المشرق العربي في مهبّ التغيرات
تاريخ النشر: 10th, February 2024 GMT
المشرق العربي في مهبّ التغيرات
شكلت حرب غزّة ودينامياتها متغيّرا مهمّا سينتج انعكاسات على خطوط الصراع ومواقع اللاعبين.
الصراع يحوّل المشرق العربي لساحة اختبار لمعادلات القوى وموازينها ولأن التعايش بين مشاريع اللاعبين الخارجيين خطأ لا ينبغي تكرارُه.
يتوقع أن تدوم الحرب طويلا في المشرق العربي، وانتظار الخرائط الجديدة التي سيفرزها التطاحن الحاصل، والذي يأخذ نمط صراعات وجودية.
بالنسبة لإيران، بات الوجود الأميركي في المشرق يشكل عائقا أمام نفوذٍ في العراق وسورية ولبنان، ففي هذه البلدان يسيطر حلفاء إيران، على السلطة.
مرحلة تطوي أذيالها وترحل، بعد انتهاء بنوك أهدافها وتحول فعاليّاتها إلى مجرد أفعال نمطية صار الفاعلون معها يخشون تأثيرها على مستقبل مشاريعهم.
تعايش المشروعان الأميركي والإيراني في المشرق العربي بحصص تتناسب مع قدرة كل طرف على هضم ما تحصل عليه وقدرة أدواته على إدارة هذه الحصّة، لكنها مرحلة انتهت.
اكتشفت إيران أن لها قدرات تشغيلية فاعلة لم تختبر بعد فيما لمست إدارة بايدن التي طالما تعايشت مع مشروع إيران بالمنطقة، أن نفوذ أميركا على المحك.
* * *
تؤشّر اتجاهات الأحداث التي تتفاعل بقوة في المشرق العربي إلى ولادة مساراتٍ نعرف بداياتها، لكننا نجهل مساربها وتفرّعاتها ونهاياتها، فكل الديناميكيات التي ولّدتها تحولات السنين الأخيرة وصلت الى حد الانفجار لصناعة الشكل الجديد للمنطقة، بعد اكتمال مراحل التجريب والاختبار وتجهيز البنى التحتية.
وما بين احتلالاتٍ ومناطق نفوذ وصراعات أهلية، طائفية وعرقية، وثورات شعبية وثورات مضادّة، يبدو أن مرحلة تطوي أذيالها وترحل، بعد انتهاء بنوك أهدافها وتحوّل فعاليّاتها إلى مجرد أفعال نمطية صار الفاعلون معها يخشون تأثيرها على مستقبل مشاريعهم، وبالتالي صار لزاما ترشيق خططهم عبر نقلها من تصاميم الخرائط الى التنفيذ الحي.
أبطال هذه المرحلة هم أنفسهم أبطال المرحلة السابقة، إيران والولايات المتحدة، الطرفان اللذان سيطرا على المشهد المشرقي وشكّلاه بمساطر وبيكارات معيّنة، بعد أن ورثت واشنطن وطهران القوى المحلية وسجلتاهم في خانتيهما، وكلاء للمشروع الجيوسياسي لكل منهما، وموظفين يتبعون تعليمات المركز.
تعايش المشروعان في المشرق العربي، كانت الحصص تتناسب مع قدرة كل طرف على هضم ما تحصل عليه وقدرة أدواته على الأرض في إدارة هذه الحصّة، ولكن يبدو أن هذه المرحلة انتهت.
فقد شكلت حرب غزّة والديناميكيات الناتجة منها متغيّرا مهمّا سيكون له انعكاسات على خطوط الصراع ومواقع اللاعبين، فقد اكتشفت إيران أن لديها قدرات تشغيلية فاعلة لم تكن مختبرة بعد، فيما لمست إدارة بايدن، التي طالما فضلت التعايش مع مشروع إيران في المنطقة، أن مستقبل النفوذ الأميركي في المنطقة بات على المحك.
بالنسبة لإيران، بات الوجود الأميركي في المشرق يشكل عائقا أمام نفوذٍ في العراق وسورية ولبنان، ففي هذه البلدان يسيطر حلفاء إيران، على السلطة. وبالتالي يتحكّمون في مصائر تلك البلدان، وتشكّل الظروف الإقليمية والدولية فرصة مثالية لإيران لإعلان استتباع هذه الدول، الولايات، نهائيا، إلى المركز في طهران، التي ستتحوّل إلى عاصمة الإقليم، والناطقة باسمه، والمتحكّمة بتفاعلاته وتوجهاته.
يبقى الأردن خارج هذه الخريطة، فشلت كل محاولات إيران الناعمة لجذبه الى مدارها، ما دفعها إلى استخدام الأساليب الخشنة لتسريع ضمّه الى كوكبة البلدان المشرقية الواقعة ضمن تأثيرات المجال الإيراني، مستثمرة الحرب في غزّة لتسريع عملية صناعة حواضن أردنية لها ودعمها بالسلاح والمال، عبر إشراكها في تجارة المخدّرات، وإن ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليها وكشفها، ويشيع حلفاء إيران أن هذه الأسلحة كانت في طريقها الى الضفة الغربية للمساعدة في مواجهة الحرب الإسرائيلية!
بالنسبة لأميركا، لا تستطيع إدارة بايدن تكرار تجربة الانسحاب الأميركي المُذل من أفغانستان، بعيدا عن الأصوات التي تنادي في واشنطن بسحب القوات الأميركية من سورية والعراق، فإن الحسابات الإستراتيجية الأميركية تخالف تماما هذه الرغبات.
إذ سيكون من غير المنطقي، في ظل تشكيك أطراف دولية بقدرة واشنطن على إدارة التفاعلات الدولية، أن تنهزم أميركا أمام قوة إقليمية بحجم إيران، فضلا عن أن الوجود الأميركي في العراق وسورية يتعدّى، في دوره ووظيفته، مجرّد مناكفة طهران بقدر ما هو جزء من حسابات واشنطن في الصراع مع الصين وروسيا على النفوذ في المنطقة.
بعد الحرب على غزّة، تغيّرت حسابات الفاعلين في المنطقة، وتغيّرت طرائق تفكيرهم، فالجميع، بطريقة او أخرى، انخرطوا في الحرب الدائرة على أرض فلسطين، اكتشف الجميع أن المعادلات التي جرى إرساؤها سابقا لم تعد مناسبة، فالجميع اختبروا قواهم واكتشفوا نقاط الضعف والقوة لديهم ولدى خصومهم، وثبت من مجريات الحرب أن لكل الأطراف، وفي ظل الاصطفافات والانقسامات الداخلية والخارجية، حواضن مستعدّة لتقديم الدعم للحرب الى حدود بعيدة، ما يغري القيادات بتوسيع رقع الحرب والذهاب بعيدا بها.
ولعل ما يعزّز احتمالية السير في الحرب الى نهاياتٍ غير متوقعة، اكتشاف اللاعبين أن الفوز بمعركة أو ساحة لا يعني الفوز بالحرب، في ظل الترابط الهائل بين القضايا والمشاريع وتداخل الجغرافيا، إذ على مدار العقد الماضي جرى تفكيك وإعادة تركيب المنطقة على كل المستويات، وتداخلت مكوّنات أزماتها وقضاياها بشكلٍ يصعُب تفكيكها.
وبالتالي، أي تغيير في ساحة معينة سينعكس حكما على جميع الساحات، ما يستدعي الحسم في كامل البقعة الجغرافية للمشرق العربي إن أراد أيٌّ من أطراف الصراع تحقيق النصر في هذا الصراع.
لم تعد نظرية الفراغ تصلح لتحليل الواقع في المشرق العربي، بعد أن ملأ الفاعلون الخارجيون كامل الفضاء المشرقي، وأخرجوا نهائيا الفاعلين المحليين من سلطة القرار، وبالتالي، لا نستطيع الحديث عن مصالح شعوب المنطقة وتوجّهات النخب السياسية فيها، حيث لا ملامح لشعوب ونخب ولا تأثير لهذه المكوّنات على مجريات الأحداث!
وهذا يجعل الصراع أشدّ قساوة ويحوّل المشرق العربي إلى مجرّد ساحة اختبار لمعادلات القوى وموازينها، ولأن التعايش بين مشاريع اللاعبين الخارجيين صار خطأ لا ينبغي تكرارُه، فلنا توقع أن تدوم الحرب طويلا في المشرق العربي، وانتظار الخرائط الجديدة التي سيفرزها التطاحن الحاصل، والذي يأخذ نمط صراعات وجودية.
*غازي دحمان كاتب وباحث سياسي سوري
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أميركا إيران المشرق العربي المليشيات الإيرانية الحرب على غزة البنى التحتية فی المشرق العربی الأمیرکی فی فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
دروس الثورة السورية
لعلي ممن يعتبرون أن تحرير سوريا قد تم بمعية الله، حيث تم بشكل لا يمكن تصوره أو توقعه بالطريقة التي تم بها. وكل ثورة تواجه ثورتين كأمر طبيعي وقد ذقنا مرارتهما في مصر بعد ثورة يناير، وهما أولا: الثورة المضادة يديرها من قامت عليهم الثورة ومؤيدوهم وأصحاب المصالح المتضررة وكل الدولة العميقة وبقايا النظام القديم، وهذا الأمر لا بد من مواجهته بالعقل والحكمة والوعي والحسم السريع في نفس الوقت. ثانيا، ثورة التوقعات، وتلك هي الأخطر لأن أصحابها هم المحرومون، من الشعب الذي حُرم من حقوقه لسنوات طويلة فيجد في الثورة فرصة لحريته وطلباته واحتياجاته الكثيرة المتعددة فيبدو كأنه خرج من نعين السلطة السابقة إلى جحيم الإدارة الجديدة، وهذا يحتاج بجانب الحكمة والصبر سعيا كبيرا لمحاولة إشباع احتياجات الناس الأساسية دون الرضوخ لتنفيذ ما لا يمكن تنفيذه ولا الإمكانات تسمح به.
والدروس التي يمكن أن يتعلمها الإخوان المسلمون وكل الطيف الوطني المصري من تطورات الصراع في "تحرير سيناريو الصراع السوري"، في إشارة إلى الثورة السورية والمواجهات ضد نظام الأسد منذ 2011، تعتمد على قراءة الأحداث ونتائجها المعقدة، والتي تشمل تدخلات إقليمية ودولية وعوامل داخلية. وهنا نناقش معا بعض الدروس المهمة:
الدروس التي يمكن أن يتعلمها الإخوان المسلمون وكل الطيف الوطني المصري من تطورات الصراع في "تحرير سيناريو الصراع السوري"، في إشارة إلى الثورة السورية والمواجهات ضد نظام الأسد منذ 2011، تعتمد على قراءة الأحداث ونتائجها المعقدة، والتي تشمل تدخلات إقليمية ودولية وعوامل داخلية
1- خطر التشرذم وغياب الوحدة الثورية
- أحد أسباب فشل المعارضة السورية في تحقيق أهدافها كان الانقسام الحاد بين الفصائل الإسلامية والعلمانية، المدعومة من دول مختلفة).
- الدرس: الوحدة التنظيمية والاستراتيجية بين القوى المعارضة ضرورية لمواجهة نظام قوي مدعوم إقليميا ودوليا، بغير ذلك ستمر سنون والجميع يناوش الجميع بعيدا عن المستهدف.
2- التدخل الخارجي سلاح ذو حدين
- اعتماد بعض فصائل المعارضة على دعم خارجي (تركيا، الخليج، الغرب) خلق تبعية وأضعف شرعيتها الشعبية، خاصة مع تناقض أجندات الداعمين.
- وهذا يمهد بل يؤكد أن التحالفات الخارجية يجب أن تُدار بحذر لضمان عدم فقدان الاستقلالية أو تحويل الصراع إلى وكالة لمصالح أجنبية. فالقضية مصرية خالصة لن تحقق هدفها لو تلونت بغير حقيقتها
3- خطورة العسكرة المفرطة دون استراتيجية سياسية
- تحول الثورة السورية من حركة احتجاجية سلمية إلى صراع مسلح بفعل عنف النظام وأطراف أجنبية أدى إلى تدمير البنية الاجتماعية، وتصاعد التطرف، وتشويه صورة الثورة دوليا.
- ورغم أن هذا لا يناسب الحالة المصرية رغم العنف الذي مورس ضد الثوار في الشوارع والمساجد والسجون، وهنا تظهر عبقرية الشعار في وقتها "سلميتنا أقوى من الرصاص"، لكن لا بد من العلم بأن الجمع بين المقاومة الخشنة والدبلوماسية السياسية ضروري، مع الحفاظ على الخطاب المعتدل لجذب التعاطف الدولي.
4- القمع الأمني قد يضعف الثورة لكنه لا يقتل روحها
- نظام الأسد استخدم القوة المفرطة (مثل مجازر حماة وحمص وحلب)، لكن ذلك لم يُنهِ الثورة، بل زاد من شراسة المقاومة.
- وهذا رغم تكراره بغباء في بعض المواقف بشكل أقل في مصر اعتمادا لفكرة الردع الذي يخيف الناسـ، لكنه زاد أهل الثورة إصرارا على التغيير لذا فالصمود التنظيمي والقدرة على إعادة البناء رغم القمع هي مفتاح الاستمرارية، مع تجنب التكرار في السياسات والتكتيكات الفاشلة المجربة من قبل.
5- أهمية الحاضنة الشعبية والخدمات الاجتماعية
- في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، مثل إدلب، كانت الفصائل الأكثر نجاحا هي تلك التي وفرت خدمات أساسية (مستشفيات، مدارس) للحاضنة الشعبية، بل وقد مكنها هذا من تصدير خبراتها للدولة الأم فيما بعد.
-وهذا يؤكد على نهج الإخوان في بناء شرعيتهم عبر الخدمات اليومية والتي يمكن بها كسب التأييد الشعبي أكثر من الخطاب الأيديولوجي المجرد.
6- التحديات الأيدولوجية والهوية
- ظهور جماعات متطرفة (مثل داعش) شوّه صورة الثورة السورية، وأعطى النظام ذريعة لقمع المعارضة تحت مسمى "مكافحة الإرهاب". والكل يعلم من أنشأ هذه التنظيمات المتطرفة التي لم تقتل عدوا بل كل قتلاها من "المسلمين المرتدين" وجعلها مسمار جحا في كل مكان أراد لأصحابها والنظم الفاشية الوصول إليه أو البقاء فيه.
- وهنا مع كل الحذر يجب الفصل الواضح بين الخطاب الإسلامي المعتدل والمتطرف، مع تعزيز الهوية الوطنية الجامعة لتجنب الاستقطاب الطائفي.
7- الدور الإعلامي وحرب السرديات
- نجاح نظام الأسد في تصوير المعارضة كـ"إرهابيين" عبر الإعلام الدولي مما أضعف موقف الثوار لفترات طويلة، وحتى الآن المغرضين لا يذكرون أحمد الشرع إلا "أبو محمد الجولاني" إمعانا في تشويه الصورة الذهنية.
- وهنا لا بد أن ندرك أهمية الإعلام وضرورة استثمار الموارد البشرية والمادية في الإعلام الدولي والمحلي لنقل الرواية الحقيقية للصراع، وكسب التعاطف المحلى والعالمي.
8- الواقعية السياسية مقابل المثالية الثورية
- لعل هذا اتضح أكثر بعد وحدة الفصائل وممارسة دور سياسي بامتياز خاصة في إدلب ومن ثم بعد التحرير الكامل لسوريا. ولعل الحوار مع الاستعداد للحسم العسكري تكون له الأولوية في إنهاء مشكلة قسد المدعومة أمريكيا وصهيونيا في شمال شرق سوريا.
- وهنا لا بد أن ندرك لكل مقام مقال ولكل حال مآل، فالمرونة في التفاوض وقراءة موازين القوى قد تحقق مكاسب جزئية بدلا من خسارة كل شيء.
9- التكيف مع التحولات الجيوسياسية
- التدخل العسكري الروسي المباشر عام 2015 غيّر مسار الحرب لصالح النظام، مع الدعم الإيراني المباشر وقتها مما يُظهر أهمية قراءة الخارطة الجيوسياسية وتأثير القوى العظمى.
- لهذا لا يمكن فصل الصراع الداخلي عن الصراعات الإقليمية والدولية؛ مع ضرورة تطوير استراتيجيات تتكيف مع هذه الديناميكيات في الإقليم والعالم.
10- دور المجتمع الدولي بين الوهم والواقع
- الاعتماد على وعود المجتمع الدولي (مثل قرار تدخل أمريكا في عهد أوباما بعد مذبحة الغوطة واستعمال الكيماوي، ثم التخلي ببساطة عن ذلك لمصالح أخرى)، فقد تبين أنه وهمي، حيث لم تتحرك القوى الكبرى لوقف مجازر النظام.
- وهنا نعيد التأكيد على أنه لا يمكن الاعتماد على الضمير الدولي؛ بل القوة الذاتية والحلول المحلية هي الضمانة الوحيدة.
الخلاصة:
تجربة الصراع السوري تُظهر أن النجاح في مواجهة الأنظمة الاستبدادية يتطلب توازنا دقيقا بين:
- الوحدة الداخلية والمرونة السياسية.
- المقاومة المسلحة والدبلوماسية.
- بناء الشرعية الشعبية عبر الخدمات لا الأيديولوجيا.
- تجنب الاستقطاب الطائفي أو التطرف.