في مجتمعاتنا العربية يتم الخلط بين مفهوم «الدولة»، ومفهوم «الحكومة»، ومفهوم «النظام»، فكثيرًا ما نلاحظ أنه حين يوجه المواطن نقدًا للحاكم يُتهم ذلك المواطن بأنه يسعى لهدم الدولة، رغم وجود فرق شاسع بين الدولة والحاكم الذي يتولى السلطة، الحاكم زائل والدولة باقية. ولكن البعض يروج لمقولة (الحاكم = الدولة)، وهى مقولة زائفة ومضللة، كذلك الزعم بأن الحاكم هو «كبير العائلة» أو «الأب» لكل المواطنين، أو هو وحده الذي يفهم، وهو وحده الذي يعرف، هو الذي يَسأل ولا يُسأل؛ ومن ثمَّ إذا أراد المواطن أن يسأل أو يستفسر عن شئ فعليه أن يسأل ذلك الحاكم، ولا يجوز للمواطن أن يسأل أحدًا غيره.
وفي الدولة المدنية الحديثة ظهرت فكرة الدساتير حيث ظهرت الحاجة إلى ما يحقق التوازن بين السلطات في الدولة (السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية)، وتنظيم العلاقة بين هذه السلطات الثلاث بما يحول دون طغيان سلطة على أخرى.
ويمثل الدستور في الدولة قمة البناء القانوني فيها، إذ يجب أن تأتي القواعد القانونية التالية له متفقة معه لا تخالف نصوصه، ولا تعارض أحكامه، وإلا أصبحت غير دستورية، وهو بهذه المثابة يُعَد إطارًا حاكمًا للحياة السياسية والقانونية في الدولة. ويهدف الدستور إلي إقامة التوازن بين السلطة والحرية في المجتمع، فبهذا التوازن تستقيم الأمور ويستقر النظام. ذلك لأنه يمنع الصراع بين طبقتي الحكَّام والمحكومين. فالحكَّام – في كل حين – ينشدون مزيدًا من السلطة، والمحكومون – على النقيض – يسعون إلى مزيد من الحرية.
وتقوم الدولة المدنية على عدة مبادئ أهمها:
- الشعب مصدر السلطات.
- المساواة وعدم التمييز على أساس الدين أو العرق.
- حرية الرأي والاعتقاد.
- العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
- احترام حق الاختيار والاختلاف.
- سيادة دول القانون والفصل بين السلطات.
في مجتمعاتنا العربية، نعاني بشدة من غياب الوعي السياسي بهذه المسائل الحيوية، لذلك نجد قطاعًا كبيرًا من الناس، يؤمن بأن الدولة إذا قامت على أساس الدين ستكون مثالية ونموذجية، ومن هنا انتشر الترويج لمقولة أن «الإسلام هو الحل» بهدف تطبيق الشريعة الإسلامية كنظام حكم للدولة. ولكننا نود أن نؤكد أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ليست - كما يتوهم الكثيرون - دعوة دينية خالصة، وإنما لها بعد سياسي خطير يتمثل في السعي نحو الوصول إلى الحكم، وذلك بإقامة الحكومة الإسـلامية. إن السعي نحو الوصول إلى الحكم، في ظل نظام تعدد الأحزاب، أمر مشروع، وإنما يكمن الخطأ والخطر في إقحام الدين في الأمور السياسية. ومحاولة - بعض الداعين إلى تطبيق الشريعة - الإيهام بأنها دعوة دينية خالصة لا تبتغي إلا وجه الله وتنفيذ أوامره، ومن هنا حاولت بعض الجماعات الدينية تأكيد وجود تماثل بين الإسلام وتطبيق الشريعة، مدخلين فى روع الناس أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة هى دعوة إلى الإسلام، وأن رفض هذه الدعوة هو مروق عن الإسلام.
