رسالة في بريد “تقدم”: اليوم أنسب من غدٍ!
تاريخ النشر: 10th, February 2024 GMT
لا شك لديَّ بأن "تقدّم" تمثل أوسع جبهة أنشئت في تاريخ السودان المعروف تحت مظلة قوى الانتقال المدني الديمقراطي؛ حيث وصلت درجة الرحابة بها حد أن تضم إلى صفوفها المؤتمر الشعبي وحزب الميرغني، وكلاهما كان لديه ممثلين في نظام الإنقاذ حتى لحظة انهياره. لا يعني هذا، بالضرورة أنها تمثل كل الشعب السوداني، أو كل قوى الثورة، وهو أمر صعب المنال إن لم يكن مستحيلاً.
و لاشك لدينا أيضاً بأن القوى المتصارعة ومن ورائها مشعلي الحرب المعروفين، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنها ماضية في طريقها لهدم ما تبقى من البلاد وروابط شعبها، وأنها وفي حال انتصار أحدها، أو توافقها في مرحلة ما (وهو أمر محتمل)، لن تدع مجالاً لإمكانية قيام حكم مدني ديمقراطي يحقق شعار الثورة المعلوم: حرية، سلام، وعدالة. كما أثبتت تلك القوى، وبما لا يدع مجالاً للشك، أيضاً، أنها غير حريصة على احترام أي جهة، محلية أو إقليمية أو دولية. يكفي ما مارسوه من ألاعيب مخجلة في التعامل مع كل المنابر: جدة، الأمم المتحدة، الإيغاد، الاتحاد الأفريقي، المبعوثين الدوليين، دول الجوار، وكل من حاول مد يد العون لإيقاف الحرب اللعينة. آخر مثال على ذلك، البيان الذي أصدره الجيش يوم أمس، 9 فبراير، مكذباً فيه (كالعادة) ما أعلنته الأمم المتحدة رسمياً عن اجتماع سيعقد برعايتها بسويسرا، وأن طرفي الحرب قد وافقا على المشاركة! وبالأمس أيضاً صرح الأمين العام للأمم المتحدة بأن الأمم المتحدة تعمل مع الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية من أجل وقف النزاع في السودان وأعرب عن أمله في أن تتاح له الفرصة للقاء الأطراف المتحاربة خلال قمة الاتحاد الأفريقي الأسبوع المقبل، والجميع يعرف الرأي المسبق لأحد الطرفين بأن باب الوساطات الدولية والإقليمية تم إغلاقه، بل وضع العراقيل حتى أمام الوساطة المحلية التي بادرت بها "تقدم". عند هؤلاء البشر، فإن الأمم المتحدة كاذبة، والإيغاد مرتشية، و "تقدم" أصبحت ذراعاً سياسياً للدعم السريع رغم أنفها وانف العالم، وأخيراً، وفي استهتار بالغ بأمن البلاد، أصبحت إيران دولة صديقة للسودان!
ما العمل:
من المعلوم أن قوى الثورة غير مسنودة بذراع عسكري، مما يجعل إمكانية أن تنجح في تحقيق برنامج الثورة، وفي مقدمته إعادة بناء المنظومة الأمنية، في حكم المستحيل. تلزمنا الواقعية أيضاً الإقرار بأنه لم يعد من الممكن استعادة زخم الشارع بذات القوة التي كان عليها، قبل الحرب الملعونة لاعتبارات جمة، من ضمنها النزوح الكثيف لملايين الناس بمن فيهم عشرات الألوف من شباب المقاومة وغيرهم، الذي يعلم الله وحده ما ستؤول إليه مصائرهم؛ كما من ضمنها وجود متغيرات خطيرة فرضها بلطجية الاسلامويين، ومن أهمها توزيع السلاح لأيادي مناصريهم بالعشوائية التي رأيناها جميعاً.
لقد بحَّ صوت صاحب هذا القلم وهو ينادي، من خلال مجموعة من المقالات المبذولة، بأن تختط قوى الثورة، التي يراها ممثلة الآن في "تقدم"؛ تختط استراتيجية مختلفة، عمادها اللجوء لخيار التدخل الدولي بدون تردد أو تأخير.
