سجّل عبدالرحمن الجبرتي 1753 – 1825 م شهادتَه المكتوبة في إدانة العنف السياسيّ الذي اعتمده محمد علي باشا 1769 – 1849م منهجًا في تأسيس الدولة الحديثة في مصر، وهو العنف الذي بات طبعًا كامنًا وغريزةً أصيلة في تكوين الدولة الحديثة التي لا تتردد في استدعاء ما في جَعبتها من كافة أشكال العنف الباطن والظاهر كلما اقتضتها الضرورة إعادة صياغة العقد الاجتماعي بينها وبين الشعب المصري.
فطَوال القرنَين الأخيرَين تغيّرت أشكال العقد الاجتماعي من عهد إلى عهد، لكن بقي مضمونها واحدًا، هو الإملاء من طرف السلطة، والإذعان من طرف الشعب، هكذا كانت دولة الباشا وذريته، وهكذا هي دولة الضباط، وهكذا هي دولة 30 يونيو 2013م.
هذا العِقد الاجتماعي المؤسس على العنف وصفه الأستاذ الإمام محمد عبده 1849 – 1905م بأن " الناس عبيد الحاكم "، ومن وجهة نظره فإن هذه العبودية عبر الإملاء من طرف الحاكم والإذعان من طرف الشعب تأسّست مع دولة محمد علي باشا واستمرّت حتى أفلست مصر، واضطربت ماليتها، ووقعت تحت رحمة الدائنين.
فبدأ الخِدَيو إسماعيل 1830 – 1895م يسمح للناس بمساحات من التنفيس والتعبير ليستقوي بهم في وجه القوى الأوروبية التي تدخلت في شؤون حكمه بدعوى حماية حقوق الدائنين، كان الخِدَيو إسماعيل – لمصلحته الشخصية المحضة – هو من حرّض مجلس شورى النواب ضد الحكومة التي فرضتها عليه أوروبا.
إفلاس وعزلمجلس شورى النواب عاش قبل ذلك عشر سنوات 1866 – 1877 م مثله مثل برلمانات الجمهورية الجديدة 2013 – 2023م، لا ينطق فيه ناطق ولا يهمس فيه هامس إلا بما يمليه عليهم الخديو، كان النظام المعمول به في برلمان الخديو إسماعيل هو النظام ذاته المعمول به في برلمانات الجمهورية الجديدة. حيث يذهب مندوب من طرف الحكّام يوحي للنواب بمشيئة الحاكم فينتهون – بعد مداولات شكلية – إلى إقرار ما يريده الحاكم.
لكن من بعد عام الإفلاس 1876 م، بدأ الخديو إسماعيل يحرض النواب على المعارضة التي بلغت ذروتها مع تشكيل حكومة نوبار أوروبية التوجّهات 1878م، وتحول مجلس شورى النواب إلى برلمان شديد المعارضة في عام العزل 1879م.
لم يكتفِ الخديو بتحريض النواب بل استغلّ تأخر مرتبات ضباط الجيش، فحرضهم على المظاهرات ضد الحكومة، ثم اتّجه إلى أعيان الريف وشجّعهم في الطريق ذاته، ومن كل ذلك وُجدت صحافة قوية مؤثرة، ورأي عام متحفز مهتمّ، ولم يكن شيء من ذلك مسموحًا به منذ تأسست الدولة الحديثة 1805م .
لكن مع إفلاس مالية البلاد الذي فهمه المصريون – بالغريزة السياسية – أنّه إفلاس لكامل دولة الباشا وذريته، وأنه نهاية للعقد الاجتماعي الظالم القائم على أن الناس عبيد الحاكم.
احتاج الخديو للناس، لأول مرة في تاريخ الدولة الحديثة، قبل ذلك كان الحاكم هو ولي النعم والشعب عبيد إحساناته، فجأة أصبح الحاكم مفلسًا ومديونًا ومهددًا في عرشه، وغير ذي قوة ولا سلطان، إلا قوة الشعب وسلطانه، اضطر الخِديو ليبذرَ بذور الثورة بين المصريين لمصلحته.
