جرعة إنعاش لشعارات اليسار وقيمه، فإن خطابه للسياسة العامة لم يخل من إيماءات لليمين إلى حد التحدث بمفرداته.
ومن ذلك حديثه بشأن الدفاع عن "الهوية والكبرياء الفرنسي" وتدابير أوسع لضبط النظام و"احتواء الشباب الضائع" بل زاد في الحديث عن "الشذوذ" بأنه أحد معايير التغيير بأعلى جهاز حكومي بفرنسا 2024.
وبعد خطوة إصلاح تأمين العمل -وهو من بين الاصلاحات الاجتماعية التي تم اقرارها نهاية 2021، وقد تضمن تشديدا للقيود على الانتفاع بتعويضات الباحثين عن العمل والعاطلين- يريد أتال الذهاب إلى أبعد من ذلك وهو مراجعة عملية احتساب منح البطالة للباحثين عن عمل، حيث أصبح المستفيدون من المنح الاجتماعية ملزمين بالنشاط المهني وتلقي تكوين لمدة لا تقل عن معدل 15 ساعة في الأسبوع.
وأطلقت الحكومة بالفعل مع بداية 2024 منصة لتسجيل المستفيدين من هذه المنح، وربطها بالشروط الجديدة. وبالتالي لن يكون تلقي العاطلين والباحثين عن العمل للمنح الاجتماعية آليا، ولكن وفق شكل تعاقدي جديد مع الدولة، وهو مطلب كثيرا ما سوق له تيار اليمين في السابق.
وتقول الحكومة إن الهدف من هذه الخطوة هو التمهيد لإعادة الإدماج في سوق العمل، وذلك لأن المنح الاجتماعية لن تكون كافية لأن يعيش الفرد خارج دائرة الاحتياج.
ولكن عمليا ينظر إلى هذا الإجراء على أنه ضربة موجهة إلى الأحياء الفقيرة بالضواحي أو "الأحياء ذات الأولوية" كما يطلق عليها، لجهة أن ربع هذه المناطق تستفيد من دخل "التضامن الاجتماعي النشط" هو تقريبا ضعف المعدل في باقي البلاد.
فوارق كبيرةولا يرتبط الأمر فقط بانحسار الفرص في سوق العمل، ولكن هذه المناطق تعاني أصلا من فوارق متفشية في نسب الدخل مقارنة بباقي المناطق في فرنسا.
وتصف منصة "ستاتيستا" الفرنسية للإحصائيات الضواحيَ كشرخ اجتماعي ومرآة لغياب العدالة الاجتماعية.
وتعكس بياناتها المجمعة الهوة الواضحة في مستوى معدل الدخل البالغ 1168 يورو للفرد بالضواحي مقابل 1822 على المستوى الوطني، وفي مستوى نسبة الفقر بأكثر من 43% بالضواحي مقابل 15% على المستوى الوطني، وأيضا فيما يرتبط بنسبة البطالة البالغة أكثر من 18% بالضواحي مقابل 7% على المستوى الوطني.
ويقول ميشال كوكوريف الباحث في علم الاجتماع جامعة باريس لشبكة "أورونيوز" إن هناك نوعا من الحاجز العنصري في فرنسا "على الرغم من سمعتها كدولة حقوق الإنسان ومهد إعلان حقوق الإنسان وسيادة القانون والديمقراطية وما إلى ذلك".
ويضرب كوكوريف مثالا على ذلك في تعليقه "في الواقع، لا يزال العثور على وظيفة عندما يكون اسمك بوبكر، أو من أصل مالي، أكثر تعقيدا بكثير مما لو كان اسمك برنارد ووالداك مولودان في بريتاني (منطقة شمال غرب فرنسا). إنه بلد المساواة على الورق، وعدم المساواة والظلم في الواقع".
