وجدي كامل
عوامل، واسباب، وحقائق شتى تتشابك في صياغة انواع من الخطابات والسلوكيات الاعلامية المؤثرة على الاخلاق. فمنذ انطلاقة عصر تكنولوجيا الاتصال وتطور تبادل الرسائل الالكترونية بين الناس يساهم الانفجار المعلوماتي الهائل في بناء معرفي واسع وعميق بات يغطي تفاصيل التفاصيل ويخلق مفاهيم جديدة عن الحياة في نسخها الاخيرة.
غير ان من اخطر مظاهر التوظيف لثقافة التفاهة هو ما يتم برعاية الحكومات والانظمة السياسية التي تستعين بوسائل التواصل بملكيات مباشرة وغير مباشرة تعمل بالوكالة عبر الناشطين الاجتماعيين ومعلقين سياسيين، و فنانين، وفنانات، وممثلينن ونشطاء للبث المباشر بما يمضون عليه قدما لتخريب الوعى، وخاصة وعى الجماعة بمسؤولياتها والحرص على تجريدها من طاقة اخلاق التضامن الجمعي فتعمل على تفريغ المجتمعات من حمولات الوعى الايجابي المؤثر في التطور وتحوله الى الى الضد والتضاد المواجه. وتقوم عروة وثقى بين نظام التفاهة السياسي والاقتصادي والثقافي بحيث يتم تبادل الادوار والعمل ضمن استراتيجية تفرغ المجتمعات من المسؤلية الجماعية الى المسؤلية الفردية وتربية نزعات الانانية وحب الذات بدلا عن تخليق التضامن الجمعي ودعمه بغايات لاحداث النهضة وتنمية البشر.
وكما يناقش عالم الاجتماع البولندي زيغموند باومان القضية في ظاهرة تبدد فرص الاخلاق في عالم معولم فان طابع السيولة الاخلاقية هو ما يحكم هذا العالم. ويعتقد باومان ان اولى مستهدفات التدمير بواسطة الاعلام هو بناء المسؤلية الجماعية الذي يتحول الى مسؤلية ذاتية غالبا ما تقود الى اغلاق باب التضامن الاجتماعي والاستثمار في الذات حسب مقتضيات السوق الاستهلاكية.
ونتيجة لذيوع هذا النوع من الاستثمار الوعر تتعزز قيم الانانية على حساب قيم التضامن . ويرى زيغمونت ان القصف بالسلع عبر الاعلانات مظهرا من مظاهر تسليع العلاقات حتى بين افراد الاسرة الواحدة. فالافراد وتحت ضغط اغراءات الاعلانات يضطرون الى البحث عن السعادة بقضاء الاوقات الطويلة خارج اسرهم وهجر نظام التعايش لاجل مراكمة المال الذي يمكنهم من شراء وامتلاك المزيد من السلع التي يظنون انها تشكل عملة التعويض الذهبي للسعادة. غير ان باومان وفي ظروف اخرى واوضاع استثنائية تعيشها البشرية في دورة الحروب لا يلقي النظر بعناية لمخاطر المواد الدعائية والدس الخبري والمعلوماتي المكون والراعي لحروب موازية.
هذا ما نعايشه كسودانيين في هذه الحرب التي توظف نظام التفاهة الثقافي لإفساد المزيد من القيم وتدفع بالناس الى المحرقة غير مكتفية بالدفع الفيزيائي لهم عبر التجنيد والاستنفار والقصف بالاسلحة من دانات وبراميل متفجرة وغيره .
ان قصف الوعى بالمعلومات والاخبار الكاذبة والذي يتورط في نشاطاته التخريبية عملاء الطرفين من الإعلاميين الالكترونيين واحترافهم صناعة الشائعة يغدو قصفا اشد ايذاءا وضررا من القصف الفيزيائي الذي يسبب الاعاقة في الاجساد، بينما الاخر يسبب الاعاقة في الاخلاق والعقول ما يصعب معالجته في احدث النظم الصحية العقلية والنفسية.
