ماذا تقصد الولايات المتحدة حين تتحدث عن دولة فلسطينية؟
تاريخ النشر: 9th, February 2024 GMT
مع استعصاء الحل العسكري "الإسرائيلي" في قطاع غزة ووصول مختلف الأطراف لقناعة باستحالة تحقيق العملية البرية في غزة لأهدافها المعلنة، تتعالى في الآونة الأخيرة الأصوات المنادية بحل سياسي للقضية الفلسطينية، في محاولة لبث الروح في "حل الدولتين" الذي قتله الاحتلال منذ سنوات طويلة دون مراسم دفن.
واللافت أن مختلف الأطراف الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا بل ودول عربية وإقليمية وحتى بعض الأطراف الفلسطينية، تتحدث عن ضرورة الوصول لدولة فلسطينية، بينما يرفض قادة الاحتلال ذلك بشكل قاطع.
فنتنياهو كان قد عارض حديث الرئيس الأمريكي عن "دولة فلسطينية" قائلا إنه "لن يساوم على السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن، وهو ما لا يمكن التوفيق بينه وبين دولة فلسطينية". كما صرح الرئيس "الإسرائيلي" هرتسوغ بأنه "لا يوجد إسرائيلي عاقل يقبل بحل الدولتين"، فضلا عن تصريحات أخرى لعدد من السياسيين في دولة الاحتلال تصب في الإطار نفسه.
الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحدث اليوم عن دولة فلسطينية تدرك أن لا فرصة لها على أرض الواقع بسبب ممارسات الاحتلال، وهي رغم ذلك لم ولا تمارس عليه ضغطا حقيقيا بهذا الخصوص، كما أنها تخوض الحرب الحالية معه كتفا بكتف ورصاصة برصاصة. فلماذا إذن الحديث الآن عن "دولة فلسطينية"؟
الرد على نتنياهو أتى على لسان جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي قال إن بلاده "تعتقد بحق الفلسطينيين في العيش في دولة مستقلة"، وهو سياق تكرر في عدد من تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، كما أكد بايدن على ضرورة أنه "عندما تنتهي الأزمة" ينبغي أن تكون ثمة رؤية تشمل حل الدولتين. إلى ذلك، أعلنت لندن عن "خطة النقاط الخمس" التي تتضمن إنشاء "أفق سياسي لإقامة دولة فلسطينية"، كما يعد منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل "خريطة طريق أوروبية من عشر نقاط لحل النزاع العربي- الإسرائيلي".
فما الذي تغير؟ وما الذي تسعى إليه مختلف الأطراف الدولية؟ وماذا تقصد واشنطن على وجه التحديد حين تتحدث عن دولة فلسطينية؟
تنبغي الإشارة أولا إلى أن "حل الدولتين" مصطلح له دلالات واضحة معروفة للجميع. فهذا الحل، الذي كان مرجعية لاتفاق أوسلو بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية، يشير إلى قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الحل المتبنى دوليا وتدعو إليه وتدعمه تقليديا مختلف الدول بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
اختلف الأمر جذريا مع رئاسة دونالد ترامب الذي هندس اتفاقات "أبراهام" للتطبيع بين "إسرائيل" وعدد من الدول العربية، وغابت أي مشاريع أو مقترحات جدية في هذا الإطار عن رئاسة بايدن؛ لأسباب في مقدمتها أن "إٍسرائيل" قوّضت أي إمكانية لإنشاء دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال تدميرها للأرضية التي يمكن أن تسمح بذلك، عبر الاستيطان والسيطرة الأمنية المباشرة واستباحة الضفة وتقطيع أوصالها وغير ذلك.
وعليه، فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحدث اليوم عن دولة فلسطينية تدرك أن لا فرصة لها على أرض الواقع بسبب ممارسات الاحتلال، وهي رغم ذلك لم ولا تمارس عليه ضغطا حقيقيا بهذا الخصوص، كما أنها تخوض الحرب الحالية معه كتفا بكتف ورصاصة برصاصة. فلماذا إذن الحديث الآن عن "دولة فلسطينية"؟
في المقام الأول ترى واشنطن، وهي محقة في ذلك، أن انسداد الأفق السياسي وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم أحد أهم أسباب انفجار السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ولذلك تشعر أن زلزلا عسكريا وأمنيا بهذا الحجم ينبغي أن يدفع نحو مسار سياسي ما، تماما كما حصل في محطات سابقة أهمها مسار مدريد- أوسلو الذي أتى بعد الانتفاضة الأولى.
أحد أهم الدوافع هو تخفيف حدة الانتقادات والاعتراضات التي تواجه الإدارة الأمريكية داخليا وخارجيا بسبب موقفها من الحرب، لا سيما أن بايدن مقبل على انتخابات رئاسية تشير استطلاعات الرأي إلى أن فرصه فيها تتأثر سلبا بموقفه من العدوان على غزة. وأخيرا، تحاول واشنطن أن تمنع التأثيرات السلبية للعدوان على مسار التطبيع العربي مع الاحتلال، ولذلك فهي تضع "الدولة الفلسطينية" كغطاء للهدف الرئيس وهو إدامة مسار التطبيع
كما أن هذه الخطوة تسعى ضمنا إلى محاولة الالتفاف على المنجزات الميدانية لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية، خصوصا بعد انتفاء الأوهام بإمكانية القضاء عليها أو نفيها من غزة فضلا عن استسلامها. وبالتالي، فالأمر يقع ضمن رؤية أمريكية تسعى لتعظيم مكاسب الاحتلال وتقليل خسائره في المواجهة الحالية.