مؤشرات اجتماعية
بموازاة التغييرات على الجهاز الحكومي والسياسات المعلنة مع رئيس الوزراء الجديد، لم تتأخر المؤسسات الرسمية في طرح المؤشرات الاجتماعية التي تشمل بشكل خاص الوضع بالضواحي.
وتفيد بيانات جهاز الإحصاء التابع لوزارة الداخلية إلى ارتفاع في جميع أنواع الجرائم والجنح المرتكبة في البلاد عام 2023.
فقد زادت جرائم الاعتداء بالضرب بنسبة 7%، وجرائم الاغتصاب ومحاولات الاغتصاب بنحو 10%، بينما استمرت جرائم القتل ومحاولات القتل في صعود منذ 2020، حيث تخطى عدد ضحايا هذه الجرائم الألف العام الماضي، بينما تعرض أكثر من 4 آلاف شخص لمحاولات قتل.
ومع أن جرائم السرقة والعنف الجنسي بوسائل النقل العام تراجعت عام 2023، فإن الداخلية لفتت إلى أن غالبية مرتكبي هذه الجرائم في سن يتراوح بين 15 و24 عاما.
وبموازاة ذلك، تضاعفت السرقات المستهدفة للمؤسسات الصناعية والتجارية 3 مرات، وارتفعت حالات سرقة السيارات بــ27 %.
هاجس الضواحيويظل الهاجس الأكبر للسلطات الفرنسية هو الوضع بالضواحي الذي يمثل أكبر تحد لرئيس الوزراء الجديد.
وبالعودة للأحداث التي أعقبت مقتل الشاب من أصول جزائرية ناهيل برصاص شرطي في مدينة نانتير، فإن أعمال الشغب والتخريب المتعمد من قبل المحتجين الغاضبين من شباب الضواحي زادت بنسبة 140% الفترة الفاصلة بين يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2023 مقارنة بنفس الفترة العام السابق.
ودفعت هذه الاحتجاجات السلطات إلى تعبئة حوالي 45 ألف عنصر من الدرك لضبط النظام.
ويخشى أن تكون هذه المؤشرات لوزارة الداخلية مقدمة لسياسة أكثر تطرفا تجاه ما يفوق 5.2 ملايين نسمة من سكان الضواحي الفقيرة، ولمزيد من القيود على المهاجرين بشكل عام، تحت ضغط اليمين المتطرف.
صب الزيت على النار
وفي حديثه مع الجزيرة نت، أوضح عبد المجيد مراري المحامي المتخصص في القانون الدولي ومدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة "إفدي" لحقوق الإنسان في باريس أن تعيين أتال لا يبعث برسالة طمأنة لهذه المناطق، ولا يؤشر على رغبة الحكومة في المصالحة مع جزء من الشعب الفرنسي، حتى وإن كانت أصوله من المهاجرين ولكنهم مواطنون فاعلون في عدة قطاعات حيوية ومراكز عليا في البلاد".
ولم يتردد هذا الحقوقي في وصف ذلك التعيين بمثابة "صب الزيت على النار".
ويستدل مراري على ذلك بمواقف أتال المتشددة في ملفات الهجرة والأقلية المسلمة بجانب خطوات اتخذها لإصلاح قطاع التعليم ومن بينها مشروع حظر العباءة في المدارس بدعوى "حماية العلمانية".
ويقول للجزيرة نت "أثبتت هذه الإصلاحات إفلاسها. بدليل الاضرابات المتتالية في القطاع مما يعكس استمرار الأزمة. كما أن مواقفه المعلنة في منصبه الجديد يمكن أن تشعل حربا اجتماعية".
وتعهد أتال -في إعلانه للسياسة العامة- بتطبيق السلطة "في كل مكان، في الصف والعائلة والشوارع" كما أعلن اعتزامه إقرار نظام عقوبات تعليمية موجهة ضد القصر من ذوي السوابق، تكون بمثابة المشاركة في القيام بـ"خدمات" للمجتمع كما ستكون هناك خطوة مماثلة تجاه آباء القصر "الذين تهربوا من التزاماتهم".