ان المشهد الذي نحن عليه حاليا من السيولة الاخلاقية لا تقوم ببطولته حفنة من داعمي الحرب (البلابسة) من الاخوان المسلمين والمستنفرين الجهلاء بحقيقة مرامي واهداف الحرب. فالحرب وفي التعريف الباطني لها هى المعركة لاجل السيطرة على الثروات واقصاء السودانيين المدنيين بمسوغات سياسية ووطنية ماكرة من الطرفين. ولكن فان الذين يقومون بدور البطولة المطلقة فيها هم الاعلاميون من بائعي الذمم الذين يتصدرون الشاشات والفيديوهات الحية بالفيس بوك، وتسجيلات الواتساب الصوتية بما يبثونه من اخبار كاذبة، ويمارسونه من عروض شائهة وشائنة لتخريب الوعى بغرض كسر ارادة التفكير الوطني الحر المناوئ للحرب. لا احد منهم من مصلحته ان يرى الناس الحقيقة كما هى عارية والحرب كتدبير اخواني مكتمل الاركان. لا احد يريد ان يفهم الناس ان هذه الحرب بين عدوين ضخمين استثنائين للشعوب السودانية في اتحادها المزمع كان عقده بعد الثورة.
نعم انها حرب ضد المجتمعات في وحدتها وتضامنها ومسؤولية افرادها المتوقعة المنتظرة تجاه بعضهم البعض عندما يصبح القتل، والازاحة بالعنف، والتخلص من المواطنين بالتهجير اهم اغراضها بتدميرهم كمخزونات انسانية اولا وثورية تناضل لاجل حماية وجودها عبر حفظ حقوقها وممتلكاتها.
ان مسؤلية صيانة التضامن الاجتماعي في هذه الظروف البالغة السوء تصبح المسؤلية الطليعية المتقدمة والتي على قوى الثورة انجازها بشتى الطرق التي وفي اولها ضرورة التحلي بوحدة لرؤيا وطنية مستقبلية تحافظ على القيم الاخلاقية الجوهرية من التعايش الجمعي والاشتراك في المواطنة. انما هو آي ومستعجل يتمثل في دحر كافة عروض الدعاية الخبيثة التي يبثها المرتشون والموظفون الامنيون من جمهرة الاعلاميين والاعلاميات بمقاطعة العروض الرخيصة – عروض التسجيلات الصوتية الصفرية لهم ونقل حفلات القونات والمخنثين التي تمجد الحرب وتضرب بشتى بقاع الهجرة والنزوح السوداني الحالي بدول العالم بحيث تبدو في نسبة من الانشطة الاجتماعية العامة منها غيرمعنية بما تجري من احداث مأساوية وكوارث. ان الجميع مدعو الآن للانخراط في صناعة تضامن جديد ووحدة وطنية واقعية منتجة غير متخيلة تستثمر في الاتفاق بدلا عن الإنشقاق.
wagdik@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
خالد حمادي.. رجل الأعمال الذي باع (طريق الشعب) في الإشارات الضوئية !
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
يتفق معي الكثيرون على أن الكتابة عن (شخص غريب) أبسط وأسهل من الكتابة عن (شخص قريب).. وصدقاً أني لم أتوصل لمعرفة أسباب ذلك، رغم أني تعرضت الى هذا الامتحان الصعب أكثر من مرة، سواء في استشهاد شقيقي خيون (أبو سلام) أو عند رحيل والدي الحاج أبو خيون، أو بإصابة ابن عمي المناضل (النصير) سامي الدراجي (أبو سومر) ومن ثم رحيله الموجع، أو في نكبات عديدة أخرى توقف فيها قلمي عن الكتابة تماماً، ولم تسعفني كل الأدوات والخبرات الكتابية والصحفية التي في حوزتي.. وحالة الشهيد الشيوعي البطل خالد حمادي واحدة من الحالات التي جف فيها حبر قلمي، ولم أستطع الكتابة قط.. فخالد حمادي لم يكن شخصاً مثل غيره، ليس لأنه يخصني بأكثر من خصوصية وعلاقة وقربى فحسب.. إنما ثمة علاقة روحية وشخصية بيننا.. فهو خال بنتي ومسؤولي الأول في اتحاد الشبيبة الديمقراطي، ومسؤولي في الحزب الشيوعي بمطلع سبعينيات القرن الماضي، وهو صديق عزيز، وشخص نبيل، وهادئ، ومثقف سياسي من النوع العالي، وهو متحدث رائع لا يظاهى رغم أنك لا تسمع صوته حتى لو جلست بجواره كتفاً الى كتف.. إنه باختصار، شخص رائع (تخليه بنص گلبك) كما يقول العامة ..
