ما يؤكده المؤرخون هو أن حياة الموارنة، منذ أيام بطريركهم الأول يوحنا مارون حتى اليوم، لم تكن سهلة أبدًا. عاشوا دائمًا في تحدّ مع الطبيعة وقساوتها، ومع جميع الذين راودتهم أحلام اليقظة بإخضاع جبل لبنان لهيمنة تعدّدت أسماؤها، ولكن هدفها الدائم كان واحدًا، وهو القضاء على جميع من كان يحمل اسم مارون، لأنهم كانوا حراس هيكل الحرية في منطقة لم تعرف أي معنى لهذه الكلمة، ولأنهم كانوا يرفضون باستمرار أن يكون الجبل مقرًّا لأي غازٍ أو محتّل أو مضطهد.
فتاريخ الموارنة حافل بالبطولات، وقد خرج من بينهم أكثر من قديس وشهيد، وعلى رأسهم بطاركة عظماء في تقواهم وتعّلقهم بأرض لبنان، الذي ذكره الكتاب المقدس سبعين مرّة. وإن نذكر منهم كمثال للشهادة والبطولة الايمانية نذكر البطريرك الشهيد جبرائيل حجولا، وكذلك البطريرك القديس اسطفان الدويهي، والبطريرك الياس الحويك، وغيرهم الكثير من البطاركة والرهبان، الذين ارتبط اسمهم باسم لبنان ورفعوه من خلال صومعاتهم ومحابسهم وصلواتهم وتجردّهم إلى أرفع المقامات في العالم، ومن بينهم قديسون كشربل ورفقا والحرديني والأخ اسطفان وأبونا يعقوب.
وعلى رغم الشدائد والاضطهادات والحروب التي خيضت ضدهم بقي الموارنة موحدّين خلف بطاركتهم ورهبانهم، ولم تنجح المؤامرات التي حيكت لتفريقهم وتشتيتهم في تحقيق ما سعى إليها أصحابها، الذين كانوا من الخارج والداخل، وقد أغاظهم كثيرًا هذا الصمود، وذاك التمسّك بإيمانهم وتعّلقهم بلبنان، الذي بقي صامدًا فيما رحل عنه جميع الغزاة والمضطهدين.
وبهذه الوحدة استطاع اتباع مار مارون أن يصمدوا ويقاوموا أعتى الجيوش ،وصولًا إلى ما شهده لبنان الحديث من احتلالات ووصايات مختلفة. ولولا هذه الوحدة لكانوا تفرّقوا وتشتتوا واندثروا كما اندثر غيرهم ولم يبقَ لهم أثر. صحيح أن التاريخ القديم لم يذكر الكثير من الاختلاف في وجهات النظر بين الموارنة أنفسهم في ما خصّ العقائد الايمانية، ولكنهم كانوا رزمة واحدة عندما كان الخطر الخارجي يدّق أبوابهم.
أمّا في تاريخهم الحديث فإن هذه الوحدة لم تعد تعني لقسم من الموارنة الشيء الكثير، خصوصًا عندما أسندت إليهم، عرفًا، الكرسي الرئاسي. فلا أحد ينكر مدى تأثير الخلافات إن على مستوى العائلة الروحية المارونية وإن على المستوى الوطني بين الرئيسين بشاره الخوري وأميل أده، وصولًا إلى الخلافات السلطوية العميقة بين فريقين مسيحيين على مشروعين متناقضين بين العماد ميشال عون يوم كان مترئسًا الحكومة العسكرية وبين رئيس الهيئة التنفيذية لـ "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع في "حرب الإلغاء"، وما نتج عنها من خسائر بشرية ومادية، وما تلاها من هجرة مسيحية واسعة إلى استراليا وكندا.
وعلى رغم انعكاسات هذه الحرب، التي أدّت في مراحل لاحقة إلى نفيّ العماد عون وسجن الدكتور جعجع، فإن الخلافات بين هذين الفريقين استمّرت سلبياتها على رغم اتفاق "معراب"، الذي لم يصمد طويلًا أمام التسابق على حجز مقاعد سلطوية متقدمة في دولة متهالكة.
أمام هذا المشهد المحزن يمكن القول إن مار مارون كان حزينًا في يوم عيده.
هو حزين لأن أتباعه لم يحسنوا الإفادة من إرثهم التاريخي العريق.
هو حزين لأن شهوة السلطة أعمت عيون الموارنة.
