أكد الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي، اليوم الأحد، ما يحصل في غزة اليوم هو جريمة بحق البشرية والداعم للكيان المجرم هو أمريكا وبعض الدول الغربية.

وفي كلمة له خلال المظاهرات التي شهدتها العاصمة الإيرانية إحياء للذكرى الـ45 الانتصار الثورة الإسلامية، شدد السيد رئيسي على أنه يجب أن يتوقف القصف على غزة وليعلم العالم أن الكيان زائل وموته حتمي واليوم هو يكسب الوقت فقط.

واعتبر أن الجرائم الحربية والمجازر التي تحصل في غزة تكشف الكيان الصهيوني والدول الغربية على حقيقتها، داعيا إلى طرد الكيان الصهيوني من الأمم المتحدة وقطع جميع العلاقات الاقتصادية معه.

وأشار إلى أن الغرب حاول منعنا من دعم القضية الفلسطينية واليوم وبعد 45 سنة من انتصار ثورتنا لازال مطلبنا هو تحرير القدس ودعم فلسطين.

وقال: الشعب الإيراني قرر أن يكون لبلده عزة وسلطة واليوم في الذكرى الـ 45 لانتصار الثورة نؤكد أن السلطة لله، مضيفا أن قائد الثورة والقادة الشهداء والحاج قاسم سليماني علمونا أننا نستطيع تطوير بلادنا وسنتخذ خطوات كبيرة في هذا الإطار.

يتبع..

المصدر: يمانيون

إقرأ أيضاً:

فلسطين والنِّكروبوليتيكس: هل يملك أحد الحق في قتلنا؟

"اللي جنبي ميتين.. الدبابة جنبي.. خليكي معي أمانة.. تعالي خديني.. أمانة كتير خايفة.. رِنِّي على حد ياخدني".

لم تكن استغاثات الطفلة هند رجب ذات الأعوام الست، التي كانت آخر من قُتل من ركاب سيارة مدنية تقلّها هي وأقارب لها، لتقلق حكومات العالم الحر أو تدفعهم إلى إدانة العدوان الإسرائيلي، الذي قَتلَ زهاء ستة عشر ألف طفل حتى اللحظة، على العكس مما وقع عندما قتلت مُسَيَّرة إسرائيلية ستة أعضاء من نشطاء منظمة المطبخ المركزي العالمي، حيث واجهت إسرائيل موجة انتقادات وإدانات عارمة من حكومات ومؤسسات الدول الغربية، وأخذت وسائل الإعلام تنقل حكايات الضحايا الأجانب، وشهد الداخل المُحتل جدلا وانتقادات واسعة داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، لم تنلها قبل ذلك بعدة أشهر حين وقعت واحدة من أسوأ المذابح في تاريخ غزة.

ففي ساعات الليل الأولى من مساء 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى الأهلي العربي في غزة، المعروف بالمستشفى المعمداني، فأردت أكثر من ألف مدني فلسطيني بين شهيد وجريح. وقبلها بساعات كان الاحتلال قد قصف مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، فاستُشهِد العشرات جراء الهجوم، وفي ذلك اليوم بالتحديد تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين 3000 شهيد. وفي أثناء كتابة هذه السطور، بلغ عدد الشهداء منذ بدء القصف والعدوان الإسرائيلي زهاء 38 ألفا استُشهِدوا على مدار أكثر من 270 يوما من الإبادة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ثورتنا العلمية في مهب الريح.. هل نحن في حاجة إلى فيزياء كونية جديدة؟list 2 of 2أميركا والصين تستعدان لحرب كبرى تستمر لسنوات.. فلمن ستكون الغلبة؟end of list

