مع نهاية القرن التاسع عشر كانت مصر تشهد حركة فنية وثقافية كبيرة، بعد أن عاد المبتعثون من أوروبا، وراحوا يشاركون بما اكتبسوه من خبرات في الإدارة والصحافة والفن، ولم يبدأ القرن العشرين إلا وقد ظهر جيل من الرواد الكبار في شتى مجالات المعارف، بعد أن شاعت في أوساط المجتمع حركة رأي عام ارتبطت بالحركة الوطنية المصرية، منذ أن وقعت مصر في قبضة الاحتلال البريطاني ١٨٨٢، وقد أعقب ذلك ظهور تيار وطني كانت الثقافة هي عنوانه الأهم، وكانت الكلمة هي سلاحه الأقوى، وكانت الصحافة هي الوسيلة العملية لشيوع رأي عام، لذا حاول الاحتلال الحد من حرية الصحافة، حينما وضع قانونا للمطبوعات ١٩٠٩، لكن من الملاحظ أن الجماعة الثقافية قد تحايلت على هذا القانون بوسائل متعددة، ولعل الإدارة البريطانية قد رأت أنه من الصواب امتصاص غضب الناس، وعدم التضييق على الكتابة والنشر بهدف كسب الرأي العام، طالما لم يقترن القول بأي من أعمال العنف.
لم يكن الشعر العامي يحظى بما يتناسب ومكانته في الحياة الثقافية، رغم ظهور تيار ابتدع هذا النوع من الفن الذي كان أقرب إلى ذائقة العامة، ولعل عبد الله النديم ١٨٤٢- ١٨٩٦، الذي لُقب بشاعر الثورة العرابية كان أول رائد لهذا الفن الجديد، وقد دفع هذا الرجل ثمن ما أشاعه بين المصريين من وعي، حينما هرب إلى قرى دلتا مصر بعد أن صدرت التعليمات بالقبض عليه، إلا أنه راح يتنقل بين القرى متخفيًا في زي المتصوفة، ولم يتوقف عن إلقاء شعره وسط جموع الفلاحين في المساجد وفي ساحات القرى، إلى أن تم القبض عليه وسيق منفيًا إلى إسطنبول حتى وفاته، إلا أن أشعاره قد انتشرت بين العامة، وأعتقد أن شعر العامية لم يحظ بالشهرة والانتشار من بعد النديم إلى أن ظهر بيرم التونسي ١٨٩٣-١٩٦١.
ولد محمود بيرم الحريرى (التونسي) في أحد الأحياء الشعبية من مدينة الإسكندرية (حي السيالة) ولُقب بالتونسي لأنه ينحدر من أسرة تونسية، رحلت إلى مصر وعاشت في أحد أحيائها، وقد ألحقه والده بالدراسة في مسجد المرسي أبي العباس، فتعلم قدرًا يسيرا من التعليم وحفظ القرآن الكريم، والكثير من أشعار العرب وحكاياتهم، إلا أن موت والده وهو في عمر الرابعة عشر عامًا كان سببًا في تركه الدراسة، متفرغًا للعمل في دكان أبيه بائعًا للعطارة، لكنه خسر تجارته بعد أن أخذته غواية القراءة والتنقل بين المقاهي ومصاحبة الحكائين والشعراء، لكنه في كل ما كتب من شعر العامية كان متأثرا بشعر عبدالله النديم، الذي حفظه عن ظهر قلب، كما أحب منذ صغره قصص (أبو زيد الهلالي) و(ألف ليلة وليلة) و(عنترة بن شداد) و(سيف بن ذي يزن)، وحفظ كل ما ورد من أشعار في هذه القصص، وكانت لديه قدرة عجيبة على الحفظ والتعبير عن أفكاره بالشعر العامي، ورغم ذلك كان من حفاظ شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي، وله تجارب في شعر الفصحى، لكنه كان حريصا على أن يفهم عوام الناس ما يقوله بالعامية.
بدأت شهرة بيرم التونسي في مدينة الإسكندرية، عندما كتب قصيدته (بائع الفجل) التي انتقد فيها المجلس البلدي في الإسكندرية، الذي أثقل كاهل الفقراء بالضرائب، حتى بائعي الفجل والخضروات في الشوارع والحارات، وطبع منها مائة نسخة وزعها على رواد المقاهي وأصحاب الدكاكين، وكان مطلعها:
يا بائع الفجل بالمليم واحدة كم للعيال وكم للمجلس البلدي.