لكن هذه البذور أنبتت ثم استقلت عن مصدرها، صارت ثورة حقيقيّة، لكن لمصلحة الشعب لا لمصلحة الخديو، ثورة ليست ضد أوروبا لصالح الاستبداد والاستعباد والفساد الخِديويّ، لكنها ثورة ضدهما معًا، ضد الخِديو المفلس المديون، وضد الغزاة الأوروبيين الدائنين، كانت الثورة العرابية فاتحةَ استرداد الوعي العام عند المصريين .
لا ينتبه كثيرون من المثقفين المصريين إلى غريزة المؤرّخ التي يتمتع بها الأستاذ الإمام محمد عبده، وقد تجلت واضحة في كتابه الذي لم يكتمل عن أحداث الثورة العرابيّة، وقد كتبه بناءً على تكليف من " مليك مصر المعظم عباس حلمي باشا الأفخم ".
نهايات فاجعةوقد توقف الأستاذ الإمام عن إكماله حرجًا من التعرض للدور الرخيص الذي لعبه الخديو الضعيف محمد توفيق باشا 1852 – 1892م، وهو نجل إسماعيل ووالد عباس حلمي الثاني 1874 – 1944م.
في مطلع الجزء الذي كتبه الأستاذ الإمام فكرة عبقرية في دراسة ورصد وتحليل معنى التاريخ، يقول في ص 523 من المجلد الأول من الأعمال الكاملة إن :" أهالي مصر قبل 1293 هجرية – 1876 م – كانوا يرون شؤونهم العامة، بل والخاصة، ملكًا لحاكمهم الأعلى، يتصرف فيها حسب إراداته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله أو خيانته وظلمه ".
ثم يقول: " ولا يرى أحد منهم – أي من المصريين – لنفسه الحق في أن يُبدي رأيًا في إدارة البلاد، أو إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحًا لأمته". ثم يقول: " ولا يعلمون – يعني المصريين – من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم محكومون مُصرَفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم، وكانوا غاية في البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية ". ويقول: إن البعثات إلى أوروبا لم يشعر الأهالي بشيء من ثمراتها .
ويصف الأستاذ الإمام محمد عبده مصير من يخرج عن هذا الإذعان بواحد من ثلاث نهايات فاجعة: النفي عن الوطن، إزهاق الروح ويقصد القتل، التجريد من المال ويقصد المصادرة. وفي ص 527 من المرجع المذكور أعلاه يقول: " ظل الناس معه – أي مع تأسيس مجلس شورى النواب 1866م – على اعتقادهم أنهم عبيد للحاكم لا رأي لهم معه ولا أمر.
ثم تتجلى الغريزة التاريخية – أي جوهر علم التاريخ النقدي – أوضح ما تكون عند الأستاذ الإمام عندما احتدم النقاش عام 1902م بمناسبة مرور قرن هجري كامل على تولية محمد علي باشا ورواج السرديات التي تنسب له كل تحديث وحداثة.
قوى حيوية كامنةهنا نرى الأستاذ الإمام يدعو إلى فكرة عبقرية، وهي أن يبحث الباحثون – ص 833 من المرجع المذكور – في حالة مصر كيف كانت عندما تولاها محمد علي باشا، وكيف كان يمكن أن تصير إليه أوضاع البلاد لو سارت في مسارها الذي سبق تولية الباشا، وكيف أن الباشا محا مصر محوًا واستبدل غيرها بها.
وفي ص 834 يقول: إن تعدد قوى المماليك الذين كانت لهم السلطة الفعلية في البلاد، وكان الخصام فيما بينهم دأبهم، والحرب فيما بينهم عملهم، الجأتهم واضطرتهم لاسترضاء المصريين وكسبهم إلى جانب كل فريق منهم ضد الآخر.
