أولكسندر سيرسكي.. عسكري من العهد السوفياتي يقود الجيش الأوكراني
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
أولكسندر سيرسكي عسكري أوكراني ولد عام 1965، تدرج في المناصب العسكرية واكتسب خبرة وكفاءة جعلت منه اسما بارزا، وأصبح أحد رجالات الصفوف الأمامية في جيش بلاده، وانتزع صفة "بطل أوكرانيا".
تدرّج في مسالك الجيش من ضابط عسكري إلى جنرال، وصعد المراتب العسكرية إلى حد تعيينه يوم الخميس في الثامن من فبراير/شباط 2024 من قبل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، رئيسا للقوات المسلحة الأوكرانية خلفا لفاليري زالوجني.
والخبرة العسكرية التي راكمها جعلته يحظى بمكانة خاصة لدى رئيس الدولة، الذي يصفه بـ"الجنرال الأكثر خبرة في أوكرانيا" ويشيد بقدراته، خصوصا بعد مشاركته في حرب بلاده ضد روسيا والدفاع عن العاصمة كييف إبان الهجوم عليها.
المولد والنشأةولد سيرسكي في 26 يوليو/تموز 1965 في قرية "نوفينكي" بمقاطعة "فلاديمير"، التي كانت ضمن الأراضي السوفياتية، وأصبحت تابعة لروسيا.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحصول أوكرانيا (اسم مشتق من اللغة الروسية التي تعني البلاد الحدودية أو الأرض الحدودية) على الاستقلال، كان سنه لا يتجاوز 26 عاما، فقرر الاستقرار في بلده منذ عام 1991.
متزوج وأب لولدين، وتفيد بعض التقارير الإعلامية أنه يُطلق عليه الاسم الحركي "لونتيك".
تأثر بالفكر السوفياتي، وأصبح يوصف برجل المدرسة السوفياتية المتشبع بطريقتها ونهجها. وهو الأمر الذي جلب له متاعب كثيرة، ووضعه في زاوية الانتقادات كلما تقلد مسؤولية عسكرية إضافية.
تزامن تعيين أولكسندر سيرسكي في منصب قائد الجيش الأوكراني مع مرور حوالي سنتين على اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا.
راكم تجربة تعليمية في كبرى المدارس والأكاديميات العسكرية، ففي ثمانينيات القرن الـ20، التحق بالمدرسة العليا لقيادة الأسلحة المشتركة في موسكو، التي تعد مؤسسة متخصصة في التعليم العسكري، وكانت أكبر مدرسة عسكرية عليا في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وتابع دراسته فيها إلى أن تخرج فيها عام 1986.
اكتسب سيرسكي خبرة علمية في سلاح المدفعية السوفياتي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، قرر البقاء في أوكرانيا، والتحق بجامعة الدفاع الوطني في العاصمة كييف.
وفي عام 1996، وبعد سنوات من التكوين في أكاديمية القوات المسلحة في أوكرانيا تخرج منها برتبة الشرف. كما تمكن من ولوج الأكاديمية الوطنية للقوات المسلحة، وتخرج فيها عام 2005.
ودراساته العسكرية المتنوعة مهدت له الطريق للالتحاق بصفوف الجيش الأوكراني والتدرج في هرمه وخوض عدة حروب تحت رايته.
المسار العسكريبدأ أولكسندر سيرسكي حياته العسكرية في صفوف جيش الاتحاد السوفياتي، بعد أن تلقى التدريب في أحد المعاهد العسكرية بموسكو، وظل على ذلك الحال إلى أن حصلت بلاده أوكرانيا على الاستقلال إثر انهيار الاتحاد السوفياتي.
انضم إلى صفوف الجيش الأوكراني المستقل، وأصبح من الجيل الأول من جنوده، وأصبح يعرف بالعسكري الأوكراني المستعمل للأساليب السوفياتية.
