دخل ترامب حزبهم فاستولى على أرواحهم
تاريخ النشر: 10th, February 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
كنت أحسب أنني بت محصَّنا من الصدمات، ولكن هذا الأسبوع تسبب لي في صدمة بالغة. لقد قضيت الجانب الأكبر من حياتي الراشدة وأنا في اليمين من الأمور، داعما بصفة عامة الحزب الجمهوري، ظنا مني أنه الحزب الأفضل خدمة لأمريكا. ثم أبعدني أمثال سارة بلين ودونالد ترامب عن الفَلَك الجمهوري (تدريجيا ثم بحسم)، ولكنني بقيت أتشبث في رجاء بأن يكون كثير من أصدقائي في اليمين أشبه ببلد خاضع للاحتلال، فهم مرغمون على ترديد الانحيازات الترامبية من أجل النجاة من هذه الحقبة، لكن حزب ريجان لا يزال حيا في أعماق أرواحهم.
وبعد هذا الأسبوع، وهزيمة حزمة (الهجرة-أوكرانيا-إسرائيل)، يصعب عليَّ الاستمرار في هذا الاعتقاد. فحتى مع نجاة بعض أقسام القانون، لا شك أن حزب أيزنهاور وريجان وماكين قد انتهى أمره، لا في أوساط الجمهوريين في مجلس النواب وحسب، وإنما يبدو أنه انتهى أيضا لدى زملائهم في مجلس الشيوخ.
ولعل هذا هو ما يخطر الآن في أذهان قرائي التقدميين: ألم تكن منتبها؟ لقد امتلك دونالد ترامب ذلك الحزب على مدار سنين. فإن طلب منهم القضاء على تسوية الهجرة لأنه بحاجة إلى محض قضية لحملته الانتخابية، فإنهم يقضون على ذلك المقترح.
وردًّا على ذلك أقول: لا أعتقد أنكم تفهمون تمام الفهم ما حدث للتو. فذلك لم يكن محض خضوع ظاهري من الجمهوريين لترامب. وإنما أنا على قناعة بأن الترامبية الآن متغلغلة في أعماق عقولهم حاكمة لظنونهم الباطنية، وأن غرائزهم الذهنية الأساسية لم تعد المحافظة مثلما كانت وإنما هي الترامبية.
وإليكم بعض القناعات التي كان على الجمهوريين أن يقبلوا بها تمهيدا للقيام بما قاموا به هذا الأسبوع:
الديمقراطية هذه للحمقى. في المجتمع الديمقراطي، يتفاوض الحزب المعارض محاولا التوصل إلى حل وسط يكون، في المحصلة، أفضل من الوضع الراهن. وحزمة (الهجرة-أوكرانيا-إسرائيل) التي شهدناها هذا الأسبوع هي من أفضل الحلول الوسطى أحادية الجانب التي رأيتها في حياتي. فقد حققت للجمهوريين بعض أقدم أولوياتهم، ولم تحصل للديمقراطيين على شيء من ذلك في المقابل. وقد أشارت افتتاحية لوول ستريت جورنال إلى أنه «وفقا لأي تفكير منصف، هذا أكثر القوانين تقييدا للهجرة منذ عقود... يكاد يكون بالكامل مشروع قانون لتأمين الحدود، وتتضمن مواده أولويات قديمة للحزب الجمهوري ما كان ليستطيع دعاة التقييد في الحزب أن يجيزوها قبل أشهر قليلة».
وبرغم ذلك فإن الجمهوري تلو الجمهوري كان يعارض الحزمة، قائلين جميعا إنها لا تحقق كل شيء على الإطلاق مما يرغبون فيه. تبنوا المنطق الترامبي بأن لا يقبلوا في ظل حكمه بأي حلول وسطى. سوف يصدر الطاغية أوامره، فيتحقق كل ما يرغب فيه الجمهوريون. وفي الوقت نفسه، يتعرض الجمهوري جيمس لانكفورد، الذي أجرى تفاوضا عظيم النجاح لانتقادات شرسة في مواقع الإنترنت اليمينية بدعوى أنه ضعيف الإرادة.
الترفيه مقدم على الحكم. في ظل حكم ترامب، يبدو الحزب الجمهوري أبعد عن الحكم وأقرب إلى مجمع الترفيه المتواصل. فليس له أنصار، وإنما له جمهور. والعرض الترامبي ينطوي على خطوط عريضة محددة: واشنطن دنسة فوضوية لن تصيب في شيء أبدا. أمريكا في فوضى. جو بايدن راديكالي يساري متصلب لن يميل يوما إلى الوسط. وحده ترامب القادر على إنقاذنا. وكان من شأن إجازة الحزمة أن تقضي على كل هذه السردية. فكان لا بد من تدمير الحزمة إنقاذا للعرض الترامبي.
