بوح النساء.. هل تتخفى كاتبات السير الذاتية وراء سرد الرواية؟
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
لا بد بداية أن نسأل: هل كتابة السيرة الحياتية في العمل الأدبي تهمة؟
وهناك من يثير سؤالا آخر: لماذا تجد الكاتبات العربيات في الكتابة الروائية متسعا لتمرير بعض من سيرتهن بين ثنايا العمل في مقابل الاستغناء عن تقديم كتاب تحت مسمى "سيرة حياتية"؟
لكن ألا يعني ذلك تهميش كتابات الكاتبة العربية؟ خاصة أن هناك أجيالا من الكاتبات خاضت كتابة السيرة، مثل الروائية رضوى عاشور وكتابها "أثقل من رضوى"، والناقدة الروائية "حملة تفتيش"، والشاعرة "رحلة جبلية".
ربما يتطلب كتابة سيرة ذاتية بعض الجرأة والحذر في مجتمعات تضع كتابات المرأة في خانة المساءلة؛ لذلك يحاول المشاركون في هذا الاستطلاع أن يجعلوا الأدب إنسانيا عاما فحسب.
ميثاق الحقيقةتشير الروائية القطرية هدى النعيمي صاحبة كتاب السيرة "بوح النخيل" إلى أنها فضلت في هذا الكتاب أن تكون الراوي الصريح، والشفاف، واختارت البوح عنوانا للكتاب، حيث إنه "قد يكون البوح عنوانا جذابا للقارئ لما نتمتع به جميعا من فضول إنساني للمعرفة، والاقتراب من الأسرار، وإن هذا الفضول الإنساني المشروع هو ما يجعل كتب السيرة تشهد انتشارا واسعا خاصة في الغرب، وربما هذا ما جعل كتابي يلقى قبولا واستحسانا ممن قرأه حتى الآن"، وفق توصيف الروائية القطرية.
ويعني ذلك، بحسب النعيمي، أن أخذ قرار كتابة السيرة الذاتية، مغامرة تحتاج إلى مستوى من الجرأة.
وتضيف: "وجدت في نفسي تلك الشجاعة لخوض هذه التجربة، وقد كان بالفعل وقت كتابة تلك السيرة، وقتا جميلا، وكان الاسترسال في الكتابة، واستعادة صفحات من حياة، وذكريات هو الصفة التي صاحبتني أثناء الكتابة، حتى إنني كنت أكتب الكثير، ثم أقرر بعد أن أنتقي أي المشاهد الحياتية يمكن أن يتضمنها الكتاب الذي أظنه أقرب إلى الرواية الواقعية، باختصار لقد صاحبني شغف الكتابة الجميل، طوال الوقت".
في المقابل، تحدثت الروائية التونسية فتحية دبش عن كون كلّ الكتاب والكاتبات شرقا وغربا يستلهمون ويستلهمن من حيواتهم ومحليتهم في كتاباتهم وخاصّة في فن الرواية.
وتضيف دبش: "وجب أيضا الاعتراف للكاتبات العربيّات بقدرتهنّ على الكتابة الروائية سواء تم الاتكاء فيها على السيرة أو غيرها، خاصة أن كتابة الرواية أكثر تعقيدا من كتابة السيرة الذاتية من حيث تقنيات الكتابة. والكاتبات العربيات أثبتن أن الفارق بين كتاباتهنّ وكتابات الرجال ليس إلا فارقا كمّيا باعتبار وفرة إنتاج الكتّاب (الرجال) مقارنة بعدد الكاتبات".
وتضيف دبش: "أما عن كتابة السيرة الذاتية الصريحة فالأدب العربي لا يخلو منها حتى وإن كانت شحيحة سواء بالنسبة للكتاب أو الكاتبات وذلك يعود إلى عدّة أسباب منها الذاتي ومنها الموضوعي. حيث إنّ كتابة السيرة مشروع تام ومستقل بذاته ويحتاج إلى رؤية واضحة لماهيّة السيرة ومدى أهميّتها لتشكّل إضافة للكاتب وللمكتبة العربية. فإذا لم يتوفر هذا العنصر بطل حافز كتابة السيرة".