هل هذا أمر سهل؟ الإجابة طبعاً لا. فالقوى المعنية محكومة بمصالح وبرامج سياسية تحدد لها أجندتها، ومتى وكيف تتدخل؛ كما أن لها أولويات ومشاغل أكثر إلحاحاً في الوضع الراهن، كمسألة حرب غزة وأوكرانيا. لكن، وبرغم هذا، فإن أمر السودان يعنيها كثيراً، باعتبار تأثيره على الأمن الإقليمي والدولي؛ وقد تدخلت بالفعل من قبل ذلك في مشكلة دارفور أواخر 2007، رغم تأخرها ورغم عدم رضائنا على أدائها، وذلك استجابة لنداءات الضمير العالمي، وضغوط منظمات المجتمع المدني بمختلف أطيافها.
نرى أن هناك خطوات عملية يجب على "تقدم" الشروع العاجل فيها لإنجاح هذا المسعى إن قبلت به:
* تحضير الحيثيات اللازمة بشكل موثق لطلب التدخل الدولي لإنقاذ البلاد وفرض السلام والاستقرار بالقوة إن لزم الأمر، باعتبار أن القوى المتحاربة والمسيطرة على الدولة غير راغبة في السلام.
* على "تقدم" إدراك أنها باتت تمثل شعب السودان لدى معظم القوى المؤثرة في الشأن السوداني، لذا يتوجب عليها التحرك المكثف والاتصال بالحكومات والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في كل البلدان ذات الارتباط ببلادنا أو ذات التأثير على مجريات ما يدور ببلادنا بغرض إقناعها برؤيتها وكسب المناصرين لها. كما نرى أن على "تقدم" تحريك منظمات المجتمع المدني السوداني في الداخل أو في المهاجر لتخاطب الحكومات والمنظمات الدولية ذات التأثير المحتمل على الحالة السودانية في اتجاه كسب تأييدها للدعوة المقترحة.
* تحضير الحيثيات اللازمة وبشكل موثق (والوثائق المرئية والمسموعة والمكتوبة على قفا من يشيل في الواقع) التي توضح ما ارتكبته جماعة الاسلامويين جناح المؤتمر الوطني من جرائم، والطلب من المجتمع الدولي والإقليمي تصنيفها باعتبارها جماعة إرهابية يتوجب عليهما العمل على مصادرة أصولها، حيثما وجدت، وملاحقة ناشطيها مثلما أُتخذ من قبل تجاه النازية.
* المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية لحصر الجرائم التي ارتكبها طرفا الحرب.
* المطالبة بإنشاء لجنة دولية تعنى بوضع ترتيبات ما بعد الحرب عبر التنسيق بين كل أصحاب المصلحة، محلياً وإقليمياً، ودولياً.
في رأينا، أنه وحتى إن لم تثمر مجهودات "تقدم" في تحقيق ما طرحناه، فإنها ستفيد كثيراً في لفت انتباه العالم لمأساة بلادنا، وتؤدي لتكثيف القوى الإقليمية والدولية لضغوطها الناعمة في اتجاه إعادة ضبط توازن القوى لترجيح كفة القوى المدنية، والحل التفاوضي.
فيما يلي 5 مقالات أصدرناها من قبل تحتوي على رصد مكثف للحيثيات التي تدعم وجهة نظرنا في سبيل الدعوة للتدخل الأممي (يمكن قوقلتها بالطبع).
1- رسالة في بريد "تقدم": دعوة للتفكير خارج الصندوق
2- على "تقدم" أن تطالب المجتمع الدولي بإنقاذ السودان اليوم وليس غداً
3- نعم للوصاية الدولية، وبدون علامة تعجب، يا أستاذ عثمان ميرغني
4- نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لا بد منه (مقال من جزأين)
5- مستقبل السودان بين خياري الحوار الوطني والتدويل (مقال من جزأين)
gamal.a.salih@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأمم المتحدة
إقرأ أيضاً:
افتعال تعارض بين العمل في الداخل والعمل في الخارج (14 – 15)
صديق الزيلعي
أشعلت الحرب الحالية عددا من الاشكالات والتناقضات، بعضها حقيقي ومرتبط بالواقع السياسي، وبعضها الآخر مصنوع، وغير حقيقي. فإعلام الاسلامويين لعب دورا كبيرا في قلب كل الحقائق. فالحرب هي نتاج للاتفاق الاطاري، والقوي المدنية هي التي تسببت في الحرب، وان حربهم الخاسرة هي حرب الكرامة، ويريدون من الشعب السوداني ان يحارب نيابة عنهم. وواكب ذلك تكثيف خطاب الكراهية الاثني والمناطقي بهدف اشعال الحرب الأهلية الشاملة حيث يحارب الكل ضد الكل. وأيضا محاولة افتعال تناقض مزعوم ما بين العمل لإيقاف الحرب في الخارج، والعمل داخل السودان. ما يهمنا في هذا المقال هو هذا الجزء المتعلق بين العمل في الخارج والعمل في الداخل.