وأشارت بعض الكتابات إلى أنه اشتغل منذ بداية مساره العسكري في وحدة مدفعية مجهزة بمدافع هاوتزر ذاتية الدفع عيار 152 مليمترا، وكذا في الوحدات المخصصة لإطلاق قذائف نووية.
شارك سيرسكي في الحروب السوفياتية ضد أفغانستان وطاجيكستان وجمهورية التشيك إلى حين تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.
كما شارك ضمن عناصر الجيش الأوكراني الذين حاربوا إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان بعد عام 2001، وهناك اكتسب تجربة عسكرية من نوع خاص.
عديدة هي المسؤوليات العسكرية التي تقلدها والرتب التي تمكن أولكسندر سيرسكي من الوصول إليها، وأبرزها:
في عام 2009 ترقى إلى رتبة جنرال أثناء قيادته للواء الميكانيكي 72 في الجيش الأوكراني.
وفي عام 2013 شارك في التعاون مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وكان شاهدا على الإصلاحات التي أدخلت على الجيش الأوكراني وفق معايير هذا الحلف.
عُين نائبا أول لرئيس مركز القيادة الرئيسي للقوات المسلحة الأوكرانية، ومثل وزارة الدفاع الأوكرانية خلال نقاشات تحويل نمط جيش بلاده، في مقر الناتو، فكان لهذا الحضور وقع كبير على مساره.
وابتداء من 2013 أصبح النائب الأول لرئيس مركز القيادة الرئيسي للقوات المسلحة الأوكرانية.
وشكل عام 2014 محطة مفصلية في مساره المهني، وبتزامن مع بدء التصعيد العسكري شرق أوكرانيا، تم اختياره لمنصب قائد العمليات العسكرية ضد الانفصاليين الموالين لروسيا، وخاض مواجهات ومعارك عدة باسم القوات الأوكرانية التي قاتلت المتمردين المدعومين من قبل موسكو في إقليم دونيتسك شرق البلاد.
وكان مسؤولا عن مقاومة "العمليات الإرهابية"، وقاد عمليات في شرق أوكرانيا، واضطلع بدور حاسم في الحرب التي اندلعت بسبب ضم روسيا شبه جزيرة القرم. وحصل بعدها على وسام عسكري رفيع.
وفي عام 2015 سطع نجمه في إقليم دونباس في شرق البلاد، الذي كان في تلك الفترة فريسة للقتال ضد الانفصاليين الموالين لروسيا، وتم تعيينه نائبا لقائد العملية الدفاعية الأوكرانية.
وبفضل الدور الرئيسي الذي لعبه في عدة معارك، أسندت إليه مهمة رئاسة مقر العمليات المشتركة للقوات المسلحة الأوكرانية.
وما بين مايو/أيار وأغسطس/آب 2019 قاد عمليات القوات المشتركة، وترقى ليتولى منصب رئيس القوات البرية الأوكرانية، وهي المسؤولية التي استمر فيها لما يزيد على 5 أعوام وأوصلته إلى منصب رئيس الجيش الأوكراني في فبراير/شباط 2024.
وفي فبراير/شباط 2022، شغل منصب القائد الأعلى للقوات العسكرية في كييف عندما شن الرئيس الروسي هجماته.
وفي أبريل/نيسان من السنة نفسها نال لقب "بطل أوكرانيا" بعد أن تولى قيادة الدفاع عن كييف خلال الأسابيع الأولى من الحرب مع الجيش الروسي، وهو أعلى تكريم وأرقى وسام في البلاد.
عين في الثامن من فبراير/شباط 2024 رئيس القوات المسلحة خلفا للجنرال فاليري زالوجني الذي يصغره سنا بنحو 6 سنوات.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: للقوات المسلحة الأوکرانیة الاتحاد السوفیاتی الجیش الأوکرانی فبرایر شباط سیرسکی فی فی عام
إقرأ أيضاً:
كيف بنى الاتحاد السوفياتي أقوى قنبلة نووية في التاريخ؟
كان صباحا باردا جدا، لا يمكنك أن تتحمله إلا بملابس خاصة. نحن الآن في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، وهذا الطقس معتاد في منطقة نائية تماما هي إحدى جزر أرخبيل نوفايا زيمليا (الأرض الجديدة) الواقع في المحيط المتجمد الشمالي، في شمال روسيا الحالية.
