الأوضاع في غزة ممعنة في المأساوية: شلالات دماء ودمار وخراب وجوع وعطش، ومع هذا فللصورة العامة في غزة جماليات مبهرة، يتغنى بها العالم بمختلف اللغات، فهذه الرقعة من الأرض التي تبلغ مساحتها عدد أيام السنة (365 كيلومترا مربعا)، ويقطنها مليونان وثلاثمائة الف نسمة، نحو نصفهم دون سن الثامنة عشر، هذه الرقعة صارت أيقونة لشرف الدفاع عن الأرض والعرض، في وجه عدوان كاسح من جيش أكثر عددا وعدة من أي جيش في أي بلد أوروبي، فبينما يتساقط الشهداء بالعشرات يوميا، ينهض حملة لواء جُدُد، فلا وقت للعويل والانتحاب ولطم الخدود وشق الجيوب، وكأني بهم يستحضرون مقولة المسيح ابن فلسطين، وهو يهرب بدينه من جلاديه: "دع الموتى يدفنون موتاهم" وذلك عندما استأذن أحد تلاميذه للتأخر عن المسير ليتولى دفن والده المتوفى، مضيفا "الموتى يدفنون الموتى والأحياء يحيون الأحياء".
تتعرض غزة للرجم بشتى صنوف المقذوفات برا وبحرا وجوا منذ مائة ونيف يوما، ومع هذا ما زالت آلة الحرب الإسرائيلية عاجزة عن كسر شوكة الغزاويين وتحقيق الغاية المعلنة: "إعادة احتلال غزة، والقضاء على جميع أشكال المقاومة فيها، بتهجير معظم سكانها قسرا"، والبطولات العظيمة للغزاويين التي صار العالم كله شاهدا عليها، درس لكل الشعوب المقهورة، وموعظة لقوى البغي والعدوان: السلاح لا يحارب، بل التعويل في الحروب على حاملي السلاح، ولهذا فأوكرانيا التي لا تملك معشار مع لدى روسيا من عديد وعتاد، صامدة في وجه العدوان الروسي، لأنه لا حافز أقوى من الدفاع عن الأرض وإنسان الأرض، ولهذا فمدنيون بلا حظ من العلوم العسكرية في غزة، صامدون في وجه عدو مسلح حتى الأسنان.
صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية (واسمها يفيد بأنها كريستيان أي مسيحية)، توقفت طويلا عندما أسمته الـ resilience الغزاوي، والكلمة حبلى بمعان كثيرة، من بينها الصمود والقدرة على التكيف وعلى التأقلم واستعادة القدرات، ولكن أكثر ما لفت انتباهها ليس قدرات الغزاويين القتالية، بل كيف تقاسم أهل غزة على اختلاف مهنهم وقدراتهم الأعباء، ففي ما تبقى من مستشفيات صار متوسط ساعات العمل للكادر الطبي 21 ساعة في اليوم، فهناك مثلا الدكتور أحمد مفيد الذي قدم إلى غزة من أيرلندا والذي لا يكاد ينام يوميا إلا لثلاث ساعات، ويعمل بما يتيسر من أدوات على رتق الجروح ومداواة القروح وإجراء العمليات الجراحية المعقدة على ضوء كشافات الهواتف الجوالة، وهناك الدكتور مدحت سديم رائد واستاذ الجراحة الترميمية في غزة، الذي وبضغوط من زملائه ذهب إلى بيته بعد عشرة أيام من العمل المتواصل، فأتته قذيفة صاروخية نقلته إلى جوار ربه.
لك يا غزة، يا أرض البطولات وميراث الحضارات، تغني شعوب الأرض، تغني للصمود العذب، والموت الفدائي العظيم.سيارات التاكسي في غزة تحولت بقرارات من أصحابها إلى مركبات إسعاف الجرحى ونقل الموتى، وتتجول بك الكاميرا في مدينة غزة ورفح وخان يونس، فتحسب أن عديد رجال الدفاع المدني في القطاع بالآلاف، بسبب ما ترصده عيناك من همم المئات موزعين على المباني المنهارة بسبب القصف الجوي والمدفعي، لانتشال الأحياء والجثامين، أما الصحفيون والمصورون الفلسطينيون، فقد ضربوا المثال في التفاني المهني بوجودهم على خطوط النار، وبدفع أكثر من مائة منهم ضريبة المهنة بدمائهم ودماء أقاربهم، فأشرف أبو عمرة لم ير زوجته وعياله الستة طوال ثلاثة أشهر، ثم أصيب بطلق ناري في الخامس من الشهر الجاري، أما وائل الدحدوح فقد تحول إلى رمز للجسارة الصحفية، فبعد استشهاد أربعة من أفراد اسرته، واراهم التراب وعاد الميدان شاهرا المايكرفون، وقارورة ماء، و"ينطق بكلام يخاطب الروح"، كما قالت كريستيان ساينس مونيتور، وتناقلت مئات المنصات قول الدحدوح "أرادوا عقابنا بقتل أولادنا، لكن معليش"، كقول لا يصدر إلا عن شخص قوي في إيمانه ومواقفه، كما تناقلت سيرة السيدة حليمة الكسواني (أم العبد)، التي كانت في العاشرة عندما حدثت مجزرة دير ياسين في عام 1948، وتم تهجير أهلها إلى مخيم الزرقاء في الأردن، وظلت تروي تفاصيلها لشباب المقاومة لشحذ هممهم، إلى أن أسلمت الروح قبل أسابيع قليلة.
