محنة اللغة العربية .. جُرح لا يريد أن يندمل
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
قبل حلول "اليوم العالمي للغة الأم" الذي يصادف 21 فبراير/ شباط من كل عام، علينا أن نفتح حوارًا جادًا حول حالة اللغة العربية، لاسيما أنها مناسبة يقوم خلالها الناطقون بمختلف الألسنة في مختلف أنحاء العالم بالنظر بعين الرعاية والعناية إلى ما جرى للغتهم، ومنها "اللغة العربية" التي تتمتّع بأسباب قوة كثيرة، لكنها لم تشفع لها، أو لم يُحسَن استغلالها.
في هذا السياق، لا يمكننا نكران أن اللغة العربية تعاني من مشكلات معقدة، بعضها مزمن، وكان معروضًا ومعروفًا ولم يجد حلًا على مدار سنين، وبعضها جديد، وصار مكشوفًا للأذهان، ولا تحتاج إلى جهد مضنٍ حتى نقف عليها، ونشخّصها، ونفكّر في حلول لها.
تطوير النحوبعض هذه المشكلات يتعلق بتطوير النحو، بحيث يصبح أسهل، وهي مسألة بحّ صوت طه حسين وغيره، في سبيل تلافيها. وبعضها يتعلّق بإيجاد الألفاظ المناسبة التي تواكب التطور العلمي والحضاري، وما تلقيه العولمة في نهر اللغات من مفردات ومفاهيم واصطلاحات كل يوم تقريبًا. وبعضها يرتبط بإيجاد بلاغة جديدة في التشبيه والاستعارة والمبالغة وصناعة الصورة وقدح الخيال.
وهناك مشكلة تتعلق بالانسياق وراء الاشتقاق اللغوي لصنع تصوّرات ومسارات منهجية. وهذا الأمر صار من خصائص البحث في العلوم الإنسانية في الجامعات والمعاهد العربية، فالباحث يبدأ دومًا بالجري وراء دلالات الاشتقاقات اللغوية لمصطلحاته أو مفاهيمه، ويستعين في هذا بالمعاجم القديمة، ناسيًا أن اللغة كائن حي يتغير أحيانًا مع تغير السياق الاجتماعي.
ويزداد الأمر سوءًا حين يصبح النص اللغوي القديم محددًا للتفكير الحديث، ينجذب إليه، ويدور في فلكه، وينتج به نماذج إرشادية وأنساق تفكير.
لكن المشكلة لا تقتصر على هذا بالطبع، فهناك جانب أعوص وأصعب يرتبط بوجود اللغة العربية نفسها. فقد زحفت عليها اللهجات العامية بقسوة، ولم تقف عند حد أن تكون متداولة شفاهة، كما كان سابقًا، ثم بات أغلب الجيل الجديد يعتمدها في التعبير عن آرائه ومواقفه وأفكاره ومشاعره.
بل وصل الأمر إلى بعض الكتّاب أو الأدباء، وها نحن نتابع ما يكتبونه بالعامية الفجّة على مواقع التواصل الاجتماعي ونتعجب، لاسيما أن ما يكتبونه لا يكون من قبيل الحوار الذي يمكن أن يفرض اللهجات العامية المحلية، بل في الوصف والتصوير والتحليل والتخيل وإبداء الرأي، وإعلان الموقف.
وبعض اللهجات العامية المحكية لديها قدرة هائلة على التعبير وتجاوز الكثير من مشكلات اللغة الفصحى، لاسيما اللهجة المصرية، لكن في مصر لا توجد لهجة عامية واحدة، فما بالنا بكل البلدان العربية، ما يعني أنّ استفحال اللهجات العامية، واعتمادها بإفراط سيؤديان إلى التشويش، وربما قطع، التواصل بين العرب من المحيط إلى الخليج.