نعم، لقد تأجلت الكتابة عن إعدام الشهيد خالد حمادي عندي أكثر من ربع قرن، وهي فترة تتناسب مع الفترة التي توقف فيها قلمي عن الكتابة في نكبات ومصائب مماثلة أخرى .. واليوم حين وجدت أن ( ماعون الصبر قد فاض) بحيث لم يعد ثمة مجال لأي تأجيل آخر، جلست أمام الكيبورد، وفي رأسي وقلبي شريط طويل عن خالد حمادي.. شريط طوله 53 سنة، يبدأ من جذر العلاقة والرفقة والصداقة مع هذا الكائن المثالي في المبادئ والقيم والنبل والكرم والبسالة والثبات على المبدأ.. نعم لقد مرت 53 عاماً على أول لقاء لي به، حين دخل علينا في بيت أحد الرفاق وقدم لنا نفسه باسمه الحزبي قائلاً : أنا مسؤولكم الجديد .. رحبنا به، وبدأ الاجتماع بحديثه عن تجاوزات السلطة البعثية رغم أنها تعرض ميثاقاً للتحالف الجبهوي ..!
لقد كان يتحدث بهدوء عجيب، ولغة صافية ودقيقة، وكان يختصر موضوعاته بتكثيف فذ يذكرك بالحكواتي الذي يمسك بتلابيب حكايته مثلما يمسك بتلابيب قلوب مستمعيه الصغار .. كان أعضاء خليتنا ينصتون اليه فحسب، بينما كنت الوحيد الذي ينصت اليه وفي نفس الوقت ينظر الى ملامحه ويتفرس وجهه الممتلئ باللحم .. حتى كنت أقول في سرّي : (كيف صار هذا البرجوازي – أبو لغد – شيوعياً) ؟
لم أكن أعلم أن صاحب هذا اللغد (شابع ضيم وظلايم)، وأن خلف هذا (البرجوازي المترف) تاريخاً من الفقر والعوز والنضال، وظلمة الزنازين والمعتقلات السرية.. وليالي طويلةً من التعذيب الدامي في (قصر النهاية) الذي أفقده إحدى عينيه..
وطبعاً انا لم أكن ولا حتى رفاقي في الخلية يعلمون أن صاحب البدلة الأنيقة الذي يدير اجتماعنا هو خالد حمادي القادم من منطقة ( العذارية ) في الديوانية، والمنتقل مع أسرته الى قطاع 24 في مدينة الثورة، وأنه شقيق لثلاثة أخوة شيوعيين، وثلاث شقيقات شيوعيات – واحدة منهن ستصبح زوجتي يوماً ما ، والأخرى زوجة للشاعر الشهيد ذياب كزار أبو سرحان- ولم أكن أعرف أن هذا الرجل الوديع قد ( دوّخ ) الحرس القومي و الأجهزة الأمنية في محافظة الديوانية بل وفي عموم منطقة الفرات الأوسط، ولم تسترح هذه الأجهزة منه حتى اعتقلته وحكمت عليه محاكمها بالإعدام ليُخفض الحكم – جماعياً – الى السجن المؤبد ..
لقد مرّ الشريط أمامي وأنا أبدأ كتابة هذا المقال، وها هي سيرته المكتنزة تلمع بالمواقف المبدئية، والقصص الإنسانية، والتأريخ المزدحم بالمآثر والتضحيات، فتحار من أين تبدأ، وماذا تختار وأنت امام سفر مليء بالحكايات التي تصلح جميعها للتدوين! ..
وأذكر هنا أن الرفيق حيدر الشيخ علي طلب من ( الرفيق ) خالد حمادي قبول زيارة وفد من الحزب لغرض طلب يد شقيقته.. باعتبار أن خالد هو صاحب الكلمة المسموعة في بيت الراحل حمادي راضي، رغم وجود أشقائه خزعل وطارق وشاكر وباسم، لكن خالد ابتسم وقال : آني راح أجي وياكم خطّاب مادام الخطوبة لرفيق فالح .. !!
وبهذه الجملة حسم خالد موضوع الخطبة لصالحي.