ويعود مراري بالنظر إلى هذه الإصلاحات والخطط على أنه امتداد للسياسات اليمينية التي طبعت مشروع إصلاح قانون الهجرة، مؤكدا أن "الإصلاحات في مشروع قانون الهجرة أثبتت أنها لا تتماشى مع الدستور وقيم الجمهورية. وهي لن تحل مشاكل الفرنسيين".
ومع أن المجلس الدستوري أبدى بالفعل تحفظه على نحو ثلث المادة بمشروع قانون الهجرة المثير للجدل، فإن حكومة أتال على الأرجح ستمضي قدما في خطط خفض التعويض لمنح البطالة والمساعدات الاجتماعية ومراجعة حقوق التغطية الصحية.
نوايا إصلاح
ولا تتوافق هذه الخطط مع نوايا الحكومة المعلنة منذ سنوات لتخصيص استثمارات تصل إلى 12 مليار يورو حتى العام 2030، لتحسين مستوى الحياة في الضواحي.
وبهذا الصدد، يقول مدير المركز العربي للدراسات الغربية في باريس أحمد الشيخ -للجزيرة نت- إن "أخطر ما في قانون الهجرة أنه يأخذ المجتمع الفرنسي بعيدا عن مشاكله الحقيقية وعن التفكير في طرق حلها، وهذا القانون وغيره مرتبط بالصراع السياسي".
ويتابع الشيخ في ملاحظته "يتم توظيف مشاكل الهجرة واستخدامها لأغراض تتجاوز مشكلة الهجرة والمهاجرين الذين هم في النهاية كبش فداء مرتين، الأولى عندما هجروا أوطانهم تحت ضغط أنظمة استبدادية مدعومة من الدول الأوروبية، والمرة ثانية عند استخدامهم للتغطية على المشاكل الحقيقية التي تعصف بالمجتمع الفرنسي والأوروبي والتي تجعله يبتعد تدريجيا عن قيم الحرية والمساواة والإخاء وعن حقوق الإنسان، بل وعن العقلانية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حقوق الإنسان قانون الهجرة
إقرأ أيضاً:
الطمع بطل الدراما الكلاسيكية الاجتماعية عابر سبيل
تنجح الدراما الاجتماعية دائما في تقديم صورة قريبة من المجتمع، بشكلها الذي يدخل كل بيت، بالأسلوب في الطرح، والقصة التي تعرض الواقع، وبساطة أداء الممثلين، ولكن ما يشكل الفارق فقط هو عناصر الجذب في التصوير والإخراج، وسير الأحداث وصولا إلى الحبكة.
ولعل مسلسل "عابر سبيل" واحد من تلك الأعمال، التي قد جذبت المشاهد الخليجي لها منذ أول وهلة، لا سيما أنه يركز على قضايا فئة "ذوي الهمم"، حيث تأتي قصة المسلسل حول شاب من ذوي الهمم "أيوب" يؤدي دوره الممثل عبدالله بو شهري، يتزوج من امرأة من نفس الفئة تدعى "حبيبة" تؤدي دورها ليلى عبداللخ، ينجبان طفل سليم، ويدخلان في خضم مشاكل عديدة في المجتمع نتيجة نقص قدرتهما على التفكير، وحملهما شهادة معاملة طفل، ولكنهما أيضا يخوضان في الحياة الطبيعية التي يعيشها أفراد المجتمع، ليؤمنا لابنهما الحياة الكريمة.
أهم ما يركز عليه المسلسل هو وجود الصراع الدائم بين أفراد الأسرة الواحدة حين يدخل الطمع شريكا في حياتهم، وهو الدافع الأول لقتل الأخ لأخيه، بعد أن بدأ المشهد الأول في المسلسل بحرق "عابر" والذي يؤدي دوره عبدالمحسن النمر، لمصنع أخيه "جان" الذي يؤدي دوره أيضا عبدالله بو شهري، ووفاته في الحادثة تلك، مخلفا ابنه "أيوب" الذي يعيش برفقة والدته "صباح" التي تؤدي دورها الممثلة المصرية وفاء عامر، وزوج والدته الذي يؤدي دوره عبدالله ملك، وأبنائه "هند وأحمد".