لكنك عندما تسمع وتشاهد تعليقات المسؤولين الغربيين حول واقعة المستشفى المعمداني، ستشعر بالغضب والتساؤل، إذ إنهم أرادوا تحميل المقاومة مسؤولية قصف المستشفى حينها. وليس هذا فحسب، بل ونُظِر إلى الضحايا على أنهم مجرد أرقام يمكن التشكيك فيها، وهو ما صرح به الرئيس الأميركي جو بايدن عندما سأله أحد الصحفيين عما تعتزم حكومته القيام به لتقليل أعداد الضحايا المدنيين في غزة، فأجاب رافضا فكرة إمكانية الوثوق في أرقام الضحايا المُعلنة، وقال: "ليس لديّ أي فكرة عما إذا كان الفلسطينيون يقولون الحقيقة بشأن عدد القتلى". الضحايا هنا ليسوا نظراء لضحايا نشطاء المطبخ المركزي العالمي إذن، فقد بادر بايدن بتقديم العزاء لأسر الضحايا الست، وعبَّر عن استيائه مما جرى بقوله: "إن الصراع في غزة أصبح من أكثر الصراعات دموية بالنسبة لعمال الإغاثة"، كما اعتبرت إسرائيل نفسها الحادث مأساويا ولم تُحمِّل حماس المسؤولية هذه المرة.

جثث الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا في غارة إسرائيلية على رفح جنوب قطاع غزة (رويترز)

يمكننا أن نفهم سر هذا التجاهل الغريب للضحايا الفلسطينيين في الوقت الذي يُدان فيه مقتل النشطاء الأجانب في ضوء ما قاله أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بيتر جران حين سعى إلى فهم سبب تجاهل التاريخ المحلي المصري في كتابات المؤرخين الأجانب. وقد اعتبر جران أن الباحثين الإنجليز والأميركيين كان لهم الدور الأبرز في عملية إخفاء تاريخ السكان المحليين في البلد، وفسَّر ذلك بالرجوع إلى الخلفية الثقافية والحضارية للباحثين، حيث إن الحضارة الغربية هي نتاج عملية التخلُّص من الأضعف. ويقارب جران بين سِفر الخروج (Book of Exodus) وما جرى أثناء بناء الحضارة الغربية، التي صارت ثقافتها تقوم على مركزية الرجل الأبيض، حيث تقوم جماعته بالتخلص من بعض الناس (وإن كانوا طيبين)، لأنهم وقفوا على الجانب الخاطئ من وجهة نظره، ومن ثمَّ فإن عملية إبادتهم ليست ذنبا يُلام عليه الرجل الأبيض.

وبالمثل فإن الخلفية الثقافية والحضارية لصانعي السياسة الغربيين تجعلهم لا يبالون بموت عشرات الآلاف من الفلسطينيين ويعتبرونهم مجرد أرقام، وعندئذ نفهم لماذا نُقتل دون أن يحرك المجتمع الدولي المزعوم ساكنا. وهكذا بينما يتواصل العنف غير المسبوق تجاه الفلسطينيين، بحيث لم يعد هناك مكان واحد آمن لهم في غزة أو الضفة الغربية، فإن ثمة من يسعى جادا لمنح غطاء من الشرعية لعمليات التنكيل والإبادة.

لقد صار جليًّا أن إسرائيل لا تحتل الأرض والموارد فحسب، بل "إنها تحتل أجساد الفلسطينيين" على حد وصف الباحثة الأُسترالية ميرام ديبريز، التي تقول إن الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على بناء وتشكيل بيئة عنف بصري وجسدي وفرضها على الفلسطينيين طوال الوقت في حياتهم اليومية، ويعتبرها ضرورة لاستدامة سيطرته على الأرض والأجساد معا. فبجانب القصف والجحيم العشوائي اليومي والخراب العمراني الذي طال أغلب منشآت ومساكن القطاع، نقلت شبكة "سي إن إن" عن أحد الخبراء السابقين بوزارة الدفاع الأميركية قوله إن "هذا الحجم من القصف لم يحدث منذ حرب فيتنام". وكانت منظمة اليونيسيف قد أكدت "تعرُّض كل طفل في قطاع غزة تقريبا لأحداث وصدمات مؤلمة للغاية، اتسمت بالدمار الواسع النطاق، والهجمات المتواصلة، والنزوح، والنقص الحاد في الضروريات الأساسية مثل الغذاء والماء والدواء".