للحظة كان كل شيء هادئا، لكن في جزء من الثانية برزت كرة من النور كان عرضها عدة كيلومترات، شاهدها الناس على مسافة ألف كيلومتر تقريبا وشعروا بأثرها بعد الحدث بثوانٍ قليلة حينما ارتعشت أجسادهم واهتزت جدران منازلهم وتساقطت قطع من زجاج بعض النوافذ.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل نشهد موت الشراكة بين أوروبا وأميركا؟list 2 of 2سلجوق بَيْرَقْدار مهندس المُسيَّرات الطامح لتغيير العالمend of listلم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، فخلال ثوانٍ قليلة تحولت كرة النور هذه إلى سحابة عرضها أربعون كيلومترا، وسبرت عنان السماء للأعلى على مسافة أكثر من 60 كيلومترا.
لو رأيتها فلا شك أنه سيُخيَّل إليك أنها نهاية العالم، وأن القيامة قد حانت، لكنه ليس إلا اختبارا عمليا أجراه السوفيات لقنبلة القيصر أو إيفان الكبير، أقوى قنبلة في تاريخ العالم ولا تزال، ولفهم هول الحدث يكفيك فقط أن تعرف أن الموجة الصدمية لهذه القنبلة عبرت العالم ثلاث مرات ورُصدت في عدة محطات أرضية، أضف إلى ذلك أن القنبلة تسببت في موجة زلزالية عبرت خلال القشرة الأرضية ودارت حول الكرة الأرضية كلها ثلاث مرات.
إعلان تاريخ قصير لـ"جبروت" السوفياتكانت تلك القنبلة هي أكبر دليل ملموس على أن الجحيم لا قاع له، إذا توصلت إلى ابتكار قنبلة نووية صغيرة فسأبتكر واحدة كبيرة، واذا ابتكرت ما هو أكبر من قنبلتي فسأبتكر ما هو أكبر وأكبر، لا نتحدث هنا بالمناسبة عن عبث أطفال صغار، بل سياسات دول! لكن قبل الخوض في تلك المأساة التي لا تتوقف من تلقاء نفسها، مثلها مثل تفاعل الانشطار النووي، دعنا نرجع بالزمن إلى صباح آخر، نحن الآن في 29 أغسطس/آب عام 1949، قبل تفجير القيصر بنحو اثنتي عشرة سنة.
في تلك الأثناء، كان أحد القطارات في منتصف الطريق بين مدينة أرزاماس غربي روسيا ومدينة سيميبالاتينسك في شرقي كزاخستان، عدة ساعات تبقت على وصول القطار الذي ثبتت عليه أعين رجال القيادة السياسية والعسكرية بالكامل في موسكو، وخاصة إيغور كورتشاتوف، المدير العلمي لبرنامج القنبلة النووية السوفياتي.
وكما هو واضح، لم يُخصَّص هذا القطار لحمل ركاب مهمين أو بضائع، بل حمل أول قنبلة نووية سوفياتية، التي سُمِّيت "آر دي إس-1″، أو كما سمَّاها الغربيون "جو الأول"، من المعامل البحثية إلى منطقة التجارب.
مثل الأميركيين، بنى السوفيات برجا معدنيا عُلِّقت القنبلة أعلاه، وبالإضافة إلى الأدوات التي تقيس قوة القنبلة وشدة الإشعاع، قاموا ببناء منازل خشبية وطوبية وجسور وأنفاق وأبراج مياه بالقرب من البرج، بل ووضعوا حيوانات في أقفاص موزعة على مناطق متفرقة قربا وبُعدا عن البرج، حتى يتمكنوا من دراسة آثار الإشعاع النووي بعمق. مع نجاح التفجير صرخ كورشاتوف على مسافة عدة كيلومترات في غرفة محصنة: "إنه يعمل! إنه يعمل!".