تحول العالم، بفعل التطور، الى قرية صغيرة، تتفاعل مع بعضها البعض. وارتبطت بلادنا بالعالم، بشكل وثيق، منذ ان ألحقها الاستعمار البريطاني، بالسوق الرأسمالي العالمي. وجب ان نذكر بان لا فكاك لنا من العالم، ولا فكاك للعالم من بلادنا. فقضايا التخلف، والحروب، وحقوق الانسان، والهجرة عابرة القارات، والإرهاب، هي قضايا ترغم المجتمع الدولي الاهتمام باستقرار بلادنا. كما ان موارد بلادنا تجعل بلاده مهتمة بالتعاون والاستثمار في السودان. كما اننا وفي ظل احتياجنا للاستثمار، والتكنولوجي، وإعادة الاعمار، ومواجهة الكوارث والاوبئة تحتاج للمجتمع الدولي.
ظهر خطاب غريب، أخيرا، يخلق تناقضا مختلقا بين العمل المناهض للحرب في الخارج، والاتصال بالمجتمع الدولي من منظمات ودول لدعم قضية بلادنا. وبين حشد القوى المدنية والسياسية في داخل بلادنا لتوحيد صفوفها، والعمل لإيقاف الحرب. الدعوة لرفض العمل الخارجي لا يصب الا في مصلحة المتحاربين الذين يحلمون بالهروب من آثار جرائمهم ضد الشعب السوداني.
هناك مقولة صارت تردد كثيرا بان المجتمع الدولي يسعى لنهب ثوراتنا. وهي تتميز بتبسيط الأشياء، كأنما المجتمع الدولي يجهز في سفنه وطائراته لشحن كل موارد السودان وببلاش. ولكن التاريخ يقول ان الأنظمة العسكرية، هي التي فرطت في سيادة بلادنا، وسمحت للأجنبي ان يسرح ويمرح فيها. ولنبدأ بحكومة عبود وقضية المعونة الامريكية وقتل لوممبا، والسد العالي وتعويضات أهالي حلفا، بعد اغراقها. اما نظام نميري فقد واصل المسلسل بدخوله في الاحلاف التي يرعاها الامريكان في المنطقة، وتأييده لرحلة السادات، ثم ترحيل الفلاشا، ودور شركة لونرو في النهب. أما نظام الاسلامويين فقد فاقهم، فرغم الادعاءات الجوفاء عن المجتمع الدولي، فقد تعاملوا معه وقبلوا فصل الجنوب، ودخول قوات دولية لدار فور، وبيع كارلوس وبن لادن، والاجتماعات العديدة والمفاوضات، التي لم تنته حتى تبدأ مرة أخري، وتحنيس البشير المذل لبوتين. كل ذلك تم تحت رعاية دولية. لذلك التبعية تأتي في ظل الأنظمة العسكرية الضعيفة والمعزولة عن شعبها. أما في ظل الديمقراطية، حيث البرلمان يراقب، والأحزاب تتحرك بحرية وتنظم الحملات، والصحافة تكشف الحقائق، فلا مجال للنهب، بالشكل المبسط الذي يتكلمون عنه. ولكن هناك الفوائد المتبادلة بيننا وبين دول العالم. ولن يتحقق ذلك الا بعد ان نمتلك قرارنا في ظل حكومة ديمقراطية قوية ومدعومة من شعبها.
