لأكثر من أسبوع، فشلتْ كلّ محاولاتي في التواصل مع أفراد أسرتي والأصدقاء داخل السودان، إذ لا تزال كافّة شبكات الاتصالات مقطوعة بالكامل، وكذلك خدمات الإنترنت، بعد أن تمّ تخريب وتدمير السيرفرات والألياف البصرية، على نحوٍ أعاد السودانيين إلى عصور قديمة، لم يكن متاحًا فيها التواصلُ، إلا عبر الحمام الزاجل.

سياسة العقاب الجماعي

قوّات الدعم السريع المتمرّدة تسيطر على المقسم الرئيسي (MSC)  في الخرطوم، وبالتالي فهي تتحكم بالقوة في شركات الاتصالات الكبرى الثلاثة داخل السودان، وقد تبنت بالفعل رواية تعطيل الخدمة، وطالبت بعودتها إلى دارفور أولًا لتسمح بها بعد ذلك إلى بقية الولايات؛ أي أنها تريد أن يتساوى السودانيون في الظُلم والظلام، عن طريق سياسة العقاب الجماعي.

لكن جرائم الدعم السريع في دارفور تنسف تلك المبررات، فلا يعقل أن تقتل الناس وتسلبهم كافة ممتلكاتهم وتجبرهم على النزوح، ثم تطلب لهم خدمات الإنترنت! إلى جانب ذلك فإن وصول الفنيين من شركات الاتصالات إلى غرب السودان حاليًا، أمر شبه مستحيل، ومغامرة محفوفة بالمخاطر.

لا شك أن قطع الاتصالات وخدمة الإنترنت عن السودانيين، في أي ولاية، جريمةٌ لا تغتفر، وانتهاكٌ صريحٌ لحقوق الإنسان، ومضاعفة لمعاناة الضحايا، لا سيما أن الاتصالات ترتبط بخدمات المصارف والتحويلات المالية، واستخراج شهادات المواليد والجوازات والأوراق الرسمية، التي توقفت أيضًا مرة واحدة.

فضلًا على أن الحرب تدور رحاها وسط الأحياء السكنية، وتتساقط الصواريخ والدانات فوق رؤوس المدنيين، والأوضاع كلها كارثية لا تنبئ بخير، ولا أحد يعرف حقيقة ما يجري بالداخل وسط هذا التعتيم الكامل.

وأصبح القلق والخوف ينتابان الناس على أهلهم، المعزولين بين القرى والمُدن، ونقاط التفتيش العسكرية، وقد كانت الهواتف هي وسيلة الاطمئنان الوحيدة عليهم، وتزويدهم بالتحويلات المالية، لكن تلك الهواتف الآن لم تعد ذات جدوى، وباتت ثمة حاجة لخيارات بديلة مثل الإنترنت الفضائي "ستار لينك" غير الرسمي.

البحث عن ستار لينك

بالرغم من أن السودان يعاني من سوء خدمات الاتصالات، وعدم توفر الإنترنت، بصورة جيدة، خارج المدن الرئيسية، فضلًا على التدمير الذي طال البنية التحتية للاتصالات، فإن جهاز الاتصالات والبريد السوداني حظر استخدام "ستار لينك".

وطالب باتخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع تداوله واستخدامه، بدوافع ليست في صالح المواطنين، منها الدوافع الربحية المنحازة لشركات الاتصالات الخاصة، وكذلك الرقابة الأمنية المطلوبة على تلك البرامج، وضمان مرور كافة الشبكات بمزود الخدمة الحكومي.

ومع ذلك لم تمنع الحكومةُ قوات التمرد من استخدام خدمة الاتصالات القمرية، بل الدعم السريع تدير حربها على الجيش السوداني بـ"ستار لينك" وأجهزة الثريا، فكيف تسمح بها للأعداء، وتحرم منها بقية الشعب السوداني، الذي بات الآن يبحث عن "ستار لينك" بأي ثمن؟

من المزعج أنه لا توجد معلومات كافية عن ملابسات قطع شبكات الاتصالات والإنترنت في السودان، ولماذا تم قطعها كل هذا الوقت، ومتى ستعود؟ ولكن يبدو أنها تعرضت بالفعل لإغلاق كامل وبصورة عشوائية، وتحتاج إلى عمليات ربط بين الولايات والمحطة البحرية في بورتسودان، لتعود تدريجيًا، دون ضمانات بعدم انقطاعها مرة أخرى، أو أن الحرب السودانية دخلت مراحل جديدة من المواجهات، وانتقلنا إلى جيل الحروب السيبرانية وعسكرة الفضاء.

وهي حرب أكبر من إمكانات الدعم السريع، وشاهدة على تورط دول أخرى فيها بتقنيات حديثة، والضحية بالطبع هو المواطن المسكين، الذي لا يعرف من أين أو كيف ستأتيه الضربة المُقبلة، وعليه أن يعوّد نفسه على الحياة وسط المخاطر، تحت الرصاص القاتل المُنهمر، دون دواء وكهرباء، ولا اتصالات أيضًا، أو حتى إنترنت يزوّده بالمعلومات المهمة لمعرفة حقيقة ما يجري حوله.

جدلية مَرْكَزة الخدمات

فكرة قطع الاتّصالات عن السودان سلوك إجرامي، لا يمكن تبريره أبدًا، ويضع الدعم السريع في موضع الإدانة، لكنه بالمقابل سوف يدفع الناس إلى الثورة على مَرْكَزة الخدمات كلها في عاصمة أو مدينة واحدة كالخرطوم: المصانع، البنوك، مطبعة العملة، الشركات الكبرى، المقسم الرئيسي للاتصالات (MSC)، المطار، المصفاة، الصناعات الحربية، الجامعات، مراكز البحوث، المتاحف، ملاعب كرة القدم، لتكون عرضة لأي توترات أمنية بذلك التمركز قصير الظل.