أجيال لا تستطيع القراءةأتذكر في هذا المقام أن أديبة سودانية، مسقط رأسها كرمكول بلدة الطيب صالح، قد وزعت علينا في مؤتمر أدبي قصة قصيرة كتبتها باللهجة المحلية للمنطقة التي تنتمي إليها، فنظرت إلى السطور، فلم أفهم منها سوى النزر اليسير، وتعذر عليّ أن أعرف ما تحكيه القصة أصلًا، أو أقف على الصور الجمالية المنثورة في ثناياها، فلجأت إلى أديب سوداني من شمال البلاد، وسألته عما تعنيه، فوجدته، هو أيضًا، يجد مشقة ظاهرة في فهم القصة.
وكان نجيب محفوظ واعيًا لهذه المسألة، فكتب بلغة فصحى، وعاب على من يكتبون بالعامية، حتى في حال ضرورة يتطلبها جريان الحوار على ألسنة شخوص السرد وأبطاله، لأن من شأن هذا أن يحجب أعمالهم مع الزمن عن كثيرين، خاصة ممن لا يلمّون بالعامية المصرية من القرّاء العرب.
ومثل هذا الأمر قد نجده في قصص يوسف إدريس على روعتها، إذ كان يضمنها لهجة عامية تعود إلى مسقط رأسه، وهي قرية البيروم من أعمال محافظة الشرقية المصرية. فبعض هذه الألفاظ قد غادر الآن بيئته المحلية، فما بالنا ببيئات محلية مصرية أخرى، وما بالنا أكثر ببيئات عربية بعيدة.
وقد كان طه حسين منتبهًا إلى هذا، ولذا عاب على إدريس استعمال العامية في قصصه، وفعل الأمر نفسه مع غيره، لاسيما المسرحي نعمان عاشور.
كما أن اللهجات العامية لم تعد صافية، مثلما كانت قبل ربع قرن مثلًا، بل دخلت عليها أخلاط من لغات بعضها يسميها الشباب "فرانكو آراب"، وفيها تُستبدل حروف عربية بأخرى أجنبية أو بأرقام، وبينما يتعذر فهم ما تعنيه هذه الكتابة على أبناء جيلي، نجد الشباب يعرفها في يسر وبساطة، تثير العجب، وتنبئنا بما ران من أطمار تحجب عنا "لغتنا الجميلة"، حسب تعبير الشاعر المصري فاروق شوشة الذي كان يقدم برنامجًا إذاعيًا ذائع الصيت بهذا العنوان.
ويزيد على هذا أن هناك أجيالًا من خريجي المدارس الأجنبية في بلدان عربية، صارت غير قادرة على القراءة السليمة بالعربية، ولا الكتابة بها، وهؤلاء يتواصلون حتى في الحياة اليومية بالإنجليزية أو الفرنسية، أو على الأقل يمزجون تحدثهم العربية بكلمات أجنبية، وبعضهم قد يستوقفك بعد أن ينطق الكلمة الإنجليزية مثلًا، ليستوضح معناها بالعربية.
أتذكر في هذا المقام أيضًا أن زميلًا لنا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، في ثمانينيات القرن المنصرم، قد أخبرنا، وهو خريج مدارس أجنبية، أنه لا يستطيع أن يعبّر عن مشاعره للفتاة التي يحبها باللغة العربية، وأن الإنجليزية هي التي تسعفه في أداء هذه المهمة، رغم أن المنهج الدراسي أيامها كان بالعربية، إذ لم تكن أقسام اللغة الإنجليزية والفرنسية قد نشأت بعد.
جهود محدودةزاد على هذا أن اللغات الأجنبية ساحت في الأسواق والشوارع، وراحت تزيح اللغة العربية، أو تعمي عليها، في بلدان عدة، فلافتات المحال والحوانيت، وأسماء الفنادق والملاعب، في كثير من الحالات تكتب بالإنجليزية أو الفرنسية وغيرهما، وإن تواضع بعض التجار وأصحاب المصالح فقد يكتبون اللفظ الأجنبي بحروف عربية.