وتتابع: "أمّا الموضوعي، وهو الأهم بنظري؛ فيعود إلى عدم تصالح الإنسان العربي بصفة عامة رجلا كان أو امرأة، كاتبا كان أو غير ذلك، مع ثقافة الاعتراف والانكشاف والحقيقة؛ وهي ركيزة لا يمكن كتابة سيرة ذاتية أو غيرية بدون الوعي بها وبدون القدرة على مواجهة الحقيقة العارية. وأعتقد أنّ هذا السبب هو ما جعل الكتّاب العرب لا يلجؤون إلى كتابة السيرة الصريحة. بل وحتى بعض النّصوص "السير-ذاتية" التي وصلتنا لا تذعن لميثاق الحقيقة بل تسقط في معيار التمجيد للذات."
وبالمقابل ترى الروائية السودانية آن الصافي، أن الكاتب -سواء كان رجلا أم امرأة- يعي معطيات البيئات المحلية وثقافاتها.
وتتابع الصافي: "هذه الثقافات -بآلية تعاقبتها الأجيال- وضعت سياجا وخطوطا حمراء لا يُسمح بتجاوزها. على الرغم من أن هناك حقبات تاريخية سابقة كانت تضع الحديث في كل شيء ممكن كما ورد في الأثر من قصص محكية وقصائد ورسوم وكتابات من عصور سابقة".
وتستدرك فتقول إن الأمر لا يقتصر على المرأة بل الرجل أيضا؛ فلكي يعيش الكاتب بسلام ما أمكن؛ يتجنب أن يوصل دقائق وتفاصيل تخصه عبر سرده للسيرة الذاتية بشكل مباشر. ومحاسبة الكاتب أخلاقيا وشخصنة النقد قد تذهب بالأعمال الأدبية وكاتبها إلى أبعاد ليست في الحسبان. يبقى كيف للكاتب أن يعيش في هكذا مجتمعات؟!".
السيرة والروايةفي المقابل، تحدث الناقد المغربي محمد معتصم، عن تخفي المرأة الكاتبة وراء القضايا الكبرى السياسية والاجتماعية؛ حيث تدون ملاحظاتها ومذكراتها، مثلما فعلت الكاتبة المصرية هدى شعراوي وهي تكتب ذاتها من خلال التركيز على موضوعات سياسية عامة، لأن المذكرات ليست سوى نوع آخر من التعبير عن الذات الذي تميزت به كتابة السيرة الذاتية، والتي تحولت مع فيليب لوجون بعد "الميثاق الذاتي" إلى "كتابة الذات"، وتخفت المرأة مرة أخرى وراء الاسم المستعار مثال بنت الشاطئ، بنت البحر.
وقد عبرت عن هذا الاختيار القصري الكاتبة المغربية ليلى أبو زيد في مقدمة سيرتها الذاتية "رجوع إلى الطفولة" خوفا من الوسط الاجتماعي العائلي والأسري وزملاء العمل، الذي تتحكم فيه أحكام القيمة المميزة بالتعميم والتعتيم، والقائمة على حكم ثابت جَمْعي، أي "تمثل ذهني" راسخ في اللاوعي التقليدي الموروث، حول قصور عقل المرأة عن التفكير وبالتالي عن الإبداع والابتكار.
وترى هدى النعيمي أن لجوء الكاتبة العربية إلى الرواية كملاذ للبوح بسيرتها الحياتية عوضا عن تقديم كتاب تحت مسمى السيرة خدعة مشروعة في الكتابة، فهي تترك للقارئ مجال التفسير، وتسافر به بين الحقيقة والخيال، وبين (أنا الكاتب) وبين (أنا الشخصية) لتزيد أسئلته حول الرواية، والراوي، فيمكن للروائي أو الروائية الاحتماء وراء شخصية روائية مغايرة عن شخصيته الحقيقية، "ثم إنه خلف ستار تلك الشخصية، يمكن البوح بما لا يمكن البوح به على العلن، وبالتالي تبقى الرواية كما (القناع ) الذي تختفي وراءه السيرة الذاتية أو أجزاء منها، هذا ما أعتقده".