كانت قوى المماليك أشبه بأحزاب سياسية متنافسة على السلطة، ولم يكن لصراعها أن ينحسم فيما بينها إلا بأن يكسب هذا الحزب أو ذاك منهم الجانب الأكبر من القوى الشعبية المؤثرة إلى صفه، ولهذا " كنت ترى في البلاد المصرية بيوتًا كثيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم ".
بهذا المعنى، الذي يشير إليه الأستاذ الإمام فإن مصر – قبل محمد علي باشا – كانت تسير وتتطور في الاتجاه الصحيح، والدليل على ذلك، كما في ص 835، أنه عندما جاء الجيش الفرنساوي أخذت القوى الحيوية الكامنة في البلاد تظهر، حتى اضطر نابليون أن يسير في البلاد بمشورة أهلها.
وهذا المصطلح: " القوى الحيوية الكامنة في البلاد "، تعبير عبقري من الأستاذ الإمام، قوى المماليك خارت وسقطت عند لقاء الفرنسيين في قتال سريع – مثل قتال 1967م – لم يستغرق غير ساعات، وانحسمت المعارك عن مهزوم ومنتصر.
لكن المصريين كانوا هم القوى الحيوية الكامنة التي تخلّقت على مدار القرنين: السابع عشر والثامن عشر، حيث ضعفت سلطة القمع المركزي، حتى لجأت للمصريين تستميلهم وتستقوي بهم بعضها ضد بعض، هذه القوى الحيوية الكامنة التي فارت ثم ثارت ضد الغزاة واضطرت نابليون لاصطناع شكل من الديمقراطية الاستعمارية.
هذه القوى الحيوية الكامنة التي – بعد رحيل الفرنسيين – ثارت ضد السلطتَين التقليديتَين: السلطة السيادية العليا للعثمانيين، وكذلك السلطة الفعلية الواقعية للماليك، ثم عبّرت عن نفسها – بقوة – حين اختارت محمد علي باشا وفق شروط سياسية محددة، وفرضت اختياره على السلطان، وأنهت – عمليًا وبضربة واحدة – سيادة السلطتَين وحكم المماليك.
هذه القوى الحيوية الكامنة هي التي اجتهد محمد علي باشا وهو يؤسس الدولة الحديثة في محوها محوًا تامًا، ونجح في ذلك، فلم يسمع العالم همس المصريين، طوال ثلاثة أرباع قرن، حتى أفلس حفيده إسماعيل 1876م، واضطرته الظروف لرفع القبضة الحديدية عن القوى الحيوية الكامنة في البلاد، فبدأت هذه القوى تسترد أنفاسها، وتتمرّن على الاشتباك مع الواقع، ثم تحلت بفضائل الشجاعة السياسية بالقدر الكافي لتتبلور الثورة العرابية 1881 – 1882م .
انحراف عن المسارخلاصة وجهة نظر الأستاذ الإمام؛ أن مصر – قبل محمد علي باشا – كانت على درجة من التطور تنتظر من يأتي " فيضم تلك العناصر الحية بعضها إلى بعض، ويؤلف منها أمة، تحكمها حكومة منها، ويأخذ في تقوية مصباح العلم بينها، حتى ترتقي بحكم التدرج الطبيعي، وتبلغ ما أعدته لها تلك الحياة الأولى".
السؤال: كيف محا محمد علي باشا مصر محوًا، وكيف استبدل غيرها بها، وكيف انحرف بها عن مسارها؟. الجواب عند الأستاذ الإمام هو العنف المادي والأدبي والظاهر والباطن والسياسي والعقابي بالقدر الكافي بأن يقتل في المصريين فضائل الشجاعة السياسية، فإذا ماتت فيهم الشجاعة السياسية – تحت القهر الممنهج – خضعوا لكل ذي سلطان، سواء كانت له عبقرية الباشا، أو كان خلوًا من الذكاء متجردًا من كل قيمة سياسية حقيقية.
الأستاذ الإمام يسأل: ما الذي صنع محمد علي باشا؟ ثم يجيب: لم يستطع أن يُحيي، لكن استطاع أن يُميت.
ثم يشرح الأستاذ الإمام ما يستحق أن نتوقف عنده كثيرًا، ونحن ندرس تاريخ الدولة الحديثة وتسلُّطها على المصريين في كل عهودها، ثم ونحن ندرس دكتاتورية الجمهورية الجديدة على وجه الخصوص، يقول: "كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش، ويستعين بمن يستميله من الأحزاب، على إعدام كل رأس من خصومه.
سحق الخصومثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر – أي حليف سياسي جديد – على حلفائه الذين كانوا معه من قبل والذين أعانوه على الخصم الزائل الذي أعدم رأسه، ثم يمحق الخصم الجديد، وهكذا. حتى إذا انتهى من سحق الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع فيها رأسًا يكمن فيه ضمير (أنا) حتى أجهز عليه. ثم اتخذ من مزاعم الحفاظ على الأمن سبيلًا لجمع السلاح من الأهلين".
ثم يقول الأستاذ الإمام:" وتكرر ذلك منه مرارًا، حتى فسد بأس الأهالي، ثم زالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها".
ثم يقول عن قمع الباشا – وهو أساس القمع الكامن في الدولة المصرية حتى اليوم والغد -: فلم يُبقِ في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه عن بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه ".
ثم في ص 863 يختتم الأستاذ الإمام بالقول: " أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحنّ لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحطّ الكرام، وساد اللئام، ولم يبقَ في البلاد من الناس غير آلات تحت يديه، يستخدمها في جباية الأموال، وفي جمع العساكر على أي طريقة وبأي وجه".
ثم يقول: " فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة، من رأي، وعزيمة، واستقلال نفس، ليجعل البلاد المصرية جميعًا إقطاعًا واحدًا له ولأولاده".
انتهى الاقتباس، وهو يوضح حجم التشابه بين بدايات الدولة الحديثة وما آلت إليه في اللحظة الحاضرة، فالحاضر لم يأتِ من فراغ، ولم يتم اختراعه من العدم، إنما هو إعادة إنتاج الكثير من سوءات الدولة الحديثة دون مزاياها.
كيف كانت فضائل الشجاعة السياسية قبل محمد علي باشا وتأسيس الدولة الحديثة؟
الجواب عند عبدالرحمن الجبرتي 1753 – 1825م في مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الدولة الحدیثة الأستاذ الإمام محمد علی باشا فی البلاد هذه القوى من طرف
إقرأ أيضاً:
فتاوى :يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
الصيام، كما هو معلوم، ليس امتناعًا عن الطعام والشراب فقط، إنما هو تهذيب للنفس وتقريب لها إلى الله سبحانه وتعالى، فكيف يمكن للمسلم، من خلال الصيام، أن يحقق المقصد الروحي والأخلاقي؟
فريضة الصيام اختصها الله تبارك وتعالى بفضائل ولطائف، وأودع فيها من الأسرار والحكم ما لا يوجد في غيرها، ولذلك قال: «الصوم لي وأنا أجزي به»، وقد بين ربنا تبارك وتعالى عظيم منزلة الصيام حينما قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، واختصّه بأفضل الشهور وأعظم المناسبات، وهو الشهر الذي حصل فيه أعظم حدث في تاريخ البعثة المحمدية والرسالة الخاتمة، وهو إنزال القرآن الكريم، ولذلك، لما عرّف به، قال: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ».
فكيفما نظرنا إلى شهر الصيام وإلى هذه الفريضة، فإننا سنجد أنها تورث العبد تزكية لا تحققها له أي وسيلة أخرى؛ لأن الصيام عبادة تَزكية، فهو كفّ وامتناع وإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، أما سائر الشعائر التعبدية، فهي أعمال وأفعال تُؤدَّى، فقد تكون أعمالًا بدنيةً، أو ماليةً، أو بدنيةً وماليةً معًا، وهكذا تتفاوت هذه العبادات في تزكية نفس المكلَّف والارتقاء بطبعه وتهذيبه، وسموّه ليكون من عباد الله الصالحين.
أما الصيام، فلأنه عبادة تركية، يحمل معنى الكفّ والامتناع، فإن رياضة النفس فيه أبلغ، إذ يمنع الإنسان نفسه عما هو في أصله مباح، في هذا الوقت المحدد، لا لشيء إلا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه»، فالمكلَّف يفعل ذلك ابتغاء رضوان الله تبارك وتعالى، إيمانًا وطاعةً وانقيادًا، واحتسابًا للأجر منه جل وعلا وحده.
وحينما يوجّه قصده إلى الله تبارك وتعالى، فإنه يتمكن بفريضة الصيام من أن يأخذ بهذه النفس إلى ما فيه رضا الله تبارك وتعالى، بعيدًا عن أهوائه وشهواته ورغباته، وبعيدًا عن زخارف الحياة الدنيا وما يمكن أن يصرفه عن طاعة الله تبارك وتعالى، ليثبت أنه قادر على أن يأخذ بها إلى الصراط المستقيم، وأن يترك عادات ألفها، وجملةً من المباحات التي كان يظن أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها، فيسمو فوق ذلك كله، فيمسك نفسه عن شهواتها، ويمسك بصره ولسانه ويده عن كل ما يسخط الله تبارك وتعالى.
هذا من حيث ماهية الصيام، أما من حيث الظرف الزمني، فإنه سبيلٌ آخر تحقق للصائم ما لا يخفى من التزكية والتهذيب والرياضة للنفس، ذلك أن شهر رمضان هو شهر الرحمة والمغفرة، وهو الشهر الذي أنزل الله تبارك وتعالى فيه القرآن، وهذا أعظم حادثة، إلى درجة أنه لما عرّفنا بشهر الصيام، لم يُعرّف إلا بهذا الوصف، فقال: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ».
ولذلك، فإن الصائم يحيا بالقرآن الكريم؛ لأن المسلم في حقيقته إنما روحه القرآن الكريم، والقرآن روح هذه الحياة، ولذلك، فإن اجتهاد المسلم في الحياة مع القرآن وبالقرآن، حفظًا وتلاوةً وتدبرًا وسماعًا، يزداد في شهر رمضان، ومن لم يزده رمضان إقبالًا على القرآن، فإنه محروم، إذ لا تتحقق له معاني الصيام من التزكية والتهذيب وتقوى الله تبارك وتعالى.
ومعايشته لكتاب الله تبارك وتعالى في رمضان، ليلًا وأطراف النهار، تورثه مزيدًا من القرب من ربه جل وعلا، وتنعش نفسه، وتجدّد له إيمانه، وتوقظ فيه مراقبته لله تبارك وتعالى، فيتَبَصّر بحقائق هذه الحياة والمنقلب الذي سيؤول إليه، وتبيّن له حقوق الله تبارك وتعالى عليه، ثم حقوق نفسه، ثم حقوق الناس عليه بمختلف مراتبهم.
أما أثر ذلك على نفسه، أي الآثار المعنوية، فهو صقل لهذه النفس، وإزالة للشوائب التي تراكمت طيلة العام، فإذا به في رمضان، حينما يقف في محرابه قيامًا لليل أو تلاوةً لكتاب الله عز وجل في أي ساعة من ليل أو نهار، يزيل عن نفسه هذا الغبار المتراكم، ويصفي قلبه ونفسه، ويشرح صدره لهدايات القرآن، فيعيش في نور القرآن، ويعيش مع القرآن وبالقرآن لفظًا ومعنى، ليستمدّ منه ما يعينه في حياته كلها، ليراجع به ماضيه، وليتهيّأ به لمستقبله وقادم أيامه.