لا نعرف الكثير عن المشروع السوفياتي لبناء القنبلة النووية، لكننا نعرف أن المجتمع العلمي السوفياتي ناقش إمكانية صنع قنبلة ذرية طوال ثلاثينيات القرن الفائت، وقدم أول اقتراح ملموس لتطوير هذا السلاح عام 1940، أضف إلى ذلك أن الفيزيائي الروسي جورجي فلاوروف اشتبه في أن قوات الحلفاء كانت تُطوِّر سرا "سلاحا خارقا" عام 1939. كتب فلايوروف رسالة إلى جوزيف ستالين يحثه فيها على بدء هذا البرنامج خلال ثلاثة أعوام.
إعلانلكن السوفيات تباطؤوا في البداية، وبعد أن علم ستالين بسقوط القنبلتين الأميركيتين على هيروشيما وناغازاكي أمر بتسريع البرنامج علميا واستخباراتيا، حيث اهتم السوفيات بمراقبة مشروع الأسلحة النووية الألماني ومشروع مانهاتن الأميركي عن كثب.
في تلك النقطة يظهر كلاوس فوكس، عالِم الذرة الألماني الأصل الذي قدَّم للسوفيات معلومات مهمة حول تصميم القنبلة والمواصفات الفنية، وخلصت لجنة الكونغرس المعنية بالطاقة الذرية إلى أن فوكس قد أثَّر على سلامة الناس وألحق أضرارا "أكبر من أي جاسوس آخر"، ليس فقط في تاريخ الولايات المتحدة ولكن في تاريخ العالم.
ولعلها مبالغة منهم، لأنه خلافا للاعتقاد السائد، لم يكن هناك "سر كبير" وراء القنبلة الذرية، حيث اكتُشف تفاعل الانشطار النووي عام 1938، وأُعلن على مستوى العالم أن الطاقة الناتجة عن هذه العملية يمكن استخدامها لإنتاج سلاح ذي قوة غير عادية.
ولذلك، عرف فيزيائيون مثل روبرت أوبنهايمر وغيره من العلماء في مشروع مانهاتن أن الأمر مسألة وقت لا أكثر، قبل أن تتمكَّن دول العالم الأخرى من تطوير أسلحتها الذرية الخاصة عبر التجريب والخطأ، وإذا وضعت ميزانية مناسبة للمشروع، لأن المشكلة ليست في التفاعل نفسه، وإنما مواصفات القنبلة وتركيبها وطريقة عملها الداخلية.
وبالطبع كما تعرف، فلن تجد أكثر من السوفيات (والأميركيين بالطبع) مَن يمكن أن يخصص ميزانيات ضخمة لأجل أسلحة لا نعرف كيف يمكن أن تغير حياتنا.
في الواقع، تمكن السوفيات من إجراء أول تفاعل انشطاري متسلسل داخل هيكل من الجرافيت عام 1946، وبعد مواجهة بعض الصعوبات في إنتاج البلوتونيوم وفصل نظائر اليورانيوم على مدار العامين التاليين، تمكَّن العلماء السوفيات من تشغيل مفاعلهم الإنتاجي الأول.
يُعيدنا ذلك إلى جو الأول، القنبلة التي تعادل في قوتها قنبلة ترينتي التي اختُبرت في ولاية نيوميكسيكو الأميركية في 16 يوليو/تموز 1945 بقوة 20 كيلو طن، حيث تفاجأ جنرالات الحرب الغربيون بنجاح الاختبار، فقد قدَّرت المخابرات الأميركية أن السوفيات لن يُنتجوا سلاحا ذريا حتى عام 1953، بينما توقع البريطانيون أن ذلك سيحدث عام 1954، لهذا السبب تحديدا جاءت قضية كلاوس فوكس لتصبح في ليلة وضحاها أهم عملية تجسس على الإطلاق بالنسبة للبعض، رغم أن ما قدمه الرجل يحتمل فقط أنه سرّع من البرنامج النووي السوفياتي الماضي بالفعل في طريقه مدة تبدأ من ستة أشهر إلى عامين بحد أقصى.