الصراع بين أفراد العائلة قائم على رغبة حصول عابر على المال، متحججا بابن أخيه الذي يتكفل هو بتولي أمره، ويؤثر عليه للضغط على والدته لبيع بيت العائلة والذي يسعى لإثبات ملكيته لابن جان الوحيد، ومع الدخول في صراعات ورفع قضايا في المحكمة، إلا أنه يتبين أن صباح أخذت ملكية البيت و"الحوطة" لتثير جنون "عابر" ويبدأ يحيك الحيل للإيقاع بها.
الشكل الفني الكلاسيكي ..
العمل رغم أنه يضيع وسط زحمة الأعمال الدرامية في موسم رمضان، إلا أنه يستطيع من بداية حلقاته أن يثير المشاهد لمتابعته، لا سيما أن يحمل قالب الدراما في بداية الألفية، محافظا على الشكل الفني الكلاسيكي، فرغم أنه لا يحوي على قصة جديدة، إلا أنه يشدك للمتابعة، ويمتعك في تتبع سير الأحداث التي تتسارع بشكل منتظم وسليم، والامتاع الأكبر في العمل هو أداء النجوم، لا سيما الأداء المعتاد للممثل عبدالمحسن النمر، الذي يتقن أداء أدواره لاسيما اعتماده في بعض الأحيان على العفوية والارتجالية الواضحة، إضافة إلى اتقان أداء وفاء عامر لدورها رغم أنها تقدم شخصيتها لامرأة مصرية تعيش وسط مجتمع خليجي، وسندها الوحيد هو زوجها وابناؤها.
ويفتقد المشاهد الخليجي مؤخرا الأعمال الدرامية التي تعتمد على البساطة، والسلاسة في سير الأحداث، حيث أن العمل الدرامي الخليجي في المجمل أصبح يبحث في إمكانية الخروج عن المألوف - الفكرة خارج الصندوق كما يطلق عليها دائما- إلا أنها ليست مجدية دوما في تقديم مادة درامية سليمة للمجتمع الخليجي الذي يراعي كثيرا من المعايير في متابعة الأعمال الدرامية الاجتماعية.
كما أن اللافت في مسلسل "عابر سبيل" هو مقدرة عبدالله بو شهري على تقمص دور شخص من ذوي الهمم، ورغم أنه يقدم شخصية مركبة في العمل، ولكن "كاركتر" شخصية أيوب كانت الأنجح، بكل تعابير الوجه والجسد، وردات الفعل، وطبقات الصوت، وشكل "الكاركتر" الملفت للانتباه لا سيما لشخص مثل عبدالله بو شهري الذي طالما كان لا يخرج من إطار دور الرومنسي في معظم بطولة أعماله، إضافة إلى شخصية "حبيبة" التي تؤديها ليلى عبدالله أيضا بأسلوب جيد، وربما ساعدت في تعزيز شخصية "أيوب".
يمكن الإشادة في العمل بقصة المؤلف البحريني علي شمس، والذي سبق أن كتب أعمالا ناجحة كمسلسل "أم هارون"، و"مارغريت"، وشارك شجون الهاجري في كتابة مسلسل "عذاري"، إلى جانب أداء المخرج البحريني حسين الحليبي في سير العمل وتصاعد الأحداث برؤية إخراجية محكمة، رغم أنه قد يواجه في بعض الأحيان الشعور بملل في المشاهدة، وعدم الانتقال السليم بين المشاهد، إضافة إلى بعض المبالغات في ردات الفعل تجاه بعض المواقف.