وإن كان هذا ينطبق على كلا الجنسين الرجل والمرأة، كما تقول النعيمي، فإنه بالفعل ينطبق على عالم الكاتبات العربيات بشكل أكثر كثافة من الرجال، "وأظن أن السبب لا يخفى على أحد، وهو حساسية وضع المرأة في مجتمعاتنا العربية، لكونها محافظة وتفضل التكتم على كل ما لا تنطبق عليه القيم العروبية، أو (الصح) المطلق، وهذا ما لا تأتي به الحياة عادة، فيكون مكان البوح الطبيعي هو الرواية، وهو أسلوب يفضله الكثير"، بحسب الروائية.
المباشرة والتواريوتعترف الروائية السودانية آن الصافي، أن هناك من يتخذ من المباشرة في الكتابة أمرا حتميا ويواجه المتلقي أيا كانت خلفيته ولا يكترث، وهناك من يفضل التواري خلف شخوص وقصص وحكايا الأعمال السردي والشعرية المقدمة.
وتضيف: "صدقا ما يهم هو جماليات العمل المقدم، من ناحية أخرى فليقدم الجميع سيرته الذاتية أيا كان وفي أي حقل وجد؛ فقط يلتزم الموضوعية والحياد إن أمكن، قد نشكك في ذلك، المهم أن يكون في الطرف الآخر القارئ، وأن يكون ذا قدرة على الاستفادة من هذه السير والتركيز على جوانبها الإنسانية بدون الغوص في ما قد يمس الكاتب ومن حوله بسوء. هل وصلنا في ثقافاتنا إلى هذا الحال؟!".
ويستدرك محمد معتصم: "الكاتبة العربية كتبت ذاتها بصور شتى وبأساليب مختلفة ومن بينها تضمين مواقفها وآرائها وحتى تجاربها الشخصية والميدانية في الخطاب الروائي المميز بقابلية امتصاص كل أنواع الخطابات الموجودة في الساحة الثقافية، كالخطاب الشعري والسياسي والحقوقي والإعلامي والسجال الفكري والشهادات والتحقيقات".
ويختم: "قد سمح هذا التعدد في أشكال التعبير وكذلك تضمين الكتابة الذات ضمن المتن السردي الروائي للنقاد والباحثين في آن واحد، من العثور على بنيات ثقافية وفكرية تحيل على الواقع المعيش وتدوين لكثير من الحالات الاجتماعية وكثير من القضايا السياسية والفكرية والعقدية التي شغلت الناس في مختلف المراحل التاريخية الحديثة والمعاصرة التي شكلت وجه العالم العربي وخطت رسومه وحدوده التي هو عليها اليوم. أما الآن فكثير من الكاتبات والكتاب في العالم العربي اعتادوا على تجنيس أعمالهم بدون رعب، تحت مسمى "السيرة الذاتية" العامة أو الجزئية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: کتابة السیرة الذاتیة فی الکتابة
إقرأ أيضاً:
بشرى خلفان: كان لا بد أن أخلص لصوت الشخصيات ولرؤيتي، لأكتب الرواية التي أريد
عند عتبة في سوق مسقط انتهت «دلشاد»، التي بدأت بسيرة الجوع والشبع وانتهت بسيرة الدم والذهب. جزء ثانٍ قدمت فيه بشرى خلفان شخصيتين جديدتين، جاءت الأولى من خيط منفلت من الجزء الأول، وخُلقت الثانية من أجل «الحرز»، جزءٌ توارى فيه البطل «دلشاد» لتنعكس تمثلاته في كل شيء في الرواية.
في هذا الحوار تتحدث بشرى خلفان عن إرهاصات كتابة «دلشاد: سيرة الدم والذهب»، وتكشف لنا عن ورطة توقعات القراء وما تفرضه الشخصيات من إملاءات، فضلا عن لعبة الوهم التي اتكأت عليها الرواية لتصير المغزل الذي تتشابك وتلتف حوله خيوط العمل. تتطرق بشرى في حديثها إلى لحظات كتابة الجزء الثاني من هذه الرواية والتفكير الطويل فيها، وتستعرض الطرق التي شكلت معالم الرواية.
********************************************************************************************************************
دلشاد تمت. كيف تشعر بشرى الآن؟
أشعر بالارتياح ، فلقد تخلصت من خوف كوني لن أستطيع إنجاز الجزء الثاني، وبعد ردود الفعل الأولية على العمل أستطيع أن أقول إني راضية.