قد تكون لدى الإنسان وعورة في الأخلاق، سواء كان رجلًا أو امرأةً، ويتصرف معها تصرفًا نفعيًا، لكن إذا جاء شهر رمضان، وجد نفسه مضطرًا إلى اعتبارها أخلاقًا مطلقةً، ويتعبد بها لله سبحانه وتعالى، فهل يمكن أن يكون هذا نوعًا من المراجعة لمسالك الأخلاق؟ خاصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس»؟
إن لم يكن رمضان محققًا لهذا المعنى الجليل الذي تسألون عنه، فمتى يمكن لهذا العبد أن يصحح تصوره عن الأخلاق؟ ذلك أن الأخلاق في هذا الدين الحنيف ليست من الفواضل، وليست مما يمكن أن يجعله المسلم -كما يقال- في هامش حياته، بل هي منهج حياة، والأخلاق هي جوهر العبادات التي يؤديها المسلم لربه تبارك وتعالى، فيروض نفسه على الخلق الحسن، ويبتعد عن الفحش وعن مقابلة السيئة بمثلها، ليذكر نفسه ويذكر غيره، إن سابه أو شاتمه أو قاتله، بقوله: «إني صائم».
فهو يبتعد عن كل أنواع الفحش والبذاءة، وكما يبتعد في المقابل عن الخنا وما يسخط الله تبارك وتعالى من السفاهة ولهو الحديث، كل ذلك يتحقق له إن كان صائمًا حقًّا، ولا يعدل رمضان شيء في تزكية أخلاقه وصفاء نفسه، لكن هذا لا يعني أن ذلك يحصل له دون عناء منه؛ لأن هذه النفس قد تجتمع فيها نوازع الشر، ويمكن أن تستبدّ بها الشهوات، وقد يغلبه حب السيطرة والأثرة والانتصار للنفس، وما يوسوس به إليه الشيطان من عدم قبول الضيم، فإذا به يخوض مع الخائضين في بذاءة القول، وفي الإغلاظ على الآخرين في غير موجب شرعي أو الإساءة إليهم.
فهذه مداخل للشيطان يفسد بها عليه أخلاقه، فعلى الصائم أن يكون مراقبًا لنفسه، مراقبًا للسانه، مراقبًا لجوارحه، آخذًا بجوارح نفسه إلى ما يرضي الله تبارك وتعالى من القول الحسن، والخلق الجميل، والأدب الرفيع.
وأنا هنا أذكر إخواني من أهل عُمان؛ نظرًا لأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قلدهم شهادة عظيمة، حينما أرسل أحد أصحابه إلى حي من أحياء العرب فسبّوه وشتموه، فرجع إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام: «لو أن أهل عُمان أتيت، ما سبّوك وما ضربوك»، هذا تاج توّجنا به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيجب علينا أن نحافظ عليه، وأن نزداد خُلقًا وأدبًا، وأن نحسن أخلاقنا، وأن نرتقي بها، وأن ننتبه لما يمكن أن يؤثر على قيمنا وأخلاقنا وآدابنا الحسنة الجميلة من مؤثرات معاصرة.
وأن نغرس هذه الأخلاق والآداب والقيم لدى ناشئتنا، نعلمهم إياها، ونعرفهم بها، وأن نكون لهم قدوة فيها، وأن ننبههم عليها حينما يخطئون، وأن نريهم هذه الأخلاق والقيم في واقع حياتنا، هذا كله يسهل علينا في رمضان؛ لأن شهر الصيام فيه كسر لكل الشهوات.
وحينما يصفي المرء نيته وقصده لله تبارك وتعالى، فإذا ارتاضت هذه النفس على الأخلاق الجميلة الحميدة، وعلى الآداب الطيبة والقيم الرفيعة، فإنه يسهل عليها بعد ذلك أن تكون على خُلق قويم وآداب رفيعة في كل أحوالها، فرمضان وهذا المعنى الذي ذكرتموه هو مدرسة عالية ورفيعة للأخلاق والقيم والآداب الإسلامية السامية.