يملك شعبنا تجارب، ثرة، في النضال ضد الدكتاتوريات العسكرية من داخل وخارج الوطن، في تنسيق وتناغم. الامر الأهم ان هذه الحرب، وبكل دمارها، وشراسة من يخضونها، وجرائهم ضد الأبرياء، لا يمكن ان تتوقف الا بدعم مباشر وقوى من المجتمع الدولي ومؤسساته. كما ان إعادة الاعمار سيحتاج لإمكانات هائلة لا تتوفي لنا في الوقت الحاضر. ومن يتخوف من فرض شروط خارجية علينا عليه الدعوة لتوحيد الصف المدني، وتوحيد الصوت المدني في مخاطبة المجتمع الدولي. كما ان كل المناقشات والقرارات الدولية تنص على انهاء الحرب وإقامة نظام حكم ديمقراطي يقوده المدنيون.
للحزب الشيوعي ارث طويل في العمل الخارجي، فقد تم تهريب عضو السكرتارية المركزية التجاني الطيب، ليقود عمل الحزب بالخارج، داخل مؤسسات التجمع الوطني الديمقراطي. ولقد صدرت عدة بيانات تدعم العمل الخارجي ولا ترى وجود تناقض بينه والعمل بالداخل. وهذه مجرد امثلة:
جاء في بيان للحزب بتاريخ 6 مارس 1999 ما يلي:
" اننا نرحب باي جهد مخلص وحقيقي، داخلي أو خارجي، للبحث عن حلول سلمية لمشاكل بلادنا. فلسنا دعاة حرب او دمار والجبهة الإسلامية هي التي سدت كل السبل السلمية امام شعبنا للتعبير عن ارادته بالوسائل الديمقراطية. وانطلاقا من هذا نؤكد ترحيبنا بمسعى القيادة الليبية لإيجاد مخرج سلمي لازمة بلادنا. غير ان الحد الأدنى المطلوب لتحقيق تسوية سلمية عادلة في السودان، والذي توحدت حوله كافة فصائل التجمع بالإجماع
قالت مذكرة من الحزب الشيوعي الي قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، في عام 1995:
" لقد تصدى مؤتمر اسمرا عام 1995 لمهمة استكمال بناء وتوحيد أخطر واوسع تحالف سياسي عرفه شعبنا، فصادق وأمن على ميثاق التجمع باعتباره الأساس السياسي والفكري المتين لذلك التحالف، وصاغ برنامجا شاملا، لا يقتصر على تقديم خطة وآلية لإسقاط نظام الجبهة الباغي واجتثاث آثاره وجذوره فحسب، وانما أيضا يتصدى للخروج من الازمة المزمنة التي لازمتنا منذ الاستقلال، واغلاق الطريق امام العوامل التي تعيد انتاجها"
طرحت نفس المذكرة تصور الحزب للهيكلة:
ثانيا: تقوم علاقة مؤسسية بين تنظيمي التجمع في الخارج والداخل. وتؤسس الهيئة القائدة بالخارج جهازا خاصا للاتصال مع جهاز مماثل في الداخل. ويتمتع كل من التنظيمين باستقلال ذاتي كامل في إطار التعاون والتنسيق والتكامل بينهما."
كما قدم الحزب مذكرة لاجتماع هيئة القيادة الذي انعقد في كمبالا في 1999، جاء فيها:
" مرة أخرى نجدد ترحيبنا، مع أطراف التجمع، بكافة المبادرات الإقليمية والدولية الجادة، والتي ترمى لتحقيق السلام والوحدة والاستقرار والديمقراطية في السودان. لكن من الضروري ان نوضح للأطراف الإقليمية والدولية ان الحلول التي يطرحها المجتمع الدولي والإقليمي ويضغط لقبولها، تبقي حلولا جزئية وهشة ومشحونة بقنابل زمنية، رغم حسن النوايا، ما لم تفتح الطريق لتصفية النظام الشمولي القمعي"
أعتقد ان ما ورد في هذه البيانات وغيرها، يوضح، بجلاء لا لبس فيه، عدم التعارض بين العمل في الداخل والعمل الخارجي. وقد اكتسب ذلك أهمية مضاعفة بعد الحرب، وتناقص هامش العمل في الداخل، في كلا المنطقتين تحت سيطرة المتحاربين.
siddigelzailaee@gmail.com