بطبيعة الحال كان العمل على الجزء الثاني مرهقا، وأعزو ذلك للمسافة الزمنية بين كتابة الجزأين، التي تجاوزت الأعوام الثلاثة، إذ كنت قد انتهيت من كتابة دلشاد سيرة الجوع والشبع في ديسمبر ٢٠٢٠، بينما بدأت كتابة دلشاد سيرة الدم والذهب في يناير عام ٢٠٢٤.
ورغم أني لم أنقطع عن البحث عن المراجع وإجراء مقابلات مع الأشخاص الذين عاصروا تلك المرحلة، إلا أن كتابة جزء ثان ومحاولة تقديم ما هو مختلف وجديد ليس بالأمر السهل، مع ذلك فقد استمتعت بالتجربة وتحدياتها.
********************************************************************************************************************
ما التحديات التي تقصديها؟
كثيرة، منها تحديد الوجهة التي أريد للعمل أن يمضي إليها، لا تنسي كنت في آخر الجزء الأول قد ألزمت نفسي أمام القارئ بأني سأكتب جزء « الشبع» ، هذا بالإضافة إلى أن الحكاية بشخوصها وأحداثها ما زالت حية ونابضة في داخلي، إلا أن ثيمة الشبع التي يمكن أن تأول على وجوه كثيرة فهمت على وجه واحد، حتى ظن الكثيرون أني سأتكلم عن عهد السلطان قابوس، لكنني لا أتعامل مع الجوع بوصفه محسوسا وماديا فقط، بل بوصفه حالة من حالات الخواء النفسي والروحي والجسدي والمعرفي أيضا، كما أنه لا يمكن الانتقال بين الحالتين في قفزات سردية، أو تقديم مقاربة نمطية، لذا لم أستطع النظر في مسألة الشبع إلا بوصفها وهما.
هناك أيضا تحد على مستوى السرد والتقنية، فكرت في خيارات متعددة، ثم وجدتني أصغي لصوت الشخصيات «مريم» و«دلشاد» و« فريدة» و«ناصر» التي ما زالت تلح علي لإكمال حكايتها، لذا اضطررت للالتزام بتقنية تعدد الأصوات، ولأن العمل يقوم على عمل سبقه فهناك حذر في التعامل مع الزمن، بوصفه حاضرا ومنقضيا في الوقت نفسه.
وهناك تحدي العمل البحثي الذي أنجزت أكثره قبل الكتابة وبعضه أثنائها، ومحاولة التزام الدقة البحثية قدر الإمكان، مع ترك مساحة كافية للخيال حتى لا أقع في فخاخ التقريرية.
********************************************************************************************************************
الرواية تنهض على لعبة الوهم: (وهم الرغبات، وهم الأحلام، وهم العلاقات)، ما سر الاتكاء على الوهم؟
فرضت المرحلة الزمنية نفسها، فمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت مرحلة التنقيب عن النفط بشكل جاد في عمان، وهي ما أسميه بمرحلة «الوهم»، وهذا يتفق أيضا لفهمي للشبع بوصفه وهما.
فالبحث عن النفط في عمان ومحاولات العثور على تكوينات صخرية تحتوي مخزونا نفطيا كانت عملية تتراوح بين الرجاء واليأس، نعم، كان هناك أمل ما يلبث أن يتبدد مع كل عملية حفر فاشلة، ثم يعود فيتشكل من جديد.
ولأنه لا يمكن فهم تحولات أي قطر بمعزل عن فهم سياق تحولات المنطقة والعالم، كان لا بد من إجراء بحث حول تاريخ اكتشاف النفط في المنطقة الواقعة على ضفتي الخليج.
كل هذا كان محاولة من قبلي لفهم الأحوال السياسية والاقتصادية للمنطقة، والنفوذ الأجنبي الذي يزداد توحشا، خاصة بعد خروج مشايخ وإمارت الخليج العربي من اقتصاد مغاصات اللؤلؤ وتجارة التمور وما شابه ودخولها إلى مرحلة الصناعات البترولية، وما رافق ذلك من اتفاقيات ومعاهدات وتغير أحلاف بالطبع، وما شكله أيضا من ضغوطات داخلية في عمان.