إعلان وما العالم إلا سحابة عيش غراب كبرىفي تلك اللحظة لم يعد العالم كما كان، فمع نمو الحرب الباردة بدأ كلٌّ من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في "تكبير" قنابلهم. نحن الآن على أبواب تقنية جديدة، في يناير/كانون الثاني 1950، اتخذ الرئيس الأميركي هاري ترومان قرارا بمواصلة وتكثيف البحث وإنتاج الأسلحة النووية، وكان الهدف تحويل القنابل الذرية -ببساطة- إلى سلاح ضعيف أمام سلاح جديد هائل لم يره العالم من قبل: القنبلة الهيدروجينية.
يعمل كلٌّ من الاندماج النووي (الذي يصنع القنبلة الهيدروجينية) والانشطار النووي (الذي يصنع القنبلة الذرية) بمبدأ واحد، هو تحويل قدر يسير جدا من المادة إلى قدر هائل جدا من الطاقة، حسب نظرية أينشتاين النسبية ومعادلته الأشهر على الإطلاق: الطاقة تساوي كتلة المادة في مربع سرعة الضوء (E = mc 2)، والمعيار الأخير من المعادلة هو رقم هائل لن تتمكن حتى من قراءته.
يُنتج السلاح النووي أيًّا كانت طبيعته ما يقرب من 85% من طاقته في صورة انفجار صدمي وطاقة حرارية، أما الـ15% المتبقية فتنطلق إشعاعا نوويا قاتلا، يمتد أثره على مدار سنوات بعد التفجير.
لكنْ هناك فارق كبير في آلية عمل هاتين الطريقتين، وهي أن الانشطار النووي كما يبدو من اسمه يعتمد بالأساس على شطر ذرة كبرى (عادة من نظائر اليورانيوم أو البلوتونيوم) إلى ذرات أصغر مع فقدان قدر من الكتلة لتتحول إلى طاقة، أما الاندماج النووي فهو يعتمد على دمج ذرتين أصغر (نظائر الهيدروجين عادة مثل الديوتيريوم) لتكوين ذرة أكبر، مع فقدان قدر من الكتلة تتحول إلى طاقة.
ورغم أن القنبلة الاندماجية تكون أقوى من الانشطارية بثلاثة إلى أربعة أضعاف، فإن هذا الدمج يحتاج إلى قدر كبير من الطاقة كي يحدث، لأن الذرات تتنافر بطبعها، ولمقاومة هذا التنافر نحن بحاجة إلى عشرات الملايين من الدرجات المئوية من الحرارة. في الواقع إنه التفاعل نفسه الذي يحدث في باطن الشمس، التي تبلغ من الضخامة بحيث لو كانت وعاء لحملت أكثر من مليون كرة صغيرة بحجم الأرض.
إعلانويبدو أن السوفيات امتلكوا الأفكار المبكرة للقنبلة الاندماجية قبل أو بالتزامن مع الأميركيين، حيث تصور مصممو القنابل الاندماجية الروس سنة 1948 أن إضافة غلاف من اليورانيوم الطبيعي غير المخصب حول الديوتيريوم سوف يؤدي إلى نجاح التفاعل، لأن اليورانيوم الطبيعي سوف ينشطر كمقدمة لبناء الحرارة اللازمة لبدء اندماج نووي، أُطلق على تلك القنبلة اسم "سلويكا" أو الكعكة ذات الطبقات، وكانت تُعرف أيضا باسم "آر دي إس 6" (RDS-6S)، التي كانت خطوة حاسمة بين القنابل الانشطارية والقنابل الهيدروجينية.