ويستفز هذا كثيرين من الغيورين على اللغة العربية، كان من بينهم ذات يوم المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري الذي رفع دعوى قضائية يطالب فيها بكتابة كل لافتات الإشهار في مصر باللغة العربية، لكن هذه الدعوى كان مصيرها الإهمال، وطواها النسيان.
على الوجه الآخر يعتني التعليم الديني، وعلى رأسه أو في قلبه، التعليم الأزهري في مصر، باللغة العربية عناية فائقة، لاسيما أن الملتحق بهذا المسار التعليمي عليه حفظ القرآن الكريم وألف حديث نبوي على الأقل، فضلًا عن ألفية بن مالك النحوية الشهيرة.
وبينما يطالب البعض بإلغاء هذا التعليم، لمنع الازدواجية بين تعليم مدني وديني، مع حرص على وجود جرعة من الدرس الديني أو الأخلاقي في المدارس المدنية، فإن هناك من يخشى أن يؤدي مثل هذا التصرف إلى التأثير السلبي على اللغة العربية.
وهناك أيضًا من يريد للتعليم الديني نفسه أن يطوّر لغته العربية، فيبتعد عن الألفاظ المهجورة أو المفردات التي تجاوزتها البيئة الاجتماعية، والساكنة في قلب القواميس والمعاجم القديمة.
وحاول الأدباء والصحفيون أن يطوّروا لغة بسيطة، قادرة على إفهام أكبر قدر من القرّاء، فتحدث نجيب محفوظ عن اللغة الثالثة، أو العربية الواضحة، التي لجأ إليها، خاصة في الحوار الذي يجري على ألسنة أبطال رواياته وقصصه وشخوصهما، لاسيما إن كان هؤلاء من بسطاء الناس. وفعل توفيق الحكيم الأمر نفسه في مسرحياته وقصصه.
وهناك من كان يلتقط ألفاظًا نظنّها عامية ويلقيها في سطور نصوصه باعتبارها فصيحة بلا جدال، وعلى رأس هؤلاء الأديب يحيى حقي، الذي كان يعتني باختيار ألفاظ أعماله السردية، وكتاباته النقدية، ومقالاته الصحفية، بشكل لافت.
لكن المعنيين بتطوير اللغة العربية لتواكب التجدد والتمدن الذي يجري بلا هوادة، لم يبذلوا الجهد الكافي الوافي في سبيل تهيئة العربية لتسعف الناطقين بها من المثقفين والمتعلمين في التعبير عن آرائهم، بل إن عوام الناس قد تجاوزوا ما تُهديه إلى اللغة مؤسسات قائمة عليها، خصوصًا مجامع اللغة العربية في بلدان عربية عدة.
محنة شديدةالأدهى والأمرّ من هذا كله، أن الناس ينتجون بلاغتهم الشفاهية المتجددة، بينما يصرّ أغلب الكتّاب على استعمال مجازات قديمة، كأن يقول أحدهم "القشّة التي قصمت ظهر البعير"، بينما لم يعد البعير هو وسيلة النقل الأساسية في زمن السيارات والقطارات والطائرات، أو يصف أحدهم وجه المليحة بالقمر، والشجاع بالأسد، أو يقول آخر "سبق السيف العزل" في زمن أسلحة صار بعضها أسرع من الصوت.
يحدث هذا للفصحى بينما تحاول اللهجات العامية أن تلبّي احتياج الناس عبر الاختزال والتخلي عن الالتزام بقواعد نحوية قد يصعب معها النطق السريع، كما تحلت العامية بالقدرة على التعبير عن المخيال الشعبي عبر الشعر العامي والنبطي مثلًا، وكذلك عبر الأمثال والحكم والقصص والسير والملاحم والأغاني والمواويل وغيرها.