هناك إذن حالة من احتكار قوة القتل والإعاقة، أو ما يُسمَّى "Necro Power"، بلا حساب أو محاكمة أو حتى إدانة. ولا تزال أصوات الجنوب العالمي تتعالى مدافعة عن حقوق وكرامة الشعب الفلسطيني، وأحد هؤلاء هو المؤرخ وأستاذ السياسة الكاميروني "أشيل إمبيمبي" (Achille Mbembe) الذي يعمل بجامعة "ويتواترسراند" (Witwatersrand) في مدينة جوهانسبرغ بدولة جنوب أفريقيا، وهو أحد الباحثين في نظرية ما بعد الاستعمار، وله السبق في ابتكار مفهوم "النِّكروبوليتيكس" (Necropolitics)، وهو مفهوم لم يجد سبيله إلى الترجمة العربية بعد. وينقسم المصطلح إلى مقطعين هما "Necro" وهو استعارة من علم دراسة الموت تشير إلى التغيرات الفسيولوجية التي تمر بالجسد الميت قبل أو بعد موته، و"Politics" الذي يعنى السياسة كما هو معروف.

يتعمد الاحتلال التقليل من قيمة حياة الموتى، والتطبيع مع موتهم، بل واعتبار القضاء عليهم قيمة جيدة (الأناضول)

ويرجع الفضل لإمبيمبي في صك المفهوم حين استخدمه عام 2003 في دراسته عن ما بعد الاستعمار، التي نشرت لاحقا كتابا مستقلا، ويمكن ترجمة المفهوم إلى "سياسة أو سلطة القتل والإماتة"، وكان إمبيمبي يعني به الأسلحة والتقنيات التي تُستخدم في العالم المعاصر من أجل تحقيق أعلى معدلات لتدمير الناس، ومن ثم إيجاد مساحات أو عوالم مكانية للموت، أي أن المفهوم يشير إلى تعمُّد إيجاد أدوات جديدة لخلق واقع اجتماعي تكون فيه قطاعات واسعة من السكان خاضعة لظروف قهرية تمنحهم صفة "الأحياء الأموات".

يتقارب مفهوم النِّكروبوليتيكس أو سياسة حق الإماتة مع مفهوم السياسة الحيوية عند المفكر الفرنسي فوكو (Bio politics)، الذي استخدمه لتشخيص استعمال القوة الاجتماعية والسياسية من أجل السيطرة على حياة الناس، واستخدام التدخلات الحكومية والأجهزة البيروقراطية لتنظيم حركة وحرية الأجساد. ولكن النِّكروبوليتيكس يُستخدم بشكل مختلف للإشارة إلى كيفية التحكم في المكان والسكان عن طريق الإرهاب، حيث يتم التقليل من قيمة حياة الموتى، والتطبيع مع موتهم، بل واعتبار القضاء عليهم قيمة جيدة.

ويرفض إمبيمبي وجود تشابه بين مفهومه عن النِّكروبوليتيكس ومفهوم السياسة الحيوية عند فوكو، حيث يعتبر أن إسهامات فوكو جزء من تراث الحداثة التي نبذت فكرة العنف المباشر على السكان كما يُفترض ثم لجأت إلى سلطات غير مباشرة لتحقيق هدفها. وقد سكَّ فوكو مفهوم السياسة الحيوية عندما كان منشغلا بالكيفية التي تُنتج بها الأجساد الطيعة (Docile Bodies) بتنظيم الأفراد في ممارسات من المراقبة. ووفقا لمبيمبي، فإن فكرة فوكو عن السلطة الحيوية غير كافية لتفسير الأشكال الحديثة من القهر؛ فهي لا تأخذ في الاعتبار استمرار تقنيات وسياسة احتكار تقرير موت الناس أو حياتهم بطريق العنف الموضوعي، وليس الرمزي فحسب.

ويؤكد إمبيمبي أن العالم الراهن عالم يعاني من انعدام المساواة المتزايد، ومن العسكرة ونزعات العداء والإرهاب، فضلا عن عودة ظهور الاتجاهات العنصرية والفاشية، وكذلك القوى القومية المُصمِّمة على الإقصاء والقتل. ويرى المؤرخ الكاميروني أن الديمقراطية الآن أصبحت تعيش على احتضان جانبها المظلم، أو ما يسميه "جسدها اللَّيْلي" (Nocturnal Body)، الذي يقوم على الرغبات والمخاوف والعنف؛ مما يدفع قوة الاستعمار إلى الأمام في صور جديدة فجّة تُجسِّد غرائز العدوان والقضاء على الآخر باسم المفاهيم الديمقراطية، وهو ما ظهر بجلاء أثناء حرب العراق 2003 وما بعدها من أحداث. وقد أدى هذا التحول إلى تفريغ الديمقراطية من معناها، ومن ثمَّ تآكلت القيم والحقوق والحريات التي طالما أعلت منها الديمقراطية الليبرالية. ونتيجة لذلك، أصبحت الحرب في عصرنا دفاعا عن مفهوم السيادة الذي يعمل على إبادة كل من يُعتبَرون أعداء للدولة في نظر أنصارها أو من ينتمون لها، مثلما يفعل أنصار اليمين المتطرف في الدول الغربية.