طغى الاستعراض حتى على أوليات الحكم. تخلص النواب الجمهوريون من حل وسط كان من الممكن أن يجاز، ويتحزبون في بطولة وراء أفكار لا فرصة لها في الحصول على ستين صوتا. ولقد قالها ميت رومني: «لقد درجت السياسة على أن تكون فن الممكن. ولكنها الآن فن المستحيل. بمعنى، هيا بنا نطرح مقترحات لا يمكن أن تجاز لكي نقول لقواعدنا: انظروا كيف نقاتل من أجلكم».
لا قيمة للأجانب. عندما انتصر دوايت أيزنهاور على روبرت تافت في الترشيح الجمهوري سنة 1952، أصبح الحزب الجمهوري حزبا دوليا وبقي إلى حد كبير كذلك طوال ستة عقود. ولكن الانعزالية الآن هي المسيطرة على موقف الحزب. والانعزالية موقف بموجبه لا تكون من قيمة للعالم الخارجي بالنسبة للأمن الأمريكي ولا ضير مطلقا أو خطر من تجاهل المشكلات العالمية. وهي تقوم على فكرة نظرية مفادها أن أمريكا عاشت ذات يوم في عزلة بديعة إلى أن تولى أولئك النخبويون العولميون زمام الأمور. ومعارضة زيادة المعونات لأوكرانيا هي في جوهرها عمل انعزالي، وهي موقف يبدو الآن أن أغلبية جمهوريي مجلس النواب يتبنونه وكذلك أغلبية عنيدة في مجلس الشيوخ.
وليست لدى الانعزاليين الجمهوريين اليوم استراتيجية كبرى. فمنهجهم في السياسة الخارجية قائم على استنتاج غير مستند إلى مقدمات، إذ علينا وفقا لهذا المنطق أن نزيد إنفاقنا في الدفاع عن حدودنا الجنوبية، وأن نقلل إنفاقنا دفاعا عن الديمقراطية الأوكرانية. ويبدو فعليا أن أمثال جيه دي فانس يعتقدون أننا لو سمحنا لفلاديمير بوتين بالانتصار في حروبه لغزو أوروبا، فلن تترتب على ذلك عواقب هنا في الوطن. ولا بد أن نيفيل شامبرلين [رئيس وزراء بريطانيا المحافظ من 1937إلى 1940] عاجز حيثما هو عن التصديق.
الكذب طبيعي. دائما ما يشوه الساسة المقترحات التي يختلفون معها، لكن ترامب سمح لزملائه أن يختلقوا ما يشاؤون غير ملومين. ففي الساعات التالية لإصدار الحزمة، خرج علينا المسؤولون الجمهوريون ببركان من الأكاذيب عما فيها.
فأكد النائب ستيف سكاليس أن الحزمة «تقبل بخمسة آلاف مهاجر غير شرعي يوميا». ثم أوضح مذيع في فوكس نيوز بأن هذا غير صحيح. وأكد النائب دان بيشوب أن المهاجرين غير حاملي الأوراق الرسمية «من غير المكسيك وكندا لن يحسبوا في جملة المعتقلين. وقال الممول ستيفن راتنر مصححا إن هذا غير مضبوط إذ يشير البند فقط إلى القصَّر ممن لا يرافقهم أحد، والذين لا يصل منهم من البلاد المجاورة إلا قليلون للغاية. والرئيس ليس بحاجة إلى قوانين جديدة لإيقاف الهجرة غير الشرعية حسبما أكد رئيس مجلس النواب مايك جونسون. فلماذا كبد مجلس النواب نفسه كل هذا العناء لإجازة قانون (مجلس النواب 2)[H.R. 2] في العام الماضي في محاولة لوضع قانون جديد لإيقاف الهجرة غير الشرعية؟
لقد ألغى ترامب الافتراض بأن المصداقية أمر لطيف.
أمريكا ستكون أفضل حالا في عالم ما بعد أمريكا. مثلما أشار نوح روثمان في ناشونال ريفيو، لو كنتم قدمتم للحزب الجمهوري في ما قبل ترامب مشروع قانون للهجرة واجب النفاذ مرتبط ببنود لاحتواء العدوان الروسي والصيني والإيراني، لحققتم أساسا كل أحلام الجمهوريين في لحظة واحدة. لكن الحزب اليوم رفض الصفقة، ليس فقط لأن الأجزاء المتعلقة بالهجرة لم ترق له، ولكن أيضا لأنه لم يعد يؤمن بنظام دولي تقوده أمريكا.