بيد أن أحد أهم الدوافع هو تخفيف حدة الانتقادات والاعتراضات التي تواجه الإدارة الأمريكية داخليا وخارجيا بسبب موقفها من الحرب، لا سيما أن بايدن مقبل على انتخابات رئاسية تشير استطلاعات الرأي إلى أن فرصه فيها تتأثر سلبا بموقفه من العدوان على غزة. وأخيرا، تحاول واشنطن أن تمنع التأثيرات السلبية للعدوان على مسار التطبيع العربي مع الاحتلال، ولذلك فهي تضع "الدولة الفلسطينية" كغطاء للهدف الرئيس وهو إدامة مسار التطبيع وإتمامه.
عمليا، المطروح اليوم ليس "حل الدولتين" المتعارف عليه، وإنما حل "دولتين" بدون "ال" التعريف. أي أن المطروح أمريكيا وغربيا في أغلبه ليس دولة فلسطينية حقيقية كاملة السيادة على المناطق المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإنما "أي دولة فلسطينية" بغض النظر عن المواصفات. ففي التصريحات الأمريكية والغربية ليس هناك تأكيد دائم كما في السابق على حل الدولتين، وإنما هناك دعوة لدولة فلسطينية بمعنى أن الأرض والحدود والمياه والسيادة والسلاح (فضلا عن عودة اللاجئين) أمور غير محسومة ومتروكة للتفاوض وموازين القوى والأمر الواقع.
والأمر الواقع أن الاحتلال لم يكتف بما فعله على مدى العقود الماضية من تقويض أركان الدولة المنتظرة، ليذهب خلال هذه الحرب نحو خطط أقرب لضم أجزاء من قطاع غزة و/أو استمرار احتلاله لها على المدى المتوسط. إزاء ذلك كان الانتقاد الأمريكي خجولا جدا وأقرب لتسجيل موقف وإطلاق تصريحات تقليدية بروتوكولية؛ منه لموقف حقيقي وقوي رافض لهذه الخطوات، علما أن واشنطن تملك -إن أرادت بما تؤمّنه لدولة الاحتلال من دعم سياسي وعسكري- إرغامه على القيام خطوات بعينها وتجنب أخرى.
التصريحات الأمريكية والغربية وبعض العربية تدعم هذه الفرضية، أي السعي نحو "أي دولة" فلسطينية، فكلٌّ من وزير خارجية الولايات المتحدة بلينكن ومستشارها للأمن القومي جيك سوليفان يتحدثان عن مبادئ تتعلق بـ"دولة فلسطينية"، فيما دعا وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون للبدء في تحديد "الشكل الذي ستبدو عليه "الدولة الفلسطينية"، و"ما الذي ستتنازل عنه".
التركيز الأمريكي الحالي على فكرة الدولة الفلسطينية ليس مدفوعا بالندم على محطات سابقة ولا برغبة في منح الفلسطينيين بعض حقوقهم، وإنما نتيجة للواقع الجديد الذي أنتجته "طوفان الأقصى" وما تبعتها حتى اليوم من إنجازات المقاومة وصمود الشعب من جهة، ومن جهة ثانية هي محاولة أمريكية لبناء قطاع غزة بدون حماس بعد الحرب وتدعيم مسار التطبيع كنوع من "الثمن" المدفوع لدولة الاحتلال
وأما الدول العربية التي نكصت عن "المبادرة العربية للسلام" وقلبت مسارها من دولة فلسطينية أولا ثم تطبيع إلى تطبيع أولا ثم دولة، ثم تراجعت عن ذلك أيضا إلى تطبيع أولا ثم "تحسين ظروف الفلسطينيين"، فلم نسمع في ظل جرائم الحرب المرتكبة في غزة من أي دولة عربية منخرطة في هذا المسار عن إلغائه أو تجميده أو حتى التلويح بإمكانية تجميده، بل صدرت بعض المواقف والتصريحات التي تشير إلى أن التطبيع ما زال ممكنا مع "إٍسرائيل" رغم كل ما اقترفته من جرائم حرب في غزة؛ إذا ما كان هناك "مسار" سياسي "يمكن أن يفضي" في نهاية المطاف لـ"دولة فلسطينية".
وعليه، ختاما، فالتركيز الأمريكي الحالي على فكرة الدولة الفلسطينية ليس مدفوعا بالندم على محطات سابقة ولا برغبة في منح الفلسطينيين بعض حقوقهم، وإنما نتيجة للواقع الجديد الذي أنتجته "طوفان الأقصى" وما تبعتها حتى اليوم من إنجازات المقاومة وصمود الشعب من جهة، ومن جهة ثانية هي محاولة أمريكية لبناء قطاع غزة بدون حماس بعد الحرب وتدعيم مسار التطبيع كنوع من "الثمن" المدفوع لدولة الاحتلال.