هو حزين لأن الكرسي المعطاة لأحد أبنائه شاغر.
هو حزين لأن أبناءه لا يعرفون تمام المعرفة ما هو دورهم في هذه المنطقة.
هو حزين لأن لبنان الوطن لم يعد رسالة.
هو حزين لأنه لم يعد لأصوات قرع أجراس الكنائس والأديرة الصدى الإيجابي في نفوس المؤمنين.
هو حزين لأن ابناءه ابتعدوا عن تعاليم يسوع المسيح.
هو حزين لأن من كان يُفترض بهم أن يكونوا ملح الأرض ونور العالم والخميرة الصالحة أصبحوا عكس كل هذا.
هو حزين لأن كل واحد من قطيعه الصغير أصبح يغنّي على ليلاه.
هو حزين لأن الأمانة لم تعد مصانة.
هو حزين لأن الايمان بدأ يضمحّل ويتلاشى ويخفت أمام شهوات كثيرة هي غريبة عن عادات وتقاليد، الذين بنوا بدمائهم وعرقهم أمجاد لبنان.
هو اليوم حزين أكثر من أي وقت مضى. المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
هل اقترب التطبيع بين لبنان وإسرائيل؟
بينما كان أعضاء حزب الله وأنصاره محتشدين في ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية في بيروت يوم الأحد لدفن زعيمهم حسن نصر الله، الذي قُتل في قصف لسلاح الجو الإسرائيلي في سبتمبر(أيلول)، تردد هدير بين الحشد.
لى الغرب أن يتصرف بشكل استراتيجي لدعم هذا التحول
اخترقت أربع طائرات مقاتلة إسرائيلية سماء الملعب في تحليق نقل رسالة واضحة تردد صداها في العالم. كانت الرسالة هي أن الطائرات هي المسؤولة عن مقتل نصر الله، وأن إسرائيل لن تتردد في ضرب قادة حزب الله الآخرين إذا اقتضت الضرورة، حسب ياكوف كاتز، باحث في معهد سياسة الشعب اليهودي.وضمت المقاتلات طائرتان نفاثتان من الجيل الخامس من طراز إف-35، واسمهما بالعبرية "أدير"، الذي يعني "القوة"، أما الطائرتان الأخريان فمن طراز إف-15 بعيدة المدى، والمعروفتان بـ "ثاندر" أي رعد.
#Hezbollah daily says #Lebanon government is preparing for normalization with #Israel, and threatens with civil war if the state chooses peace.
No mincing of words here.
Hezbollah and Lebanon cannot exist. One must die for the other to live.https://t.co/IfJzHBoaE1
وكما ذكر الجيش الإسرائيلي في وقت لاحق، كان العرض بمنزلة "رعد قوي" سُمع صداه في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
كان هذا التحليق الدرامي أكبر من مجرد لفتة رمزية. قبل اندلاع الحرب بـ16 شهراً، لم تكن إسرائيل لتحلق فوق تجمع لحزب الله للاستعراض. كان الظن الأول أن يؤدي احتمال شن ضربة انتقامية إلى صراع أوسع نطاقاً.
وفي هذا الإطار، أوضح ياكوف كاتز، في موقع مجلة "نيوزويك" الأمريكية، أن سبب قدرة إسرائيل على ذلك اليوم هو أن المنطقة تغيرت في أعقاب الحرب التي أُجبرت إسرائيل على خوضها بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وقرار حزب الله اللاحق بالانضمام إلى المعركة.
تراجع حزب الله ووكلاء إيران
يشهد الشرق الأوسط الآن حالة وقف إطلاق نار هش بين إسرائيل وحزب الله، الذي من المفترض أن يبقى خارج جنوب لبنان. تم القضاء على قيادة حزب الله، وتعرضت بنيته التحتية في جنوب لبنان لتدمير واسع النطاق. وتحولت مراكز القيادة ومرافق تخزين الأسلحة، التي كانت تشكل العمود الفقري لقدراته العملياتية، إلى أنقاض.
وفي غزة، في حين ما تزال حماس في السلطة، فإنها ما تزال بلا شك ظلاً لما كانت عليه في السادس من أكتوبر (تشرين الأول). وفي سوريا، سقط نظام بشار الأسد، وأصبحت إيران ــ الممول الرئيس لحزب الله ــ في وضع ضعيف على نحو متزايد.
وأدى فقدان وكلاء حزب الله، إلى جانب القصف الإسرائيلي الذي دمر أنظمة الدفاع الجوي الروسية المتطورة، إلى جعل إيران أكثر عرضة للخطر من أي وقت مضى.
ويقدم هذا الوضع، خاصةً في لبنان، للغرب فرصة فريدة من نوعها. ويبدو أن القيادة الجديدة في بيروت ملتزمة ظاهرياً على الأقل بمواجهة حزب الله ومنعه من إعادة التسلح.
????????????️????????????️????????????️????????????️????????????️????????
A Unique Opportunity for Israel to Normalize Ties With Lebanon https://t.co/TQRvs4plAb
وأعرب الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام عن رغبتهما في تقليص النفوذ الإيراني على لبنان وتفكيك قوة حزب الله غير المتناسبة في هذا البلد الممزق.
على سبيل المثال، حظرت الحكومة الجديدة الرحلات الجوية من إيران إلى لبنان بعد أن هددت إسرائيل بإسقاط أي طائرات يشتبه في استخدامها لتهريب المواد المحظورة إلى البلاد.
في الوقت نفسه، يخضع الشعور العام في لبنان إلى نوع من التحول. فقد تزايدت الانتقادات الموجهة لحزب الله، وتشعر وسائل الإعلام اللبنانية التي كانت حذرة ذات يوم بالجرأة للتشكيك في الرواية التي طالما تبناها التنظيم بأنها حامية للشعب اللبناني.
وتضج وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات لتفكيك حزب الله، بل إن بعض اللبنانيين يدعون إلى التطبيع مع إسرائيل، وهو الأمر الذي كان يبدو مستحيلاً قبل بضعة أشهر.
الدور الأمريكي في تطبيع لبنان
وتتمتع الولايات المتحدة وأوروبا بنفوذ كبير للمساعدة في تحقيق ذلك، لكنهما لا تستطيعان القيام بذلك بمفردهما؛ وسوف يتطلب أي تقدم شجاعة دبلوماسية في القدس وبيروت.
ويسعى عون إلى تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، التي تقدم بالفعل دعماً كبيراً للقوات المسلحة اللبنانية من خلال المساعدات المالية وإمدادات الأسلحة وبرامج التدريب.
وبوصفه قائداً سابقاً للقوات المسلحة اللبنانية، يدرك عون أن تحسين قدرات القوات المسلحة اللبنانية وضمان قدرتها على مواجهة حزب الله بفعالية يتطلب المزيد من المعدات الحديثة والدعم الاستراتيجي. وهذا يمنح الإدارة الأمريكية نفوذاً في المفاوضات.
لكن على الجبهة الإسرائيلية، فإن التوتر المستمر في غزة وتهديد تجدد الصراع يجعل من الصعب تحقيق التقدم، حسب الكاتب. وكما تنتظر المملكة العربية السعودية انتهاء الحرب، لا يمكن أن يحدث الكثير مع لبنان قبل انتهاء القتال.
ورأى الكاتب أن الرئيس دونالد ترامب في وضع فريد يسمح له باغتنام هذه اللحظة. فهو يهدف إلى أن يُنظَر إليه باعتباره صانع صفقات وصانع سلام، ومع مرور الشرق الأوسط بواحدة من أكثر لحظاته تحولاً في تاريخه المتقلب، هناك الآن فرصة لبدء عصر جديد من التعاون والاستقرار الإقليمي.
على الشعب اللبناني أن يساعد نفسه
في نهاية المطاف، يقول الكاتب، يقع العبء الحقيقي للتغيير على عاتق الشعب اللبناني نفسه. ويقع على عاتقه مواصلة الضغط على حزب الله وأن يضمن عدم إعادة تسليح الجماعة.
لفترة طويلة، قدم حزب الله نفسه كمدافع عن الشعب اللبناني. وبعد سنوات من الخراب المالي والآن حرب أخرى، يدرك الشعب اللبناني زيف هذه الرواية. وهم وحدهم القادرون على تغيير مستقبلهم.
واختتم الكاتب مقاله بالقول: "يقف لبنان عند مفترق طرق. وإذا اغتنم قادته وشعبه هذه اللحظة، فسوف يتمكنون من تحرير أنفسهم من عقود من الحرب. ويتعين على الغرب أن يتصرف بشكل استراتيجي لدعم هذا التحول. ويتوفر الخيار والفرصة الآن".