فُجِّرَ تصميم الكعكة في 12 أغسطس/آب 1953 في إحدى جزر أرخبيل نوفايا زيمليا، في هذا الوقت تقريبا فجَّرت الولايات المتحدة أول قنبلة هيدروجينية في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1952، فيما أُطلق عليه اسم "اختبار مايك"، كان كلٌّ من "آر دي إس 6" ومايك اختبارا بدائيا، تطلب الأمر المزيد من التحسين، لكن السوفيات والأميركيين في سباق تسلح مفتوح، لذلك كانت الموارد غزيرة إلى حدٍّ لا تتصوره.
وفي عام 1954، توصل السوفيات إلى فكرة القنبلة النووية الهيدروجينية ذات المرحلتين، فبدلا من استخدام الحرارة والضغط الناتجين عن عملية انشطار نووي في طبقة من اليورانيوم، استُخدمت قنبلة انشطارية كاملة تطلق موجة إشعاعية تشعل بدورها فتيل التفاعل الاندماجي في المرحلة الثانية بسبب الحرارة الهائلة التي تسببها، وهنا ظهرت "آر دي إس-37″، القنبلة التي اختبرت بنجاح في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1955 وأطلقت طاقة مقدارها أكثر من 4 أضعاف سابقتها (1.6 ميغا طن)، وأكبر بما يقرب من مئة ضعف مقارنة بالقنبلة الذرية السوفياتية الأولى قبل ست سنوات، هنا بات واضحا أن الاتحاد السوفياتي يمكن أن ينافس الولايات المتحدة، بل ويتجاوزها.
يكفيك هنا أن تتأمل التصاعد لتفهم كيف يعمل هذا السباق، الطاقة الناتجة من انفجاري هيروشيما وناغازاكي قُدِّرت بنحو 15-20 كيلو طن فقط (لاحظ أننا في الفقرة السابقة استخدمنا لفظة "ميغا طن" وليس "كيلو طن"). وفي العلوم النووية يُقدَّر حجم الطاقة الخارجة من القنبلة بالكمية المقابلة من مادة "ثلاثي نيترو التولوين" (TNT) (تي إن تي) التي ستولد الكمية نفسها من الطاقة عندما تنفجر.
إعلانومن ثم فإن السلاح النووي الذي يعطي كيلو طن واحدا هو السلاح الذي ينتج كمية الطاقة نفسها في انفجار كيلو طن (ألف طن) من مادة "تي إن تي".
وبالمثل، فإن السلاح الذي تبلغ قوته ميغا طن سيكون له طاقة تعادل تفجير مليون طن من مادة "تي إن تي" (ألف كيلو طن)، ولفهم الأثر الهائل للقنابل النووية يكفيك أن تعرف أن القنبلة اليدوية الشهيرة في الحروب، التي تظهر في كثير من الأفلام، تحتوي فقط على ما مقداره 50-60 غراما من ثلاثي نيترو التولوين.
في هذا الوقت كان الأميركيونبالفعل قد أجروا تجربة "كاسل برافو"، وهو اختبار لقنبلة هيدروجينية أُجري في حلقية بيكيني، وهي عبارة عن شعب حلقي في جزر المارشال في المحيط الهادي، فُجِّرت القنبلة في 28 فبراير/شباط 1954، وأنتجت هذه القنبلة انفجارا انشطاريا بقوة 15 ميغا طن، وهي أكبر قنبلة نووية فُجِّرت في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، تلتها بعد ذلك "كاسل يانكي" (Castle Yankee)، التي فُجِّرت في الخامس من مايو/أيار 1954 في الموضع نفسه، وأصدرت طاقة تعادل 13.5 ميغا طن.