وأصدر مجلة (المسلة) ١٩١٩، وبعد إغلاقها أصدر مجلة أخرى أسماها (الخازوق)، وصودرت هي الأخرى، بعدها كتب مقالا هاجم فيه محافظ الإسكندرية (زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد)، وهو ما أغضب منه السلطات المصرية، وكان في كل ما يكتب شعرا أو نثرا متمردا على كل شيء، على الإدارة، وعلى الموت الذي اختطف والده وزوجته، وعلى الفقر الذي أوصله إلى الجوع والتشرد، وحينما تجاوز الخطوط الحمراء في نقد الملك ورجاله كان لابدّ من اتخاذ إجراء شديد القسوة عليه، حينما صدر قرار نفيه من المدينة التي أحبها (الإسكندرية) إلى تونس، إلا أنه لم يطق الحياة فيها، انتقل بعدها إلى فرنسا ليعمل حمالا في ميناء مرسيليا لمدة عامين، استطاع بيرم أن يعود إلى مصر بجواز سفر مزور، لكنه لم يتوقف عن كتابة أشعاره التي راح ينتقد فيها السلطة والاستعمار. بعدها تم القبض عليه ونفي إلى فرنسا ليعيش حياة قاسية جائعا متشردًا، ورغم ذلك لم يتوقف عن الكتابة.
في عام ١٩٢١ التقى بالفنان سيد درويش الذي كان يعلي من همة المصريين في مواجهة الاحتلال الإنجليزي فكتب بيرم أوبريت (شهرزاد) الذي يقول في مطلعه:
أنا المصري كريم العنصرين بنيت المجد بين الأهرمين
وكان مما أثار حفيظة الملك فؤاد عليه قصيدته المعنونة البامية الملوكي، لذا صدر قرار بنفيه خارج مصر، واستمرت رحلته القاسية في المنفى ستة عشر عاما، عانى فيها آلام الجوع والتشرد وفقدان الأهل والأصدقاء، حتى نجح في العودة مرة أخرى إلى مصر في أبريل ١٩٣٨، بعد أن توسط له أحد المقربين من القصر (محمد محمود باشا) في عهد الملك فاروق الذي اعتلى الحكم ١٩٣٦، بعدها استقر بيرم في القاهرة، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، لينشر مقالاته في أخبار اليوم وجريدة المصري، بعدها انطلق في الكتابة إلى الإذاعة (سيرة الظاهر بيبرس) و(عزيزة ويونس).
عرف الناس بيرم رائدا لشعر العامية، لكن لم يلتفت إليه الكثيرون ناقدا، ومن بين ما كتبه في مجلة الكواكب ١٨ أغسطس ١٩٥٩، وقد رصد الظواهر الغنائية التي تدور بين الحب والهجران والبكاء، بينما لم يلتفت الشعراء إلى شعر الوطنيات، ولا بأس أن تنتشر الأغنية العاطفية إلا أنها لا تعبر عن كل أوجاع الناس، وأن الأغنية التي تعبر عن الحب فقط، فهي موضوع محدود لذا يجب أن تتناول الأغنية كل ما في الحياة من قيم اجتماعية وإنسانية، وكما قال عن نفسه: « لقد اخترت طريقي في كل تلك الميادين الواسعة، وكتبت عن كل أوجاع الناس، لذا أطالب بإعلان الحرب على الأغنية المائعة، وعلى الانحلال الغنائي والمعاني الهابطة التي تنحدر بأبنائنا إلى هاوية سحيقة».
بعد أن استقر بيرم في القاهرة وارتبط ارتباطا وثيقا بشعرائها ومطربيها، كتب أجمل ما غنته أم كلثوم (٣٣ أغنية) من أشهرها (هو صحيح الهوى غلاب) و(أهل الهوى) و(شمس الأصيل) و(الحب كده)، وغنت أم كلثوم آخر أغنية لبيرم عقب وفاته بعشر سنوات، (القلب يعشق كل جميل) ١٩٧١. أعتقد أن ما كتبه بيرم لأم كلثوم قد زاد من شعبيتهما وقربهما من الشعب، بعد أن تنوعت كتابات بيرم ما بين الحب والهجر والوطنيات، وأشعاره التي ينتقد فيها الجوانب السلبية في الحياة، فضلاً عن استلهامه في كثير من كتاباته للتراث الشعبي، وهو أول من ابتكر فوازير رمضان في العالم العربي، والتي كانت تقدمها السيدة آمال فهمي في الإذاعة المصرية، وهو أول من ابتكر «المسحراتي» التي غناها محمد فوزي، ورغم كل ما كتب من شعر غنائي إلا أنه كان يسخر حتى من نفسه أحيانا:
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله
دا احنا شبعنا كلام ما له معنى يا ليل ويا عين
كما كتب لمحمد عبد الوهاب (محلاها عيشة الفلاح)، وكتب لفريد الأطرش عشرات الأغاني، وقد كرمته الدولة المصرية بعد أن حصل على جنسيتها، ثم منحته جائزة الدولة التقديرية التي لا تمنح إلا لكبار مبدعيها، تحية تقدير وامتنان لهذا المبدع الكبير.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: إلا أنه بعد أن إلا أن ما کتب
إقرأ أيضاً: