الجرح الفلسطيني.. بين غسان أبو ستة ومحمود درويش
تاريخ النشر: 10th, February 2024 GMT
«لا تكتب التاريخ شعرا» يقول محمود درويش لشاعرٍ مهووس بقهر ثور التاريخ الهائج من قرونه حتى يطوّعه لصالح قصيدته. لا، لا تكتب التاريخ شعرا فتلك مهمة الأسلحة التي يطورها الأعداء لمحو أعدائهم؛ إن التاريخ ليس سوى «يوميات أسلحة مدونة على أجسادنا» كما يتابع الشاعر الراحل. ولقد كان هذا بالضبط هو المعنى الشعري-الطبي الذي التقطه طبيب الجرح الفلسطيني وكاتب سرديته، الدكتور غسان أبو ستة، الرجل الذي عايش هذه الحرب والحروب الإسرائيلية السابقة على غزة، ليشرح في أكثر من مناسبة ضرورة أن نقرأ تطورات هذه الحرب من خلال القراءة الطبية للجروح التي تُخلفها في أجساد الفلسطينيين.
في كلام أبو ستة ما يشير إلى أن القراءة السياسية والعسكرية للحرب ستظل قاصرة ما لم تُقرأ هذه الحرب طبيا؛ ولا يكون ذلك إلا بدءا من قراءة طبيعة الجروح والحروق والتشوهات التي يلهث بها سكان القطاع، بعد كل استهداف، نحو أقرب المستشفيات المنكوبة. وكما يراها الجراح وطبيب التجميل الفلسطيني، فإن هذه الجروح المختلفة والحروق والتشوهات الغريبة تكشف عن نوعية الأسلحة الجديدة التي تطورها الصناعة الإسرائيلية (المزيفة) بهدف بيعها لاحقا لدول أخرى، وذلك بعد اختبارها على جسد الشعب الفلسطيني للتأكد من فاعليتها وضمان نجاحها. كما تتصل قراءة الجرح الفلسطيني، طبيا وسياسيا في وقت واحد، بقراءة الأسلوب المنهجي الذي يتبعه العدو الإسرائيلي منذ بداية العدوان في تدمير القطاع الصحي بمنشآته وكوادره ومعداته، وفي صور جنونية رعناء بلغت إلى حد إطلاق النار على الأجهزة الطبية، كما روت شهادات الأطباء في مستشفى الشفاء بعد اقتحامه من قبل القوات الإسرائيلية، حيث كانت أجهزة التنفس وأجهزة غسيل الكلى وأجهزة العناية المركزة، بحد ذاتها، هدفا عسكريا!
وبقراءة الأرشيف الصحي للحروب الإسرائيلية السابقة على غزة سنجد أن استهداف المستشفيات والأطباء وطواقم الإسعاف لم تكن ظاهرة تخص هذه الحرب المستمرة وحدها، بل كانت ظاهرة واضحة على امتداد جميع الحروب السابقة التي شنها الصهاينة على قطاع غزة منذ حرب عام 2008، تلك الحرب التي ما زلت أذكر متابعتي لها عبر التلفزيون وأنا في العاشرة من عمري، يوم أن سمعت لأول مرة بسلاح جديد يدعى «الفسفور الأبيض» الذي كان الطيران الحربي الإسرائيلي يرشه بكثافة على المباني والسكان كما لو أنه يرش مبيدا حشريا على مساحات زراعية مفتوحة.
إذا لم يقتل الجرحُ الجريحَ فإنه سيحدث في أحسن الأحوال تشوها عميقا سيبقى إلى الأبد، وقد يستمر لأجيال، وهذا بحد ذاته يكشف عن نية إسرائيلية لإيجاد مجتمع مشوه مليء بالعاهات والإعاقات المستدامة، إلى جانب كونه منهكا جسديا بفعل الجوع وسوء التغذية وشح المياه الصالحة للشرب وغياب الأدوية والرعاية الصحية، بعد كل جولة يعود فيها المجتمع الغزي من حالة الحرب إلى وضعه «الطبيعي»: الحصار.
علينا أن نتذكر دائما أن جروح الفلسطينيين هي حقائق الحرب الصغيرة، هي الحقائق المجهرية التي لا تبلغ أغوارها الدقة العالية لعدسات المصورين الحديثة، ولا يستطيع حتى الجريح نفسه في أغلب الأحيان أن يقرأ فيها شيئا أبعد من الألم المباشر. تبقى تلك الجروح معالم تتطلب قراءتها أطباء من نوع الدكتور غسان أبو ستة، الذي يحاول بدوره أن يحولها من حالة صحية دامية إلى وثيقة سياسية تفضح العقلية الصهيونية المسكونة بسياسة التطهير العرقي كحل نهائي للصراع الديمغرافي مع الفلسطينيين، الحل الذي يغذيه هاجس بن غوريون القديم حين يصرح عام 1947 بأنه «لا يمكن أن يكون هناك دولة يهودية مستقرة وقوية ما دامت الأغلبية اليهودية فيها لا تتعدى 60 %».
لكننا اليوم لسنا بحاجة لقراءة الخطاب السياسي الإسرائيلي وفحصه للتنقيب فيه عن نوايا إبادة جماعية، إذ يكفي أن نسأل الأطباء الفلسطينيين فحسب عن النوايا الإسرائيلية التي يقرأونها يوميا موشومة على اللحم الفلسطيني.
يُضاف الدكتور غسان أبو ستة اليوم إلى أعلام فلسطين بوصفه طبيب الجرح الفلسطيني، الوسام الذي يستحقه عن جدارة، حتى لو كان الوقت مبكرا على توزيع الأوسمة، لكن ذاك ليس لمجرد خبرته المهنية التي يمارسها بحس إنساني عالٍ في أسوأ الظروف المتخيلة، بل لقدرته على تأمل هذا الجرح من أجل تحديد طبيعة الآثار والتشوهات العميقة التي يخلفها الاستعمار الاستيطاني على الجسد البشري. وهو بذلك يذكرنا بشاعر لطالما وصفناه بشاعر الجرح الفلسطيني، شاعر انبرى لنفس المهمة ولكن بطبيعته اللغوية، إنه محمود درويش الذي كتب هذا الجرح بلغة نستعيدها كل يوم لنستعين بها على وصف الكارثة:
«يا لحم الفلسطيني...
يا حقل التجارب للصناعات الخفيفة والثقيلة،
أيها اللحم الفلسطينيُّ،
يا موسوعة البارود منذ المنجنيق إلى الصواريخ التي صُنِعَتْ لأجلك في بلاد الغرب...».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: غسان أبو ستة هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
تظاهرة في عمّـان تنديدا بالحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
انطلقت بعد صلاة الجمعة اليوم في وسط العاصمة الأردنية عمّان، تظاهرة حاشدة، تضامنا مع أبناء الشعبين الفلسطيني واللبناني، وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي المتواصل على فلسطين ولبنان.
اقرأ ايضاًبسبب العنف بامستردام.. هل تلغي فرنسا مباراة مع "إسرائيل"؟وندّد المشاركون بالهجمة العدائية لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي تستهدف فلسطين، خاصة قطاع غزة، ولبنان، والتي أتت على المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية.
ودعوا إلى تحرك دولي وعربي فعّال ضد العدوان الإسرائيلي، مستنكرين حالة الصمت الدولي تجاه هذا العدوان والكيل بمكيالين في التعامل مع هذه الحرب وتداعياتها.
وأكدوا أن الموقف الأردني تجاه الحرب على غزة، بقيادة الملك عبد الله الثاني، يمثل تعبيرًا قويًا عن التزام المملكة بدعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
اقرأ ايضاًعشرات الشهداء والجرحى بـ3 مجازر إسرائيلية شمال غزةوأشاروا إلى أن موقف الأردن تجاه الحرب على غزة ولبنان يحظى بتقدير واسع من قبل المجتمعين الفلسطيني والدولي، مؤكدين أن الأردن سيبقى في الصف الأمامي إلى جانب فلسطين.
Via SyndiGate.info
� 2022 Palestine News and Information Agency (WAFA). All rights reserved.
محرر البوابةيتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة
الأحدثترند تظاهرة في عمّـان تنديدا بالحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان عشرات الشهداء والجرحى بـ3 مجازر إسرائيلية شمال غزة باكستان..مقتل 4 جنود في تبادل لإطلاق النار مع مسلحين شاهد إصابة مبنى بشكل مباشر في عكا بصواريخ حزب الله الإمارات تعزز اقتصادها بمرسوم يضمن معاملة الخليجيين كالإماراتيين Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTubeاشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن
© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter