سودانايل:
2024-12-19@01:01:58 GMT

اعلام قصف الوعى بالتفاهة

تاريخ النشر: 9th, February 2024 GMT

وجدي كامل
عوامل، واسباب، وحقائق شتى تتشابك في صياغة انواع من الخطابات والسلوكيات الاعلامية المؤثرة على الاخلاق. فمنذ انطلاقة عصر تكنولوجيا الاتصال وتطور تبادل الرسائل الالكترونية بين الناس يساهم الانفجار المعلوماتي الهائل في بناء معرفي واسع وعميق بات يغطي تفاصيل التفاصيل ويخلق مفاهيم جديدة عن الحياة في نسخها الاخيرة.

غير إن شعبوية وسائل التواصل بما اتاحته وتتيحه من حرية تعبير في ابداء الآراء والافصاح عن الافكار غدت تشكل مخاطر اخلاقية جمة بما تحمله صناعة المحتوى من رسائل تعمل على تأييد انحراف التفكير ، والقيم، والنظم، والتقاليد التي سادت. فبواسطة بث الافكار السامة التي تتنشط في تجريد الجماعة والافراد من اهم واخص الصفات التاريخية المتعلقة بوجودهم يذهب التطورالزمني بخيبات امل متسلسلة وصاعدة. فادارة وانتاج الوسائل اصبحت تقع باياد تجيد صناعة الرسائل القذرة التي تعمل على قصف الوعى بالمعلومات وبالاخبار الكاذبة، ان لم نقل انها تقصف الوعى بالتفاهة بما تعيد من انتاج التخلف كما انتاج مناطق انخفاض الوعى كمجال خصب لانطلاق عملياتها.
غير ان من اخطر مظاهر التوظيف لثقافة التفاهة هو ما يتم برعاية الحكومات والانظمة السياسية التي تستعين بوسائل التواصل بملكيات مباشرة وغير مباشرة تعمل بالوكالة عبر الناشطين الاجتماعيين ومعلقين سياسيين، و فنانين، وفنانات، وممثلينن ونشطاء للبث المباشر بما يمضون عليه قدما لتخريب الوعى، وخاصة وعى الجماعة بمسؤولياتها والحرص على تجريدها من طاقة اخلاق التضامن الجمعي فتعمل على تفريغ المجتمعات من حمولات الوعى الايجابي المؤثر في التطور وتحوله الى الى الضد والتضاد المواجه. وتقوم عروة وثقى بين نظام التفاهة السياسي والاقتصادي والثقافي بحيث يتم تبادل الادوار والعمل ضمن استراتيجية تفرغ المجتمعات من المسؤلية الجماعية الى المسؤلية الفردية وتربية نزعات الانانية وحب الذات بدلا عن تخليق التضامن الجمعي ودعمه بغايات لاحداث النهضة وتنمية البشر.
وكما يناقش عالم الاجتماع البولندي زيغموند باومان القضية في ظاهرة تبدد فرص الاخلاق في عالم معولم فان طابع السيولة الاخلاقية هو ما يحكم هذا العالم. ويعتقد باومان ان اولى مستهدفات التدمير بواسطة الاعلام هو بناء المسؤلية الجماعية الذي يتحول الى مسؤلية ذاتية غالبا ما تقود الى اغلاق باب التضامن الاجتماعي والاستثمار في الذات حسب مقتضيات السوق الاستهلاكية.
ونتيجة لذيوع هذا النوع من الاستثمار الوعر تتعزز قيم الانانية على حساب قيم التضامن . ويرى زيغمونت ان القصف بالسلع عبر الاعلانات مظهرا من مظاهر تسليع العلاقات حتى بين افراد الاسرة الواحدة. فالافراد وتحت ضغط اغراءات الاعلانات يضطرون الى البحث عن السعادة بقضاء الاوقات الطويلة خارج اسرهم وهجر نظام التعايش لاجل مراكمة المال الذي يمكنهم من شراء وامتلاك المزيد من السلع التي يظنون انها تشكل عملة التعويض الذهبي للسعادة. غير ان باومان وفي ظروف اخرى واوضاع استثنائية تعيشها البشرية في دورة الحروب لا يلقي النظر بعناية لمخاطر المواد الدعائية والدس الخبري والمعلوماتي المكون والراعي لحروب موازية.
هذا ما نعايشه كسودانيين في هذه الحرب التي توظف نظام التفاهة الثقافي لإفساد المزيد من القيم وتدفع بالناس الى المحرقة غير مكتفية بالدفع الفيزيائي لهم عبر التجنيد والاستنفار والقصف بالاسلحة من دانات وبراميل متفجرة وغيره .
ان قصف الوعى بالمعلومات والاخبار الكاذبة والذي يتورط في نشاطاته التخريبية عملاء الطرفين من الإعلاميين الالكترونيين واحترافهم صناعة الشائعة يغدو قصفا اشد ايذاءا وضررا من القصف الفيزيائي الذي يسبب الاعاقة في الاجساد، بينما الاخر يسبب الاعاقة في الاخلاق والعقول ما يصعب معالجته في احدث النظم الصحية العقلية والنفسية.
ان المشهد الذي نحن عليه حاليا من السيولة الاخلاقية لا تقوم ببطولته حفنة من داعمي الحرب (البلابسة) من الاخوان المسلمين والمستنفرين الجهلاء بحقيقة مرامي واهداف الحرب. فالحرب وفي التعريف الباطني لها هى المعركة لاجل السيطرة على الثروات واقصاء السودانيين المدنيين بمسوغات سياسية ووطنية ماكرة من الطرفين. ولكن فان الذين يقومون بدور البطولة المطلقة فيها هم الاعلاميون من بائعي الذمم الذين يتصدرون الشاشات والفيديوهات الحية بالفيس بوك، وتسجيلات الواتساب الصوتية بما يبثونه من اخبار كاذبة، ويمارسونه من عروض شائهة وشائنة لتخريب الوعى بغرض كسر ارادة التفكير الوطني الحر المناوئ للحرب. لا احد منهم من مصلحته ان يرى الناس الحقيقة كما هى عارية والحرب كتدبير اخواني مكتمل الاركان. لا احد يريد ان يفهم الناس ان هذه الحرب بين عدوين ضخمين استثنائين للشعوب السودانية في اتحادها المزمع كان عقده بعد الثورة.
نعم انها حرب ضد المجتمعات في وحدتها وتضامنها ومسؤولية افرادها المتوقعة المنتظرة تجاه بعضهم البعض عندما يصبح القتل، والازاحة بالعنف، والتخلص من المواطنين بالتهجير اهم اغراضها بتدميرهم كمخزونات انسانية اولا وثورية تناضل لاجل حماية وجودها عبر حفظ حقوقها وممتلكاتها.
ان مسؤلية صيانة التضامن الاجتماعي في هذه الظروف البالغة السوء تصبح المسؤلية الطليعية المتقدمة والتي على قوى الثورة انجازها بشتى الطرق التي وفي اولها ضرورة التحلي بوحدة لرؤيا وطنية مستقبلية تحافظ على القيم الاخلاقية الجوهرية من التعايش الجمعي والاشتراك في المواطنة. انما هو آي ومستعجل يتمثل في دحر كافة عروض الدعاية الخبيثة التي يبثها المرتشون والموظفون الامنيون من جمهرة الاعلاميين والاعلاميات بمقاطعة العروض الرخيصة – عروض التسجيلات الصوتية الصفرية لهم ونقل حفلات القونات والمخنثين التي تمجد الحرب وتضرب بشتى بقاع الهجرة والنزوح السوداني الحالي بدول العالم بحيث تبدو في نسبة من الانشطة الاجتماعية العامة منها غيرمعنية بما تجري من احداث مأساوية وكوارث. ان الجميع مدعو الآن للانخراط في صناعة تضامن جديد ووحدة وطنية واقعية منتجة غير متخيلة تستثمر في الاتفاق بدلا عن الإنشقاق.

wagdik@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح

لم يكن خالد نبهان جَدّا عاديا، بل لم يكن أيضا شهيدا عاديا، كان قصة أحزان وأشواق دخلت كل بيت في العالم تقريبا، ورأى الناس كيف رسم بكلماته الجريحة قصة من أروع قصص الفراق الدامي في غزة.

فبعد طول انتظار وترقب التحق خالد نبهان بحفيدته "روح الروح" والتحف البياضَ الذي كان قد وخَطَ رأسه ولحيته، وكساها هيبة ووقارا، ازداد إشعاعها وهو يغادر الدنيا شهيدا مبتسما.

ما كانت الشهادة تخطئ أبا ضياء خالد نبهان، إلا لتصيبه في مقتل من الروح، وشغاف من الفؤاد.

قبل نحو عام من الآن، التحف نبهان الصبر وهو يحتضن حفيدته ريم ويقبل جسدها الصغير، كالوردة متلفِّعة بلون شقائق النعمان، إلا أنها محمرة بالدم القاني، مثل شقائقها اللائي سبقنها من كل بيت، بعد أن كسرت تلك العظام الرخوة والجسد الغض البريء قاذفات اللهب الإسرائيلية.

انتشل خالد نبهان حفيدته الصغيرة ريم من تحت الركام، ولم يكن يصدق أن عمرها البهيج قد أوقفه الجيش الإسرائيلي عند 3 سنوات، وأن ضحكتها التي كانت تملأ البيت سعادة، قد تحولت إلى نشيج دائم، وأن صورها البراقة، قد تحولت إلى أطياف محلقة تؤرق الليل وتهيج الذكرى، وتستدر الدمع النبيل.

يتمسك الجد الوقور، بالجثمان الصغير، يشمه ويقبله، ويضمه إلى صدره، ويتمنى لو انطلقت من ذلك الكفن الوديع ضحكة طفولية، لتقول له إن الأمر مزحة كله.

إعلان

لكن "روح الروح" كانت حقيقة في قربها ومأساتها، وحقيقة أخرى صارخة هي أن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة لم تكن تفرق بين صغير أو كبير بين مدني أو مقاتل، فقد كان التطهير العرقي والإبادة الجماعية والعدوان يستهدف كل ما يرف للحياة من جفن في القطاع المدمر كما يقول الكثيرون.

الشيخ المحتسب الصبور، خالد النبهان، يسلم الروح شهيدا في #غزة، ملتحقا في الأعالي بحفيدته الصغيرة التي دعاها "روح الروح" يوم فقَدها.. اللهم اجمعهما في علِّيين pic.twitter.com/G6s5U1uklz

— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) December 16, 2024

ذكرى الميلاد وموعد الرحيل

في ديسمبر/كانون الأول، ولد الجد والحفيدة وفيه رحلا معا في عامين متتاليين، ففي العام الماضي، ودعت الصغيرة قبل نحو شهر من عيد ميلادها الرابع.

وفي حين كانت الصغيرة تنتظر تلك الذكرى العطرة، كان الجد الحنون يعد ما يليق بتلك اللحظة الشذية بالمشاعر والأحاسيس الرقراقة، وكانت المصادفة الأكثر حلاوة في الأمر أن الجد وحفيدته يلتقيان في شهر ميلاد واحد، وكم كان للفرح من أرجوحة في قلب الشيخ النبيل، وكم كان للسعادة من وردة متفتقة، ولحن طفولي عذب في القلب الصغير للوردة ريم الصغيرة المذبوحة برصاص إسرائيلي.

بعد أشهر قليلة ولدت لخالد نبهان حفيدة أخرى أطلق عليها اسم "روجاد" ويعني وقت صلاة الفجر، أي وقت انبلاج النور من رحم الظلام، ووقت انطلاق عصافير الحياة مرفرفة في الكون الذي لم يعد فسيحا، منذ أن أصبحت أزهاره وعصافيره هدفا لقناص إسرائيلي يرسل الموت شراكا قلّ أن ينجو منه جد ولا حفيد.

ورغم عمق المأساة والألم الذي أحدثه رحيل "روح الروح" فقد ظل الجد خالد ذا روح مفعمة بالحب والجمال، كان حاضرا بقوة في الإنقاذ والتثبيت، مالكا لأسلوب رائع في تخفيف المآسي على قلوب الصغار، يملك روحا مشرقة، وخطابا إيمانيا متوثبا، ويعيش عالما من الرضا، يلين راسيات الجبال، ويذيب -لو كان لفراق روح الروح من سلوان- ما يراكمه الحزن اللاهب من جبال ألم، وما يسقي من أودية أشجان.

في الخالدين يا روح الروح
أبو ضياء شهيداً
عوَّضك الله الجنة على صبرك وإيمانك
وجمعك بحفيدتك في جنَّات النعيم pic.twitter.com/UkXg9EMKwg

— أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) December 16, 2024

إعلان غدا نلقى الأحبة

ريم وخالد حفيدا خالد النبهان، روحان من وهج الحياة المحروقة في غزة، وقصتان من بين عشرات الآلاف من القصص الموحدة العناوين المختلفة، في حين تغرز من مخالب الألم في تلك القلوب الرطبة والأجساد الصغيرة، إنها قصة قتل الحياة، وسفك دم الطفولة الرقراق.

لكن خالد كان من بين أفصح الجراح التي تمشي على قدمين، وأبلغ الأصوات التي تتحدث بلسان، كان صوته وصِيته وبسمته وحزنه وأشواقه رسائل تدك العالم كله، تتحطم أمامها أسوار التجاهل، فقد كانت عبارة روح الروح تهز ما بقي من روح في العالم المبَنّج.

ولأن روح خالد كانت قد حلقت في عالم الأشواق، يوم أرخى للحزن زمامه أسفا على روح الروح، فقد كان يحث السير ويترقب الرحيل كل حين، وفي واحدة من آخر تغريداته على حسابه على الإنستغرام، كان الرجل ينظر من سجف الغيب، ويهتف عبر ستائر الأشواق إلى حفيديه، بأنه قادم إليهما قريبا "هل نلتقي؟ فالبُعد مزّق خافقي. هل نلتقي من بعد شوق مُحرق؟ صدقا، توقفت الحياة، وما لها في ليل هجرك أي فجر مشرق". كما تقول كلمات الأنشودة التي كانت مرافقة لصورة نشرها قبل نحو أسبوع على حسابه في إنستغرام.

برحيل خالد نبهان لا ينضاف اسم جديد إلى لائحة طويلة من الشهداء فحسب، بل تكتب قصة ميلاد ملحمة حزن عابر للأيام، وقصة أجيال جمع بينها العدوان الإسرائيلي في كفن منسوج من عبق الكلمات الجريحة والأشواق المطهرة، والرضا والتوكل، والمقاومة التي تأخذ كل لبوس، من قسمات الطفل الرضيع، وهو يتلقى الرصاص قبل أن ينقطع حبله السري، وبسمة الرضيع وهو ينشق عبق المقاومة ويحتسي لبان الجهاد، ومن روح الروح وهو تكتب للحزن آمادا مفعمة بالألم، وترسم قصة جد، ملأ الدنيا حبا وشغل الناس حزنا، ومضى إلى حيث مراقد الصالحين، ومنازل المقاومين، إلى فردوس مديد، وروح وريحان… إلى حيث "روح الروح".

إعلان

مقالات مشابهة

  • شاهد | ما الذي يخطط له العدو في الضفة، وكيف يستفيد من التناقضات الفلسطينية؟
  • ما أسباب الدوار الذي أصاب رئيس الوزراء اليوم؟
  • ما الذي يجعل الإنسان سعيدا؟
  • دويّ قويّ تسبّب بحالة من الهلع... ما الذي حصل؟
  • الكونغو.. حل لغز المرض الغامض الذي قتل 143 شخصا
  • المطران عطا الله حنا: يجب أن تتوقف الحرب التي يدفع فاتورتها المدنيين الأبرياء
  • ما الذي يحدث في المنطقة ؟
  • خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
  • مقتل الفلسطيني خالد نبهان.. الجد الذي أبكى العالم أثناء وداع حفيدته "روح الروح"
  • الذي سيحدث للتمرد في مدني ليس مجرد هزيمة .. فلم رعب