هذا من جانب؛ ومن جانب آخر راجت – استنادًا إلى فترات حكم بعض سلاطين وخلفاء المسلمين – الدعوة إلى حكم «المستبد العادل» أو «الطاغية الصالح».. ومن المؤكد أنه لا وجود لطاغية صالح، فالطاغية عادةً ما يستخدم كل الوسائل في سبيل الوصول إلى غاياته. والواقع أن طريقة الحكم لدى الطاغية، سواء وصل إلى سدّة الحكم عن طريق اختيار الشعب، أم بقوة السلاح أم بالوراثة، فإن هذه الطرق جميعها «متماثلة»: إنه يقهر الشعب، وينظر إليه بوصفه فريسة له، أو يقوم باستعباده، فبدلًا من أن يحكم؛ يريد أن ينصّب نفسه سيدًا، وبدلًا من أن يتولى مهمة قيادية، يستأثر بسلطة فعلية، وبدلًا من أن يؤدي واجبًا، يمنح نفسه كل الحقوق. وأسوأ ما في الأمر أيضًا: أنه يُقْصِر حقوقه المزعومة على ممارسة البطش. ولما كان الطاغية يعيش في حالة هذيان دائم، ينهشه الفزع من كل شئ؛ ويفزع من كل شخص؛ وخاصةً من أولئك الذين اضطهدهم، لذلك يبذل الطاغية قصارى جهده لتضخيم قوته بكل الوسائل: فهو لا يعمل فقط على حرمان شعبه من العلم والفطنة، بل يحرص على أن يتفشى الفساد في كل أركان الدولة.
ويتفشي الاستبداد في منطقتنا العربية، لا على مستوى الطبقة الحاكمة فقط، بل في كل مؤسسة تجد رئيسها والعاملين بها، يشتكي كل منهم من جبروت واستبداد الحاكم الذي يجلس على رأس الدولة؛ ملكًا كان أو رئيسًا، في الوقت الذي يمارس فيه رئيس مجلس القسم أو عميد الكلية أو رئيس الجامعة أو رئيس مجلس إدارة المؤسسة أشد أنواع الاستبداد. وهذا القول ينسحب على كل مواطن تتاح له فرصة تملك سلطة!!..
وهكذا نجد المواطن العربي قد سكت طويلًا على الاستبداد فألفه، وساهم في تكريسه ورسوخه، وصارت «ثقافة الاستبداد» جزءًا من فكر المواطن وسلوكه. إن «الاستبداد» هو علة وسبب كل ما نعاني منه في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.. والديمقراطية هى الحل.. أما مقولة إن شعوبنا غير مؤهلة للحكم الديمقراطي؛ فهى مقولة باطلة؛ وليست باطلة فحسب، بل إن ترديد مثل هذه المقولة يسهم في ترسيخ النظم الاستبدادية وتبرير استمرار بقائها.
إن الديمقراطية في جوهرها حرية، وتسامح، واحترام لحرية وحقوق الآخر، لذا فالتطرف يُعَدُّ عائقًا أساسيًا في طريق تطبيقها، لأن الشخص المتطرف يكون في العادة مغاليًا في فكره، متعصبًا، ومفتقدًا للاعتدال، يرى دائمًا أن رأيه هو الصواب، ورأي غيره خطأ، الأمر الذي يدفعه دفعًا للتمييز بين الأفراد على أساس الدين أو العرق أو غير ذلك من أسباب التمييز العنصري الأخرى، وهذا في حد ذاته ضد الديمقراطية. كذلك يؤدي ضعف منظمات المجتمع المدني إلى إعاقة الديمقراطية بشكل صحيح، ويُقْصَد بمنظمات المجتمع المدني: الجمعيات والنقابات والكوادر، والمؤسسات المحلية المسئولة عن العمل الديمقراطي داخل المجتمع. إن ضعف مثل هذه القوى، وتدني ممارستها لدورها، وعدم وجود أنشطة حقيقية لها على أرض الواقع؛ يُعَدُّ عائقًا من معوقات تحقيق الديمقراطية بالمجتمع.
* أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الدولة الحكومة فی الدولة الذی ی
إقرأ أيضاً:
المحافظات المحتلة تغرق في فساد الاحتلال وانفلات مليشياته
لم يعد الطريق في المحافظات اليمنية المحتلة مجرد وسيلة انتقال بين المدن، بل تحوّل إلى رمزٍ واضح للفوضى والفساد المستشري في تلك المناطق، الجبايات التي تُفرض على المسافرين والتجار عند النقاط الأمنية لم تعد مجرد حوادث عابرة، بل أصبحت منظومة قائمة بذاتها، تدار بعقلية الجباية لا بعقلية الدولة.
يمانيون / تحليل / خاص
في كل رحلة تمر من المحافظات المحتلة، يجد المواطن نفسه أمام سلسلة طويلة من النقاط التي تستنزف أمواله تحت مسميات مختلفة، رسوم مرور، دعم محلي، ، لكنها في حقيقتها لا تصبّ إلا في جيوب المتنفذين.