إن الاقتصاد الأمريكي يحظى بأفضل فترات النمو في حياتنا، ومع ذلك أقنع كثير من الجمهوريين أنفسهم بأن الأمة مدمرة ولا يمكنها أن تتدبر التزامات خارجية. في الأعوام الستين التالية للحرب العالمية الثانية، أقامت أمريكا هي وحلفاؤها وحافظوا على نظام عالمي أنتج عالما أعظم أمنا وثراء من العالم السابق، ومع ذلك أقنع الجمهوريون أنفسهم بأن الولايات المتحدة عقمت، وأن اشتباكاتها الخارجية دائمة الفشل. ويقول الجمهوريون إنهم يعارضون نظام شي جينبنج الحاكم في الصين، بل ويتظاهرون في بعض الأحيان أنهم يعارضون نظام بوتين الحاكم في روسيا، لكنهم على المستوى العملياتي يتبنون بعض أهدف شي وبوتين ـ ومنها تقليص الدور الأمريكي في العالم، وتدمير ثقة أمريكا في قدرتها على استعراض القوة، وتقليص أمريكا إلى محض قوة عظمى إقليميا.
إننا نعيش إحدى أخطر الفترات في العصر الحديث، ومثلما أشار المؤرخ هال براندس أخيرا في مجلة فورين أفيرز، فإن الوضع اليوم شبيه بما بين منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين وأواخرها، ففي ذلك الزمن، هاجمت إيطاليا الفاشية إثيوبيا، وأعاد هتلر عسكرة منطقة الراين، ودمرت اليابان الصين، وهذه الصراعات الإقليمية الثلاثة تحولت بعد ذلك إلى حرب عالمية، لكن حتى في عام 1937، حذر فرانكلين روزفلت من «وباء غياب القانون العالمي».
ووباء غياب القانون عاد. فروسيا وإيران والصين بدأت أو جددت توترات إقليمية على أنحاء تهدد بالتطور إلى شيء شنيع. وجماعات من قبيل الحوثيين تسعى إلى ملء الفراغات الناجمة عن الضعف الأمريكي. وغيوم العاصفة تتجمع في الأفق.
قد تتصورون أن هذه النزعات من شأنها أن تبث الجدية في نفوس الرجال والنساء المنتَخَبين لتمثيل شعب هذه الأمة، لكنه لم يفعل. فالترامبية كانت ذات يوم موقفا ظاهريا لأغلب المسؤولين الجمهوريين يحافظون به على قدرتهم السياسية. لكن ثمة حقيقة أبدية في علم النفس الإنساني وهي أن القناع لمن يرتديه وقتا طويلا ينتهي وقد بات هوية.
ديفيد بروكس من كتاب الرأي في نيويورك تايمز منذ عام 2003.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الأسبوع مجلس النواب
إقرأ أيضاً:
هل انتهى عصر أمريكا مع تنصيب ترامب الثاني؟
خطاب ناري غير متوقع يتطابق مع شخصيته وتوجهاته، حيث يحيل أصدقاءه الى شبه خصوم في لحظة.
لخص الخطاب توجها عنيفا تجاه أصدقاء، وخصوم أمريكا على السواء، ومصلحة أمريكا تكسر الحواجز التقليدية، وماهو متعارف عليه.
ترامب الجمهوري الحزبي، واللاحزبي، الشخصية الانتهازية المتقلبة، ليس معتادا في الحقيقة أن يحمل ورود “الديمقراطيين” التي تخفي الكثير من المكر والخبث الهادئ.
على صراحته وعنفوانه ومزاجه المتقلب بدا للجمهور كملاكم حلبة، أطلق تهديداته التي لا تكترث لأحد “من اليوم سيحترم الجميع أمريكا” .. قال هكذا، فما علاقة هذا بثأر قديم بدا يومًا على محيا راعي الثيران الأمريكي؟ حيث يرى أن أمريكا أصبحت “سُخرة” بيد من لا علاقة لهم بشعاراته القومية الشعوبية وقد عاد ربما كي يواجه أولئك، وحيث السؤال المطروح عن علاقة ذلك بلجنة “مجلس المحاربين”، ومساعي الخلاص من سياسة التنوع بمؤسسات الجيش؟ وعلاقة ذلك بلقاءات ترامب باليهود “اللاصهاينة”؟ والحديث عن سلام القوة؟ وتقاطع القومية الأمريكية مع حق المواليد في الحصول على الجنسيةالأمريكية، والاستعداد لاتخاذ اللازم لترحيل المهاجرين غير القانونيين؟
وبصراحة التاجر، يعيد تكرار حديث سابق أننا “لن نسمح لأحد باستغلال أمريكا”، أكان ذلك استغلالاً داخليًا حيث مصالح اللا أمريكيين ، أو خارجيًا، حيث يرى في أوروبا حملا ثقيلاً حاكم البيت الابيض، كما يرى في حلف شمال الأطلسي مستغِلاً حقيقيا، وفي ألمانيا باقتصادها الأقوى أوروبيا مستغِلاً وقحًا، وهذا مايمكن إدراكه في هجوم مساعده “ماسك” على ديمقراطية ألمانيا، وديمقراطية فرنسا، وحزب ستارمر بريطانيا.
أما قصة القضاء والقانون فقد كانت سنوات ظهور ترامب الأولى في البيت الأبيض كرئيسٍ ايذانًا بفصل جديد في مواجهات الرجل الصدامي مع المحاكم الأمريكية، والمدعين العامين، ومحاولات ” الدولة العميقة” توظيف ذلك في سياق عزله وتنحيته ثم إخراجه من مضمار السياسة تمامًا، فهو يتذكر تحذيرات من “لا يعملون لصالح أمريكا”، من عودته للبيت الأبيض بعد أن أُسقط في انتخابات 2020 ، ويصر عن تجربة مسبقة أن استغلال “وزارة العدل” سلاحا سياسيا يجب أن ينتهي.
ويُذكِر أولئك ذوي التأثير العميق في الداخل الأمريكي بما جرى له، ويستحث طاقات مؤيديه للتحدي وهم الأكثرية “واجهت مساعى لسلب حريتى أكثر من أى رئيس أمريكى..نجوت من الاغتيال لـ (إنقاذ أمريكا)…انتخابات 2024 أهم انتخابات فى تاريخ أمريكا…سوف أعلن حالة الطوارئ على حدودنا الجنوبية…سأبدأ ثورة التغيير…كل المهاجرين غير القانونيين سيتم ترحيلهم…سأعلن العصابات المجرمة جماعات إرهابية…سوف نقوم بالقضاء على العصابات المجرمة…سنملأ مخزوناتنا الاستراتيجية من الطاقة…أصدرت أوامرى بتكثيف “التنقيب” عن الغاز والبترول…أريد أن أكون صانع سلام…سنغير اسم خليج المكسيك الى خليج أمريكا… مهمة الجيش ستكون هزيمة أعداء أمريكا فقط “.
كل ذلك السرد الحماسي في خطاب تنصيب ترامب يظهر الرجل ليس كحاكم جاءت به انتخابات أمريكا، بل حاكم جاءت به حوافر الخيل، وهو من قال ذات يوم انه معجب بتجربة الحزب الشيوعي الصيني في الحكم.. فهل يمكن تصور كيف يفكر ترامب؟!
والواضح في سرده للجمل التي تلاحقت تباعاً وكانت الأذان مشدودة الى سماعها باهتمام كبير، أن رحلة التاجر الأمريكي ذي الأصول الألمانية، ستبحث عن مصالح أمريكا حيث لا مجال للحديث عما وراء الأمريكيتين قبل، وحيث ستتقلص ان لم تلغى مخصصات رعاية العالم، فأمريكا بحاجة كل سنت يمكن انفاقها لأجل إعادة بنيتها المتهالكة.
هناك نفط صخري، وهناك ثروات القطب الشمالي الزاخرة، ولا تعنيه قضية المناخ ، وهناك بنما، حيث ذرائع اليد الصينية ستقرب المسألة من ديكتاتور أمريكا الجديد، وتحالف الأغنياء، كما أن هناك رؤية توسعية لما هو في قريب من اليد الأمريكية، حيث كندا التي تشرف عليها ثلاثة عشر ولاية أمريكية من أصل الخمسين ولاية؟
وإمكانية الاستحواذ على غرينلاند الغنية، واستعادة السيطرة على قناة بنما، وكلها تعكس رؤية تقوم على التوسع الإقليمي لتعزيز القوة الأمريكية الإقليمية، وتحولاً عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية، وتسويق ذلك في إطار مواجهة النفوذ الروسي والصيني.