وهذا المعنى تحديدا هو ما أشار إليه بلينكن لنتنياهو، متحدثا عن "استعداد ورغبة" لدى بعض الدول العربية "لدمج إسرائيل في المنطقة مع منحها ضمانات أمنية مقابل مسار عملي يفضي للدولة الفلسطينية"، مؤكدا على المكاسب الكبيرة لدولة الاحتلال في معادلة كهذه، وعلى أن الولايات المتحدة ستكون حينها قد "خلقت منطقة جديدة تماما، تمكنها من مواجهة التحدي الأكبر لها ولإسرائيل، أي إيران".
twitter.com/saidelhaj
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينية الاحتلال التطبيع امريكا فلسطين الاحتلال التطبيع طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الفلسطینیة الولایات المتحدة عن دولة فلسطینیة لدولة الاحتلال دولة الاحتلال مسار التطبیع حل الدولتین قطاع غزة إلى أن من جهة
إقرأ أيضاً:
ماذا بعد قرار «الجنائية الدولية» باعتقال نتنياهو وجالانت؟.. المحكمة: ارتكبا جرائم حرب في قطاع غزة.. خبراء: الحكم انتصار تاريخي للقضاء الدولي.. وتنفيذه مرتبط بجدية الـ 124 دولة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أصداء واسعة في أعقاب إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
وحتى كتابة هذه السطور، ارتفعت حصيلة العدوان الصهيوني إلى 44 ألفا و56 شهيدا، و104 آلاف و268 مصابا منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، وقالت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، إن عددا من الضحايا مرشح للزيادة نظرا لوجود شهداء ومصابين تحت الركام وفي الطرقات، ولا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم، فضلا عن تسجيل ما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
الجنائية الدولية: نتنياهو وغالانت ارتكبا جرائم حرب في غزةوأكدت المحكمة الجنائية الدولية، في بيانها الصادر مساء الخميس، أن هناك أسباب منطقة وراء إصدار مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، وهذا القرار يأتي للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، كما أن "هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات على السكان المدنيين".
وشددت المحكمة على أن جرائم الحرب المنسوبة إلى نتنياهو وغالانت تشمل استخدام التجويع سلاحا للحرب، كما تشمل جرائم ضد الإنسانية والمتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية.
خبراء: قرار الجنائية الدولية انتصار تاريخي للقضاء الدوليوفي هذا الشأن، قال الدكتور حامد فارس، أستاذ العلاقات الدولية، إن قرار الجنائية الدولية يمثل انتصار تاريخي للقضاء الدولي، ويأتي كنتيجة عادلة لهذا الكم من الجرائم التي ارتكبتها سلطات الاحتلال في قطاع غزة.
ووصف "فارس" قرار الجنائية الدولية بغير المتوقع، مشددا على أنه على الرغم من الجرائم الواضحة والموثقة لجيش الاحتلال تجاه أهالي غزة إلا أنه كان هناك تشكك في إصدار مثل هذا القرار، في ظل ضغط دولي وبخاصة من الولايات المتحدة الرافضة لأية إجراءات دولية ضد حكومة الاحتلال، بحسب تصريحات تليفزيونية.
وتابع: "الولايات المتحدة بالطبع كانت في مقدمة الدول المعارضة لقرار المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن تنفيذ هذا الحكم، وإحالة نتنياهو إلى المحاكمة الجنائية أمر حتمي في حالة القبض عليه في أي من الدول الـ 124 من الدول الملزمة بأحكام الجنائية الدولية.
من جهته، قال الدكتور أيمن الرقب أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، على قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت.
وأضاف أيمن الرقب خلال مداخلة هاتفية مع أحمد دياب ونهاد سمير ببرنامج "صباح البلد"، والمذاع على قناة صدى البلد، اليوم الجمعة، أن هذه المذكرة بناءً على تهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما يمثل خطوة هامة نحو مساءلة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائمهم أمام القضاء الدولي.
وتابع: "قرار المحكمة الجنائية تاريخي، وسيمثل دافع معنوي للشعب الفلسطيني بعد الجرائم الإنسانية التي ارتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين.
وأوضح أيمن الرقب، أن المحكمة الجنائية الدولية سيشجع محكمة العدل باتخاذ قرارها بشأن صدور حكمها حول ما تقوم بدولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، ولكن الأهم من القرار آلية التنفيذ.
وأشار أيمن الرقب، إلى أن القرار سيقيد حركة الاحتلال ويعرقل من سهولة تنقله للخارج، موضحًا أن بنيامين نتنياهو تقبل الأمر بصورة انفعالية ووصف الحكم بأنه معادي للسامية.
ولفت أيمن الرقب، إلى أن هناك تضارب في المعايير الدولية، فالولايات المتحدة الأمريكية أيدت قرارا المحكمة الجنائية بشأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن اليوم ترفض القرار الذي صدر ضد نتنياهو.