إن اللغة العربية تعيش محنة شديدة، فها هم أدباء لا يجيدون كتابتها، وقضاة لا يحسنون نطقها، وران عليها جمود في النحو والصرف، وزحفت عليها اللهجات العامية، وتفوَّقت في صنع مجازات مبتكرة، فيما يهملها تعليم أجنبي ساهم في اغترابها، وأدّى إلى اختلاط كتابتها ونطقها بكلمات من لغات أخرى، وبذا صارت لغة الضاد تواجه تحديات شديدة، ويمضي عام تلو عام، ونفتحها كأي جرح جديد، لا يريد أن يندمل أبدًا.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: اللغة العربیة فی هذا
إقرأ أيضاً:
اللغة العربية تواجه تحدي التكنولوجيا.. كيف نعزز وجودها رقمياً؟ (فيديو)
أكد الدكتور محمد عزام، خبير التحول الرقمي، أن اللغة العربية تواجه تحديات جوهرية في عصر التحول الرقمي، مشيرًا إلى أن نسبة المحتوى الرقمي المتوفر باللغة العربية لا تتجاوز 2% من إجمالي المحتوى الرقمي العالمي.
"اللغة العربية في الحضارة الإنسانية" محاضرة بثقافة الفيوم "الأدب العربي والكوري.. بين نجيب محفوظ وهان كانغ" فى ندوة بمركز اللغة والثقافة العربية الاثنين المحتوى الرقمي العربيوأوضح عزام وخلال استضافته في برنامج «صباح البلد»، الذي تقدمه الإعلاميتان رشا مجدي ونهاد سمير عبر قناة صدى البلد، أن المحتوى الرقمي العربي يعاني من ضعف الجودة والركاكة، مما يؤدي إلى تقديم معلومات غير دقيقة وغير موثوقة للمستخدمين.
وأكد محمد عزام على ضرورة توظيف مفردات اللغة العربية بشكل فعال في مجال التكنولوجيا خلال السنوات المقبلة، داعيًا إلى زيادة الاستثمارات في البلدان العربية لتعزيز استخدام اللغة العربية بنسقها الصحيح ونشر محتوى رقمي ثري يعكس قيمها وأصالتها.
أهمية إطلاق حركة ترجمة جديدةوشدد على أهمية إطلاق حركة ترجمة جديدة تهدف إلى مواكبة التطور التكنولوجي المتسارع، بما يضمن إثراء المحتوى الرقمي العربي ومواكبته للتحديات العالمية.
يذكر أن اللغة العربية واحدة من أكثر اللغات انتشارًا في العالم، حيث يتحدث بها حوالي 450 مليون شخص كلغة أولى، بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم اللغة العربية في الشعائر الدينية من قبل حوالي ملياري مسلم حول العالم. من المتوقع أن يرتفع عدد المتحدثين بالعربية إلى 647 مليون شخص بحلول عام 2050، مما سيشكل حوالي 7% من سكان العالم
تحديات اللغةعلى الرغم من التطور الكبير في مجال الذكاء الاصطناعي، إلا أن المحتوى المتاح على الإنترنت باللغة العربية لا يتجاوز 3%، هذا يشكل تحديًا كبيرًا في تعزيز حضور اللغة العربية على الشبكة ودعم الابتكار في هذا المجال.
كما أن هناك تحديات تتعلق بجودة التعليم باللغة العربية واستخدامها في الحياة اليومية، بعض الشباب يميلون إلى استخدام كلمات دخيلة على اللغة، مما يؤثر على نقاء اللغة وتطورها.
جهود تعزيز اللغة العربيةتعمل العديد من المؤسسات على تعزيز اللغة العربية من خلال برامج متنوعة تشمل الذكاء الاصطناعي والحوسبة اللغوية. على سبيل المثال، مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يقوم بتطوير منصات رقمية مثل منصة "فلك" للمدونات اللغوية ومنصة "سوار" للمعاجم الرقمية.هذه الجهود تهدف إلى سد الفجوة الرقمية وتعزيز حضور اللغة العربية على الإنترنت.