ولعل واشنطن تسير على خطى “أثينا” القديمة والتنافس المحموم مع “اسبرطة”، حيث انتهت ديمقراطية الأولى إلى نظام ديكتاتوري توسعي انتهى بها الى زوال.
فمع تطور اقتصاد أثينا، بدأت الطبقات المختلفة في المجتمع الاثيني خاصة طبقة النبلاء تسعى لأن يكون لها دور في التنظيم السياسي للدولة الأثينية، ما فتح المجال للتحوّل نحو النظام “الأوليغارشي” بعد تراكم قوة النبلاء ونفوذهم، وتطبيق أثينا نظامًا أشبه ما يكون بنظام رأسمالي سيطرت فيه طبقة النبلاء على دورة الاقتصاد في البلد، بينما كانت الطبقة الدنيا هي من دفعت الثمن، بعد أن أفلست بسبب المديونية التي حولتهم من مزارعين إلى عبيد مع مرور الوقت.
تلك النتائج التي أحالت المجتمع الأثيني الى حالة العبودية والافلاس، مع استئثار الطبقات العليا بالقوة والمال، هي ذاته ما يشتكي منه مجتمع أمريكا اليوم رغم التوسع والنهب الذي جرى لثروات الشعوب خاصة في المنطقة العربية، فقد أظهرت أحداث حرائق لوس انجلوس مدى سخط الشارع الأمريكي على ساسة وقادة أمريكا، حيث تذهب أموال دافع الضرائب لدعم أفعال وجرائم نازية دموية بينما تعجز السلطات عن مواجهة حرائق كاليفورنيا تاركة المواطنين لمصائرهم، وقد خسروا منازلهم وممتلكاتهم، في ظل إهمال البنية التحتية الأمريكية المتهالكة أصلاً.
وبالعودة إلى “أثينا”، فإن العاملين اللذين كانا سبب زوال أثينا هما ذاتهما اللذان سيكونان سببا في زوال الهيمنة الأمريكية، فكما هو حال أمريكا اليوم في مواجهة قوى عظمى كالصين والروس وربما الهند، فقد كانت “أثينا” في صراع محموم مع الإمبراطورية الفارسية عندما حاولت الأخيرة احتلال اليونان فدخلت معها في حروب ممتدة انتهت بتحالف الدويلات اليونانية لإلحاق الهزيمة بتلك الإمبراطورية الكبيرة بعد سلسلة من المعارك الشهيرة على رأسها معركة «ثيرموبولي» ومعركة «ماراثون». وغيرهما.
غير أن الحرب أضعفت “أثينا” بشكل كبير فارضة عليها ضغوطا اقتصادية وسياسية كبيرة، فيما العامل الثاني كان من صنع أثينا نفسها بعدما لجأت لسياسة “توسّعية” ضمن حكم ديكتاتوري، وصفتها الكتب التاريخية بأنها سياسة “إمبريالية”؛ وهو ما فعلته أمريكا وما قد تفعله في جوارها الأمريكي، فعندما سعت هذه الدولة (أثينا) لاحتلال الدويلات الأخرى والسيطرة عليها، اندفعت الكثير من تلك الدويلات إلى تطبيق مبدأ توازن القوى بالتحالف مع عدوّ أثينا “دويلة إسبرطة”، التي خشيت أن تؤدي السياسة التوسّعية لاثينا إلى القضاء عليها، فبدأت ما هي معروفة بـ”الحرب البيلوبونية” والتي انتهت بخراب أثينا وسيطرة إسبرطة على مقاليد السلطة في شبه الجزيرة اليونانية.
وهنا يمكن تصور أن أمريكا تنحو ذات المسار، حيث تقودها سنن أفول القوى والدول الى مصير الزوال، حيث تستعد لحرب مصيرية مع قوى عالمية، كالصين وروسيا كما أشرنا ما يجعل أولوياتها في نطاق جغرافي “أمريكي أولا”، والبحث عن الثروة والمكاسب بعقلية رجل المال، حيث يجب أن يدفع الخليج راض أو كاره مقابل الحماية التي لم تعد ذات جدوى، وحيث يجب على أوروبا أن تدفع، وهي تعيش حالة احتضار، وحيث على كندا أن تدفع ان لم تقبل بالانصياع للأحلام الترامبية، وأن يدفع العالم لأمريكا، فهذا هو معيار احترام العالم لها، وهو معيار ترامب لاحترام أمريكا.