 

صفوة القوة والميتافيزيقا العسكرية تعتمد إسرائيل بوصفها دولة عسكرية لنفسها وأجهزتها بل ولمواطنيها احتكار حق قتل أي فلسطيني (الفرنسية)

يلخص إمبيمبي تلك السياسة بأنها "القدرة على تحديد من تهم حياته، ومن لا تهم حياته، ومن يمكن التخلص منه ومن ينبغي الحفاظ عليه". وبعبارة أخرى فإنه يُسلِّط الضوء على كيف تقوم الحكومات بالمفاضلة في حق الحياة البشرية، فكلما كنت في صف القوة المُهَيمِنة، زادت قيمة حياتك. ويضرب إمبيمبي مثالا بالولايات المتحدة الأميركية، فإذا كنت رجلا مسيحيا أبيضَ وقويا وثريا، فهذه أخبار رائعة بالنسبة لك، لكن كلما ابتعدت عن هذه السمات، قلّت قيمة حياتك، بل أصبح وجودك أحيانا أكثر خطورة. ولم يكن غريبا أن يعاني إمبيمبي نفسه بسبب كتاباته تلك من بطش الأنظمة العنصرية، فقد اتُّهِم بمعاداة السامية بسبب تصنيفه لإسرائيل على أنها دولة عنصرية.

وينطلق إمبيمبي من تجربة التمييز العنصري التي عاشتها جنوب أفريقيا، حيث تطرق إلى أن منهجية الحكم العنصري كانت تعتمد على بناء علاقات مكانية جديدة، بحيث يتم عزل المقموعين وتحديد حركتهم وحريتهم. وكانت تجربة معازل المدن أو "Township" من أبرز الصور المكانية التي انطلق منها إمبيمبي، وكانت تضم غير البيض فقط، وشاع فيها الفقر والمعاناة والمرض وعدم القدرة على مغادرة المكان. وتتطور رؤية إمبيمبي عندما يصل إلى تجربة الاحتلال "العنصري" لقطاع غزة والضفة الغربية، حيث يرى أن الاحتلال الإسرائيلي عمل على جعل كل حركة مستحيلة عبر تقسيم الأراضي المحتلة إلى شبكة داخلية معقدة، وهو فصل عنصري متعمد مصحوب بمستويات معقدة من الرقابة على السكان طوال الوقت.

بل إن إمبيمبي يصل إلى نتيجة هامة عندما يؤكد أنه في هذا النمط الاستعماري تكون المعركة فوق الأرض وتحت الأرض، حيث يسعى الاحتلال للهيمنة القمعية على كل شيء، باستخدام كل التقنيات في السماء وتحت الأرض وفوقها، وهو ما قد يُفسِّر لجوء حماس إلى شبكة أنفاق مُعقَّدة لمقاومة الاحتلال وهيمنته على الأرض. ويقول إمبيمبي وكأنه يصف حال العدوان على غزة اليوم واصفا تقنيات هذا النمط الاستعماري: "يصبح كل السكان أهدافا للاحتلال، فالقرى والمدن محاصرة، بل ومنعزلة عن العالم، والحياة اليومية تتم عسكرتها وجعلها خاضعة للأعمال الحربية، وتُطلَق يد القادة الميدانيين في حرية قتل من يشاؤون، ويصير القتل العشوائي سمة ظاهرة".