ناحية الجحيملكن الروس بعد تلك المرحلة انطلقوا ناحية الجحيم بلا توقف، وهنا تحديدا تظهر قنبلة القيصر، بطول ثمانية أمتار وعرض مترين ونصف ووزن 27 طنا تقريبا، تتكون قنبلة القيصر من ثلاث مراحل، الأولى قنبلة انشطارية تتسبب في تحويل كمٍّ من "الفوم" الذي يحيط بالقنبلة الرئيسية كلها إلى بلازما (وهي حالة خاصة للمادة في درجات الحرارة العالية)، التي بدورها تُشعل فتيل الاندماج النووي في القنبلة الثانية، الذي بدوره يفعل انشطارا نوويا ثانيا داخله، ويتبادل الاندماج والانشطار التفاعل معا حتى تصل درجة الحرارة إلى 100 مليون درجة مئوية، كل ذلك في كسر صغير جدا من الثانية، ثم تنفجر القنبلة، بطاقة قدرت بـ58 ميغا طن، ولتفهم هذا الرقم فهو يساوي عشرة أضعاف كل القوة الحربية التي استُخدمت في الحرب العالمية الثانية!
إعلانالغريب في الأمر أن القنبلة كانت قد صُمِّمت لإنتاج 100 ميغا طن من الطاقة، لكن السوفيات خشوا من تأثيرها على بلادهم، وعلى كوكب الأرض كله في الحقيقة! فقد كان كل شيء في لحظات كتلك فوضويا، وكان كل احتمال ممكنا، لأنه ببساطة لا أحد جرّب هذا من قبل.
ولا يتوقف الأمر على تفجير القيصر فقط، بل في الفترة بين الخامس من أغسطس/آب إلى 27 سبتمبر/أيلول عام 1962، أجرى الاتحاد السوفياتي سلسلة من 3 تجارب للأسلحة النووية، في المنطقة نفسها التي انطلقت فيها "القيصر"، وسُمِّيت التجارب رقم 173 و174 و147، وأنتج كلٌّ من هذه الانفجارات الثلاثة قوة مقدارها 20 ميغا طن.
وفي 24 ديسمبر/كانون الأول 1962، أجرى الاتحاد السوفياتي ما سُمي "الاختبار رقم 219" في المنطقة نفسها، وكان ناتج هذه القنبلة أقل قليلا من نصف القيصر، أي نحو 24.2 ميغا طن. وتُعَدُّ هذه القنابل الخمس؛ القيصر ثم الاختبار رقم 219 ثم الاختبارات الثلاثة 173 و174 و147، أقوى انفجارات نووية في تاريخ البشرية.
الغرض الرئيسي من كل هذه التجارب لم يكن حربيا، بل سياسي، حيث هدف السوفيات إلى إثبات أن بلدهم كان قادرا على إنتاج مثل هذه الأجهزة، واستخدامها لو اضطر لذلك.
رغم الكثير من التعقيدات السياسية والنفسية، فإن الأمر في جوهره لم يكن أكثر من سباق بين فريقين لكن على مستوى لم تعهده من قبل أو تتصور أنه قد يكون موجودا بالأساس خارج نطاق كرة القدم أو المئة متر حرة مثلا، سباق بدأه أوبنهايمر ورفاقه قبل نحو ثلاثة أرباع قرن ولم يقف إلى الآن، ويمكن لك أن تلاحظ ذلك بوضوح في التلويح بالنووي خلال حرب الروس الحالية مع الناتو في أوكرانيا.
في عالمنا، هناك نحو 12-18 ألف قنبلة نووية، جاهزة للشحن، جاهزة للانطلاق في لحظات، بعضها قنابل هيدروجينية تجعل من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي مجرد لعب أطفال، ورغم أنه احتمال ضعيف أن تقوم حرب نووية لأن كل طرف يعرف أنه لا يطلق النار على الأعداء فقط، بل على نفسه كون العدو سيرد قبل أن تصله الضربة، فإن الأمر في النهاية لا يتطلب إلا قرارا مهتزا من بعض الرجال الغاضبين، وما أكثرهم.
إعلان