البسالة والجسارة التي كانت شاهد عيان عليها في غزة خلال الشهور الماضية، هي التي جعلت إيميلي كلهان مديرة شؤون التمريض في منظمة أطباء بلا حدود، تقول لشبكة سي أن أن "قلبي في غزة وسيظل في غزة.. الفلسطينيون الذين عملت معهم في مستشفى أندونيسيا من أروع من عرفت من خلق الله"، وأضافت كلهان إنها عندما سألت العاملين معها ما إذا كانوا يرغبون في مغادرة القطاع قالوا بصوت واحد: هذا مجتمعنا، وهؤلاء عائلاتنا وأصدقاؤنا، ونحن على استعداد للموت في سبيل العمل على إنقاذ أكبر عدد منهم من الهلاك.
أما ماري لو ماكدونالد زعيمة حزب شن فين الإيرلندي، الذي آلت إليه مقاليد الحكم في بلفاست، فقد أكدت مجددا مناصرة الحزب للحق الفلسطيني، وإدانته القاطعة والحاسمة للعدوان الإسرائيلي على غزة، ثم دعت حكومة بلادها إلى الانضمام إلى جنوب إفريقيا في رفع دعوى ضد إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية، ومعلوم أن أيرلندا قامت سلفا بطرد سفير إسرائيل من أراضيها، ثم حذت بلجيكا حذوها.
ولك يا غزة، يا أرض البطولات وميراث الحضارات، تغني شعوب الأرض، تغني للصمود العذب، والموت الفدائي العظيم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة فلسطين الحرب احتلال احتلال فلسطين غزة حرب تداعيات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی غزة
إقرأ أيضاً:
دراسة مرعبة تتنبأ بعدد الموتى في حرائق المناخ بحلول عام 2100
حذرت دراسة جديدة، من أن ما شهدناه من حرائق مدمرة في السنوات الأخيرة، قد يكون مجرد لمحة عما سيحدث في المستقبل، متنبئة بأعداد مرعبة لموتى.
وقال علماء من جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين إن وتيرة الحرائق في المدن من المقرر أن ترتفع بشكل كبير، وذلك يرجع إلى تغير المناخ.
وفي الدراسة، توقع الفريق عدد الحرائق الحضرية التي يمكن أن تحدث في 2847 مدينة في 20 دولة على مدى السنوات الـ 75 المقبلة، وإذا استمرت انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري في الارتفاع، فإن توقعاتهم تشير إلى أنه قد تكون هناك عواقب مدمرة، وفق "دايلي ميل".
وفي ظل سيناريو الانبعاثات العالية، يتوقع العلماء زيادة بنسبة 22.2 % في الحرائق الخارجية في المدن حول العالم بحلول عام 2100.
ومن المرعب أن هذا من شأنه يؤدي إلى 335 ألف حالة وفاة مرتبطة بالحرائق، و1.1 مليون إصابة مرتبطة بالحرائق، في جميع أنحاء العالم خلال الفترة 2020-2100.كما يزعمون.
وكتب الباحثون في دراستهم: "وجدنا أن الاحتباس الحراري العالمي قد يؤدي إلى ارتفاع غير متوقع في عدد ضحايا الحرائق".
ويأمل الباحثون أن تساعد النتائج في صياغة استراتيجيات التخفيف من آثار تغير المناخ في جميع أنحاء العالم.
وأضاف العلماء: "يمكن أن تكون هذه الدراسة بمثابة نقطة انطلاق لتطوير استراتيجيات مرنة في مواجهة تغير المناخ، مثل تحديث معايير الحرائق، وتخفيف التأثيرات البشرية، وتحسين إدارة الوقود، وتعزيز موثوقية المركبات".
وفي دراستهم المنشورة في مجلة Nature Cities، أوضح الباحثون بقيادة لونج شي: "ركزت تحليلات التأثير الحالية على حرائق النباتات بدلاً من حرائق المناطق الحضرية، على الرغم من أنها عادة ما تسبب المزيد من الضحايا المباشرين للحرائق، ولا تزال اتجاهات تكرار الحرائق الحضرية بسبب الانحباس الحراري العالمي غير معروفة".
وأنشأ الفريق قاعدة بيانات عالمية لحوادث الحرائق للفترة 2011-2020 باستخدام بيانات من إدارات الإطفاء الحضرية وتم تقسيم الحرائق إلى ثلاث فئات - حرائق المباني، وحرائق المركبات، والحرائق الخارجية.
وبعد ذلك، قام الباحثون بتقييم التأثير المحتمل للاحتباس الحراري العالمي على تكرار كل نوع من أنواع الحرائق.
ويشير تحليلهم إلى أنه في ظل سيناريو الانبعاثات العالية، قد يكون هناك زيادة بنسبة 11.6 % في حرائق المركبات، وزيادة بنسبة 22.2 % في الحرائق الخارجية، وانخفاض بنسبة 4.6 % في حرائق المباني بحلول عام 2100.
وتظهر النتائج أن المملكة المتحدة ستكون واحدة من أكثر البلدان تضررا.
وقال الباحثون إن "الوضع في بعض البلدان، مثل نيوزيلندا والمملكة المتحدة، أسوأ بكثير، حيث أظهر زيادة بنسبة تزيد عن 40٪، وفي ظل سيناريو الانبعاثات العالية، قد ترتفع حرائق المباني في بريطانيا بنحو 10 %، وحرائق المركبات بنحو 15 %، والحرائق الخارجية بأكثر من 20 %".