يقودنا ذلك إلى عالم الاجتماع الراديكالي الأميركي تشارلز رايت ميلز في تناوله لما أسماه "الصفوة الأميركية"، خاصة تلك التي تحتكر القوة (وهي التي أسماها صفوة القوة)، مُشيرا بوضوح إلى مفهوم الميتافيزيقا العسكرية، الذي كان يعني به حاجة الصفوة العسكرية أو من أسماهم أمراء الحرب إلى استمرار حالة الحرب بشكل أو آخر حول العالم، واعتبارها جزءا مهما من الحياة الاجتماعية عن طريق اقتصاديات التسليح والاستعداد المستمر للحرب.ويذكر إمبيمبي أن الصفوة العسكرية والاقتصادية والسياسية المهيمنة تخشى السلام أكثر بكثير من الحرب، حيث تعتمد تلك النخب على الحرب في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، في إشارة ضمنية بالطبع إلى الولايات المتحدة أكثر من غيرها. ولعل هذا ينطبق على سياسة إسرائيل في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، فهي تحرص على استمرار حالة الحرب إلى ما لا نهاية، وعلى استخدام جيش حديث بتقنيات الحرب الشاملة والمعقدة في مواجهة شعب أعزل للقضاء على المقاومة التي تستخدم البسيط من السلاح المصنوع محليا.

وهنا تظهر الميتافيزيقا العسكرية بوضوح في تنظيم دولة إسرائيل بوصفها دولة عسكرية تحتكر لنفسها ولأجهزتها بل ولمواطنيها حق قتل أي فلسطيني، وهو ما يظهر في عدم مبالاتها بقتل 37 ألف شخص فوق مساحة صغيرة لا تتجاوز 365 كيلومترا مُربَّعا في قطاع غزة. وتتجلَّى تلك الميتافيزيقا العسكرية أيضا في انتعاش اقتصاد التسليح وتجربة السلاح، حيث يجري اختيار مجتمعات هامشية ومختلفة عن المجتمعات الغربية كي تكون موقعا ومختبرا لتجربة الأسلحة الجديدة التي لا يمكن تجربتها في دول متماشية مع المصالح الغربية. وفي غضون ذلك، يعمد أمراء الحرب في الدول الغربية على شيطنة تلك الدول المناوئة بوصفها إرهابية ومتخلفة ومعادية للحريات والقيم الغربية، وبالتالي يصبح تدمير هؤلاء البشر غير المنتمين إلى الصفوة، والأماكن التي يعيشون فيها مع جعلها غير صالحة للحياة، هو الحلقة الأقوى والأحدث في سياسة احتكار حق القتل وإنهاء الحياة.

وهكذا، فإن منهجية تدمير الحياة والمكان والتجويع وإحكام الحصار، وجعل كل شيء تحت الرقابة والسيطرة، بشكل يُعزز عمليات نزع الهوية ورفض الاعتراف بالآخر، مع تواطؤ الحكومات الغربية التي ترفع شعار الليبرالية الديمقراطية وتُعزِّز في الوقت نفسه عمليات الإبادة؛ تهدف جميعها إلى منح إسرائيل الحق المطلق في تقرير من يموت على أرض فلسطين، وما الذي ينبغي تدميره دون حدود دون حسيب أو رقيب.

يتفقد الأهالي الأضرار ويزيلون الأغراض من منازلهم في أعقاب الغارات الجوية الإسرائيلية في 13 أبريل/نيسان 2024 في خان يونس (غيتي) احتكار القتل ونفي الهوية

يخلص إمبيمبي إلى أن قوة احتكار القتل تلك -المعتمدة على سياسة التحكم في المكان والسكان- تهدف في النهاية إلى نزع الهوية المميزة عن السكان، حيث تجعلهم موضوعات للهيمنة لا حقوق لهم إلا ما تسمح به تلك السلطة؛ وهو الأمر الذي يشير إلى أن الصراع على الهوية وحقوقها هو أساس الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال العنصري الإسرائيلي.

وكان إدوارد سعيد، الأكاديمي الفلسطيني الأميركي، قد فطن إلى أن التأكيد الصهيوني على خطاب الهوية العربية للفلسطينيين دون الحديث عن هوية وطنية فلسطينية حديثة  هو جزء من نفي حقوق الشعب الفلسطيني. ولطالما طُرِحَت تلك الفكرة بالحديث عن هوية فلسطين وشعبها باعتبارها نتاج السيطرة الاستعمارية الأوروبية والأميركية ليس إلا، والقول بأن فكرة الفلسطينيين ظهرت في تلك الفترة وحدها، أما قبل ذلك فكانوا مجرد عرب. وقد استخدم الاحتلال الإسرائيلي هذا الخطاب وتعمَّدَ تجاهل العلاقة بين عناصر ومكونات تلك الهوية العربية للفلسطينيين وارتباطها الوثيق بأرض فلسطين، مثلهم مثل غيرهم من العرب الذين يمتلكون هوية وطنية جامعة ولها خصوصية تربطهم في مساحة جغرافية مُعيَّنة في الوقت نفسه.