ثمة مواقف أخرى لأبي أحمد، منها موقفه الشهير في محكمة المجرم عواد البندر عام 1989 بعد إعلان حكم الإعدام عليه وعلى مجموعته الشيوعية التي ضمت سبعة رفاق .. حيث وقف خالد بقامته المديدة، وراح يهتف بسقوط صدام حسين، وحياة الشعب العراقي والحزب الشيوعي، حتى أن أحد الحراس في المحكمة حكى بنفسه لأبناء قطاع 24 في مدينة الثورة ما فعله خالد حمادي في تلك المحكمة، وما قاله للمجرم عواد بندر، وقد إختصر هذا الحرس كلامه بجملة واحدة، قال فيها: ( هذا خالد حمادي ما جايبته مرة إنما جايبته نسره) .. !!
ثمة موقف كبير اخر يجب أن أحكيه للتاريخ وللأمانة..
لقد عمل خالد حمادي بعد خروجه من المعتقل و انتقالهم الى بغداد في نهاية الستينيات في مجال الصناعة، ولأنه رجل نزيه وصادق في عمله فضلاً عن مهاراته الصناعية، فقد نجح نجاحاً كبيراً وأصبح علماً من أعلام صناعة الأصباغ والبتروكيماويات والشتايكر وغيرها، و رقماً مهماً بشركاته ( شركة الشرق ) وغيرها ليس في العراق فحسب بل حتى في بلدان الخليج وعموم المنطقة أيضاً، ورغم ذلك لم ينقطع خالد عن عمله الحزبي كشيوعي مناضل جسور، إذ تعرض للأسف الى خيانة (أحدهم)، اعتقل على إثرها مع مجموعته الشجاعة، وقد استخدمت ضده في التحقيق وفي المحكمة كذلك، مستمسكات ووثائق زودهم بها من (خان الأمانة) !.. فجاء الحكم عليه بالإعدام، وقد نفذ الحكم في عام 1989 وهو يهتف بحياة الشعب والحزب الشيوعي ..
وهنا أذكر موقفاً آخر لأبي أحمد، حين حاصرت الأجهزة الأمنية توزيع جريدة طريق الشعب بعد منتصف السبعينيات، وشددت مراقبتها على المكتبات ومنافذ بيع الصحف وأصدرت أوامرها السرية بعدم توزيع وبيع جريدة الحزب الشيوعي (طريق الشعب) وإلا فثمة عقوبات صارمة تنتظر المخالف، اضطر على إثرها الحزب الى توزيعها وبيعها يدوياً بواسطة الرفاق في المنظمات الحزبية .. وهكذا تطوع عدد كبير من الرفاق في مختلف مدن العراق، ومن بينها مدينة الثورة للوقوف عند الإشارات الضوئية والمناداة : اشترِ طريق الشعب .. اشترِ جريدة الحزب الشيوعي .. وكان رجال الأمن يتحاشون الاصطدام المباشر بهؤلاء الرفاق، فقد كانت الجبهة الوطنية لم تزل موجودة آنذاك.. ورغم الصعوبة فقد كان لخالد حمادي دور لم يزل يرويه بعض الرفاق في الجلسات والإجتماعات، حين وقف أبو أحمد بجثته وهيئته الفخمة، ووجهه الباذخ، مرتدياً بدلته الإنكليزية، وربطة عنقه الفرنسية، وحذاءه الإيطالي عند ( الترفيك لايت )، منادياً باسم جريدة طريق الشعب..في مشهد غريب لا يتناسب وهيئة بياعي الصحف، لكن خالد كان يتقصد ذلك المشهد والظهور بتلك الصورة من أجل الفات نظر الناس، وفضح السلطة البعثية .. وفي مرة أراد أحد رجال الأمن السريين إهانته عند الترفيك لايت، فقام بوضع درهم في يد خالد مثلما يوضع عادة في يد الشحاذ، لكن خالد لحقه وأعطاه جريدة طريق الشعب، إلا أن رجل الأمن أعاد اليه الجريدة قائلاً: أنا لا أقرأ هذه الجريدة !!
فضحك خالد وقال له بخشونة : إذن خذها وأعطها للضابط المسؤول عنك ليقرأها، عسى أن يتثقف ويصير آدمي !!
فالح حسون الدراجي