هذه الجبايات العشوائية تمثل مظهراً لاقتصادٍ موازٍ نشأ في ظل حكومة الفنادق التابعة لتحالف العدوان التي لا تملك أن تفعل شيء أمام كل تلك الجرائم، لأنها ببساطة السياسية التي فرضها الاحتلال السعودي الاماراتي، في المحافظات المحتلة وتكريس الفوضى والفتن الداخلية والجرائم، فالفصائل المتعددة، التابعة لتحالف العدوان، تقاسمت النفوذ والمناطق، وكل فصيل أقام سلطته الخاصة على ما يسيطر عليه من طرق ومنافذ ومؤسسات.
وفي غياب جهاز رقابي أو قضائي فاعل، أصبح المواطن والتاجر على حد سواء ضحية لهذا العبث، يدفعون من قوتهم ما يغذي صراعات النفوذ بين القوى المتصارعة في الداخل.
الاعتداء على رأس المال الوطني
الفساد الأمني والمالي انعكس بصورة مباشرة على بيئة الاستثمار، لم يعد المستثمر يشعر بالأمان، ولا يجرؤ على التوسع في مشاريعه دون غطاء، من أحد المتنفذين، حادثة الاعتداء والاعتقال التي تعرض لها المستثمر المظفر، مالك شركة مظفر كاش للصرافة،في الغيظة، تكشف بوضوح حجم الخطر الذي يواجهه رجال الأعمال.
فمجرد ساعات من التوتر الأمني كفيلة بتحويل رجل استثمار ناجح إلى معتقل دون تهمة، ومؤسسة اقتصادية إلى هدف للابتزاز.
هكذا تتآكل الثقة في النظام والقانون، ويتراجع رأس المال المحلي، تاركاً فراغاً اقتصادياً يملؤه نفوذ الفصائل والسلاح.
التقطعات .. وجه آخر للفوضى
الفوضى ذاتها تتجلى في ظاهرة التقطعات والاعتداءات المتكررة على المسافرين، قصص القتل والنهب باتت تتكرر بوتيرة مقلقة، تعكس انعدام الأمن وفشل سلطات الأمر الواقع التابعة لتحالف العدوان في ضبط مناطقها، من جريمة مقتل الشاب عبدالملك السنباني في نقطة طور الباحة، إلى الاعتداء على القاضي النجاشي واقتحام منزله وقتل نجله، تتضح ملامح مشهدٍ دامٍ تسيطر فيه الميليشيات وتغيب العدالة، حتى الطيار في مطار عدن الكابتن طيار محمد المتوكل اختطفته عناصر مسلحة وهو على متن الطائرة في مطار عدن أثناء توجهه للسفر مع عائلته واعتقلته بذريعة التحقيق معه بتهم ملفقة ،
كل حادثة من هذه الحوادث ليست مجرد واقعة معزولة، بل حلقة في سلسلة انهيار منظومة الأمن والقضاء، حيث يصبح السلاح هو الحكم، والقوة هي القانون.
انعكاسات اجتماعية واقتصادية
تزايد الجبايات، وانعدام الأمان، واعتداءات المسلحين كلها عوامل تُفاقم الأزمة الإنسانية في المحافظات المحتلة.
فارتفاع تكاليف النقل بسبب الإتاوات ينعكس مباشرة على أسعار السلع، بينما يهرب المستثمرون ورؤوس الأموال خوفاً من المصادرة أو الخطف، وفي ظل توقف الرواتب وغياب الخدمات الأساسية، يعيش المواطن بين مطرقة الجوع وسندان الفوضى، فيما تستمر سلطات تحالف العدوان في تبادل الاتهامات وتحميل المسؤولية لبعضها البعض.
خاتمة
تُظهر الوقائع أن ما يجري في المحافظات المحتلة ليس مجرد تجاوزات أمنية أو فساد إداري، بل انهيار شامل لبنية الدولة ومؤسساتها، فالجبايات على الطرق ليست سوى وجه من وجوه الفساد المنهجي الذي يلتهم موارد البلاد ويعمّق معاناة الناس.
وما لم يطرد المحتل ويُستعاد القرار الوطني وتُفكك منظومات الفساد المسلحة، فإن طريق المواطن سيبقى طريق جباية ومعاناة، لا طريق دولة وعدالة.