كما أن الدولة لم تحتطْ لهذه الظروف، وتحتفظ بمراكز تشغيل الخدمات الضرورية في مناطق آمنة، أو تضع خططًا بديلة في حالة الكوارث، ولعل واحدة من فوائد الحرب، بعد اليوم، أهمية التفكير في المستقبل، وضرورة توزيع المشروعات والخدمات وفقًا لخارطة جديدة، تضمن، على الأقل، تنمية بقية الولايات وجعلها جاذبة ومغرية للحياة، والحد من الهجرات لعاصمة أو مدينة واحدة، دون مقومات كافية، بضربها أو احتلالها ينهار كل السودان.

نحن الآن نعيش في مرحلة الفوضى الشاملة، قتل وسلب وتشريد وحرمان للمواطنين من أبسط حقوقهم، فلا الدعم السريع يعبأ بأرواح الناس، ولا الجيش قادر على حمايتهم.

والأدهى والأمرّ غياب الدولة وتدابيرها بشأن تصاريف الحياة، حيث أصبح السودان عبارة عن جُزر معزولة عن بعضها بعضًا، تُخيّم عليه سيناريوهات غامضة، وهي وضعية شاذة يجب عدم السكوت عنها والتسليم بها، وإنما ثمة حاجة لثورة جديدة بلا أجندة خارجية، ومقاومة شعبية واسعة، تفرز من بين الصفوف قيادة رشيدة وخلّاقة، تُعيد للسودانيين وطنهم المفقود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدعم السریع ستار لینک

إقرأ أيضاً:

أمريكا تنتقد التصعيد.. الدعم السريع تعلن حكومة موازية في السودان

أعلن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الثلاثاء قيام حكومة موازية في السودان، مع دخول الحرب التي أوقعت عشرات آلاف القتلى وأغرقت أنحاء من البلاد في مجاعة، عامها الثالث.
وجاء في بيان لدقلو على تليجرام: "نؤكد بفخر قيام حكومة السلام والوحدة، تحالف مدني واسع يمثل الوجه الحقيقي للسودان".
أخبار متعلقة لبنان.. الأمم المتحدة تتهم الاحتلال بقتل 71 مدنيًا منذ وقف إطلاق النارخلال 6 أشهر.. الأمم المتحدة تتوقع عودة 2,1 مليون نازح إلى الخرطوموأضاف: "ستوفر حكومتنا الخدمات الأساسية، التعليم والصحة والعدالة، ليس فقط في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع وقوات الحركات بل في جميع أنحاء البلاد، سنصنع عملة جديدة، ونعيد الحياة الاقتصادية، ونصدر وثائق هوية جديدة، حتى لا يُحرم أي سوداني من حقوقه".واشنطن تدين تصعيد الدعم السريعأدانت الولايات المتحدة بأشد العبارات تصعيد قوات الدعم السريع هجماتها في غرب السودان، مندّدة باستهداف مخيمي نازحين ومواطنين.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس في مؤتمر صحفي يوم الثلاثاء، إن قوات الدعم السريع تصعّد هجماتها على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور وعلى مخيّمين قريبين يؤويان نازحين.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } الولايات المتحدة تصعيد قوات الدعم السريع هجماتها في غرب السودان - Global Witness
وأعربت بروس عن "قلق عميق إزاء تقارير تفيد بأن قوات الدعم السريع استهدفت عمدًا مدنيين وجهات فاعلة إنسانية في زمزم وأبو شوك"، في إشارة إلى مخيمي إيواء النازحين.
وقالت إن هجمات قوات الدعم السريع أوقعت 10 قتلى في صفوف عمال هيئة إغاثة تموّلها الولايات المتحدة.العام الثالث للحربودخلت الحرب المندلعة في السودان بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو، عامها الثالث.
واشتدت المعارك في إقليم دارفور غربي السودان بعد إعلان الجيش استعادته السيطرة على العاصمة الخرطوم.
وفي الأسابيع الأخيرة، صعّدت الدعم السريع هجماتها على الفاشر، عاصمة الولاية الوحيدة في دارفور التي لا تزال خارج سيطرتها.
وأعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مخيم زمزم حيث يواجه أكثر من 500 ألف نازح مجاعة، في هجوم يقول مسؤولون أمميون إنه أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص.

مقالات مشابهة

  • منظمات إغاثية تخشى سقوط مزيد من المدنيين على يد الدعم السريع
  • خارجية الدول السبع تتخذ موقفا من هجمات الدعم السريع على مخيمات النازحين
  • أمريكا تندد بهجمات قوات الدعم السريع على مدنيين في السودان
  • الجيش السوداني يعلن القضاء على 8 أفراد من قوات الدعم السريع
  • أمريكا تنتقد التصعيد.. الدعم السريع تعلن حكومة موازية في السودان
  • مجموعة السبع تندد بهجمات ميليشيات الدعم السريع ضد المدنيين في السودان
  • مجزرة في مدينة الفاشر.. الدعم السريع يقتل 15 شخصا ويصيب 20 آخرين
  • الفاشر في مرمى نيران قوات الدعم السريع.. تفاصيل
  • اتصالات النواب توصي بعدم إغلاق أي منافذ تابعة لمبيعات للمصرية للاتصالات
  • الدعم السريع يقصف مخيم أبو شوك بالفاشر ويجبر السكان على الفرار