هناك فرق إذن بين الانتماء الحضاري العربي، والهوية الوطنية الفلسطينية، وهناك اتصال بينهما في الوقت نفسه، وقد أكَّد إدوارد سعيد في مؤتمر له أثناء ثمانينيات القرن الماضي أن دعم العرب لإخوانهم في فلسطين مردّه إلى إدراكهم أنّ هناك وطنية فلسطينية وشعبا فلسطينيا له الحق في أرض فلسطين، وأن هذا الإقرار يُكمِّله البُعد الحضاري العربي ولا ينفيه ولا ينبغي أن يُصبح ذريعة للتخلُّص من التكتل السكاني الفلسطيني إلى دولة عربية أخرى، كما شاع في الأسابيع الأولى للحرب الجارية حين تحدَّث بعض الساسة في الغرب عن تهجير الفلسطينيين إلى مصر.

ومن الناحية الميدانية، فإن القضية الفلسطينية كانت قبل السابع من أكتوبر شأنا عربيا إسلاميا في نظر الكثيرين، ولكنها بعد مأساة العدوان على غزة صارت شأنا إنسانيا عالميا. فقد رأينا كيف عجزت الدول العربية والإسلامية رغم مصادر قوتها عن مجرد التفاوض لأجل فتح السبيل إلى المساعدات الإنسانية العاجلة، في حين أتت أجَلُّ المواقف الشعبية والسياسية من الدول غير العربية وغير الإسلامية؛ مما يشير إلى تشكل عنصر جديد من عناصر دعم القضية الفلسطينية على مستوى العالم.

لقد تجاوز التعاطف مع غزة عالميًّا الإطار المُعتاد للجماعات اليسارية أو الشبابية المحدودة، حيث احتلت مأساة غزة والعدوان عليها مكانة غير مسبوقة في الاهتمام العالمي، ووصلت إلى قطاعات لم تكن تهتم بفلسطين في السابق، في الوقت الذي أصبحت فيه الحكومات الغربية -التي لطالما رفعت شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات- تمارس القمع التقليدي الذي يُمارس في العالم الثالث من حيث الاعتقال والفصل من العمل والترحيل والوصم بالإرهاب ومعاداة السامية، ضد من يتظاهر لأجل فلسطين ووقف العدوان على غزة. وقد جرى ذلك على لسان كبار رجال الحكم والسياسة في الغرب، بل ونطق به بعض من يتوشحون بثياب الثقافة والفكر الحر في البلدان الغربية.

 

رفض الاعتراف بالهوية الفلسطينية والحق في القتل مقولات مكافحة إسرائيل للإرهاب الإسلامي، وضرورة تضامن الشعوب الغربية مع إسرائيل، لم تعُد تقنع الأجيال الجديدة بحق إسرائيل في تدمير غزة وشعبها (الأناضول)

مع بدء العمليات الحربية الواسعة النطاق لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والقتل والتدمير غير المسبوقيْن في قطاع غزة، وارتفاع معدلات القتلى بطريقة كارثية خاصة في صفوف النساء والأطفال، علاوة على إحكام الحصار على القطاع ومنع دخول أي مساعدات غذائية أو طبية، وبينما تتوالى صور ومقاطع حية لمعاناة إنسانية قاسية وغير محتملة؛ وصل صوت معاناة فلسطين وأهلها إلى كل أنحاء العالم وأيقظ ضمائر قطاعات اجتماعية غربية واسعة لتكون شاهدة على الإبادة والقتل، وهو ما تجلَّى في الدعوات من أجل "إيقاف الإبادة الجماعية" و"الحرية لفلسطين" التي تبنَّاها العديد من المثقفين والساسة والمشاهير المناصرين للقضية في الغرب.

ثمة بُعد سياسي جديد يُولد بالفعل يتجاوز مجرد التضامن المؤقت مع حقوق الفلسطينيين إلى الاعتراف العالمي بالهوية الفلسطينية، وهو ما تجلَّى بوضوح في التركيز على الثقافة الفلسطينية بشكل يُميِّزها عن محيطها العربي، بالتزامن مع تبلور مواقف سياسية جديدة تضغط من أجل الاعتراف بدولة فلسطينية، وهو مطلب وطني كلاسيكي ينسجم مع حق تقرير المصير. بل إن بعض الدول الأوروبية أعلن عن نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى بدون موافقة إسرائيل؛ مما يثبت أن الخطاب السياسي العنصري الإسرائيلي يتعرض لتآكل شديد في قواعد داعميه الشعبية والسياسية.

إن مقولات مثل "مكافحة إسرائيل للإرهاب الإسلامي"، و"ضرورة تضامن الشعوب الغربية مع إسرائيل في مواجهة التشدد والتطرف الفلسطيني"، لم تعُد تقنع الأجيال الجديدة بحق إسرائيل في تدمير غزة وشعبها، بل إن الانتهاكات التي مورست وافتُضِحت فيما بعد باسم محاربة الإرهاب منذ 11 سبتمبر/أيلول إلى يومنا هذا، صارت ماثلة في أذهان الأجيال الجديدة من الشباب في الغرب. وكان المفكر الفرنسي ميشيل فوكو قد أشار ذات مرة إلى أن مفهوم القوة يشير إلى القوة الخطابية بالأساس قبل أن تُترجَم إلى ممارسات عنيفة وجسدية، ولذا يبدو أنه قد تأكد لقوى غربية واسعة أن الصراع القائم لا علاقة له بالإرهاب، وأنه في الحقيقة نضال من أجل نيل حق الاعتراف بالهوية الفلسطينية، وحين تهاوَت تلك الشرعية الخطابية لمكافحة الإرهاب، تهاوت أيضا شرعية انتهاك الفلسطينيين التي طالما مارسها الإسرائيليون على مر العقود.

وبشكل أدق يمكن الاتفاق مع أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني أكسل هونيث على أن الاعتراف هو الأساس لتحقيق العدالة الاجتماعية والمُحدِّد لها، وكذلك هو المتطلب الرئيسي لإعادة إنتاج الهوية، بينما الإنكار هو السبب الرئيسي لغياب المساواة الاجتماعية. وهذا ما تعلنه إسرائيل وحكومتها ونخبها الدينية والسياسية والثقافية من إنكار لحقوق الشعب الفلسطيني ولهويته وحقه في أرضه، ومن ثمَّ تبني عليه رفضها قيام دولة للفلسطينيين. ويبرر الإسرائيليون رفضهم بالقول إن تأسيس دولة فلسطينية يؤدي إلى مزيد من الإرهاب، ولذا تستمر في خطاب احتكار الممارسة الواسعة لأقصى درجات القتل والتدمير والتنكيل في إطار رؤيتها بأن الفلسطينيين مُستباحون في فلسطين ولا حق لهم في أرضها، وترفض أي حديث عن الدولة الفلسطينية.

ما يحدث في غزة والضفة الغربية هو إبادة جماعية مقصودة يريد الإسرائيليون أن يجعلوا منها ممارسة شرعية (الأناضول)

إن السلام بالمفهوم الإسرائيلي هو نزع الاعتراف بالهوية والقوة والمكان من الفلسطينيين وتحويلهم إلى مجرد مشكلة إنسانية يمكن حلُّها بتوزيع مسؤوليتهم على عدد من الدول والمؤسسات الدولية، بدون أمل في دولة وطنية لهم أو حقوق سياسية كاملة، إذ عليهم أن يقبلوا استعبادهم وليس فقط استبعادهم، وإلا استباحهم جيش الاحتلال باسم محاربة الإرهاب، وامتلك الحق في قتلهم. ولا يتوقف الأمر عند رفض الاعتراف بفلسطين وشعبها؛ بل يصل إلى رفض توصيف العنف الإسرائيلي على أنه إبادة، والادعاء بأن ما يقومون به في حق الشعب الفلسطيني مجرد حرب مشروعة لمقاومة الإرهاب؛ مما يمنحهم شرعية الرد على الإرهاب، ويُبرر لهم الانتهاكات التي يقومون بها في حق الفلسطينيين.

إن ما يحدث في غزة والضفة الغربية هو إبادة جماعية مقصودة يريد الإسرائيليون أن يجعلوا منها ممارسة شرعية، وهي تتسِق مع حرصهم على إخضاع الفلسطينيين للسيطرة والضبط والموت والتنكيل طوال الوقت. وقد جاء هذا على لسان وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بقوله "إن على إسرائيل إيجاد طرق أشد إيلاما للفلسطينيين من الموت لتحطيم معنوياتهم ومنعهم من الوقوف من جديد"، وهو الوزير صاحب الدعوة إلى تدمير غزة بالقنبلة الذرية أو ترحيل سكانها للخارج، ومنع أي مساعدات غذائية من الوصول إليها.

ولم يحدث في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن وصل حد احتكار الحق في تقرير كل شيء في حياة الفلسطينيين إلى هذه الدرجة من تقنين أو حظر دخول الغذاء والمياه، ومنح أو منع حق العمل والتنقل والصحة والسكن، والتحكُّم فيمن تحق له الحياة ومن ينبغي له أن يموت. ولعل تصريح غولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال السابقة، لمراسل مجلة تايم عام 1973 وقبل حرب أكتوبر حينها يكشف عن حقيقة الروح العسكرية العنيفة التي تعتبر العنف حقا مكتسبا، ولا تعترف بحقوق ومطالب الفلسطينيين أو العرب الذين اختاروا أن يواجهوا إسرائيل في يوم من الأيام؛ حيث قالت غولدا مائير حينها فيما يخُص القدس: "لن تُقسَّم هذه المدينة، لا نصف ونصف، ولا 60 و40 بالمئة، ولا 75 و25 بالمئة. لا شيء من هذا، الطريقة الوحيدة التي سنخسر بها القدس هي أن نخوض حربا ونخسرها، وإن حدث ذلك فسنخسرها كلها".

ولقد أدرك وزير الخارجية المصري السابق محمد صلاح الدين باشا منذ عام 1950 تلك الطريقة المتمثلة في احتكار حق الحياة والموت، التي ما انفكت تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذئذ، وهو ما ظهر في قوله: "هم (الفلسطينيون) اليوم بين أمرين كلاهما الهلاك المُحقق: إن بقوا مُشرَّدين قتلهم الجوع والمرض والبرد، وإن عادوا أو أُعيدوا إلى ديارهم قتلتهم فظائع اليهود".

في خضم استباحة الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني على مرأى من العالم، يفصح بعض رجال النخب الغربية الداعمة للاحتلال عن أفكارهم حول حماية إسرائيل مهما ارتكبت من فظائع، وأنه في رأيهم واجب ديني، تماما مثلما فعل ريك ألن النائب الجمهوري عندما سأل نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا في الكونغرس مستنكرا احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية ومُتسائلا: "هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟". وبينما يُسمَح لأعتى المتطرفين من المتدينين اليهود بتقرير تدمير وقتل الشعب الفلسطيني، يُسلَّط الضوء على مقاومة الشعب الفلسطيني بوصفها تطرُّفا. ليس احتكار القتل بنهاية الطريق إذن، بل هو باب لاحتكار القوة وتعريف الحق، وتقرير مَن مِن حقه أن يكون متطرفا أيضا.

————————————————————————

*نِكروبوليتيكس: النظرية التي يُطبِّقها الصهاينة في استباحة الفلسطينيين.

مقالات مشابهة

  • فلسطين والنِّكروبوليتيكس: هل يملك أحد الحق في قتلنا؟
  • وقف الحرب والقرار الإنتحاري
  • فصائل المقاومة الفلسطينية تبارك عملية كرمئيل وتعتبرها رد طبيعي على جرائم العدو
  • مشروع بدعم الإمارات افتتحه طارق صالح ووصفه بالإستراتيجي.. من المستفيد منه؟
  • غدًا.. اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية لبحث سبل مواجهة جرائم الاحتلال الإسرائيلي
  • مجموعات عراقية مسلحة تدافع عن قاض متهم بدعم النفوذ الإيراني في العراق
  • مجموعات عراقية مسلحة تدافع قاض اتهم بدعم النفوذ الإيراني في العراق
  • شبكة الجواسيس وتحذيرات المؤسس
  • الحرب على غزة وصمود المقاومة
  • ورطة الكيان الصهيوني بغزة