ثم كان يجب أن يضيق البحث قليلا ليركز على عمان منذ المحاولات الأولى في عصر السلطان تيمور بن فيصل ووصولا إلى عمليات الحفر المتتالية والفاشلة في داخلية وظاهرة عمان ووسطها، مع الانتباه والتركيز على الاتفاقيات المبرمة بين حكومة السلطنة وشركات النفط.
كل ذلك البحث الموسع لم يظهر منه في الرواية إلا القليل جدا، فتاريخ النفط لم يكن هدفا في حد ذاته إلا أنه كان وسيلة لفهم المتغيرات والمآلات وانعكاسها على البلاد.
الشبع مثل الجوع، متلون ومخاتل، وفي نفس الوقت متعدد الطبقات ويتخذ صورا كثيرة غير صورته المادية.
ولأجل ذلك ساد الوهم تفاصيل الحكاية، أن يخيل إليك أنك وصلت لكنك لم تصل، لذا كان لكل شخصية وهمها الخاص كما لها فهمها الخاص للشبع.
********************************************************************************************************************
حتى مراد داهوك في حضوره وغيابه أصبح وهما
طبعا، الرواية كلها مبنية على الوهم والإيهام، كما هي مبنية على فكرة الاقتراب حد القبض على الشيء ثم إفلاته من قبضتك، وهم ومخاتلة.
********************************************************************************************************************
وهناك وهم تجلى في العلاقات أيضا.
بالضبط، نظام مثلا في اللحظة الأخيرة تساءل عما يريده من مريم؟!! كاد أن يقبض على المعنى لكنه تفلت من بين يديه، فعاد خائبا.
********************************************************************************************************************
عندما كتبت «وما الشبع إلا وهم»، شعرتِ أنك تبررين وعدك للقراء في الجزء الأول أن ما تنتظرونه يمكن أن يتغير!
يمكن اعتبار تلك التوطئة مجرد محاولة لتقديم مفهومي لميوعة فكرة الشبع نفسها، لترصد الجوع، للوهم الذي صار يتجلى ويتضح كلما أوغلت في الكتابة، فصار يتجلى في المواقف والأحداث والأحلام، حتى القصيدة التي وردت بالأوردية وهي لشاعر من شعراء الغزل في البلاط المغولي، يقول فيها: إن الحياة مثل فقاعة تحاول أن تمسك بها ثم لا تلبث أن تنفجر بين يديك، قصيدة عن الوهم بشكل من الأشكال، الحياة ليست أكثر من حلم، وهْمٌ يفلت من بين أيدينا في اللحظة التي نظنُّ أننا قبضنا فيها على جوهرها.
********************************************************************************************************************
هل تعتقدين أن الأحداث سارت بشكل أسرع في الجزء الثاني؟
قد يكون الزمن أصعب ما يتعامل معه الكاتب أثناء الكتابة الروائية، وتزداد الصعوبة في حال كتابة جزء ثانٍ كما هو الحال هنا، أضف إلى ذلك أن هذا الجزء يحاول أن يصل ما انقطع من خيوط الحكي دون إخلال.
وبطبيعة الحال تخفف هذا الجزء من تأسيس أكثر الشخصيات الذي تمّ فعلًا في الجزء الأول، باستثناء شنون وصالح بن سيف، مع ذلك كانت هناك مراوحات على خط الزمن بين الماضي والحاضر، فحضر الاسترجاع كتقنية بشكل أكبر مما كان عليه في الجزء الأول.
كما أن المدى الزمني في الجزء الثاني كان أقصر، إذ أنه غطى حوالي خمسة عشر عامًا، بينما غطى الجزء الأول حوالي خمسين عاما.
********************************************************************************************************************
هل شعرتْ بشرى أنها في ورطة ما بين انتظارات القراء وتوقعاتهم وإكراهات النص وشخصياته؟
في كتابة جزء ثانٍ لعمل ناجح كـ«دلشاد سيرة الجوع والشبع»، تحدٍ يخلقه في المقام الأول توقعات القراء، فمهما نجحت أدبيًا ستخذل أحدًا ما، بل ربما ناصبك بعض القراء العداء. لذا فالقارئ الذي لم يكن طرفًا في معادلة كتابة الجزء الأول صار طرفا غير صامت في كتابة الجزء الثاني، فكان الجهد الذي بذلته لإخراجه من ذهني أثناء الكتابة سلبا وإيجابا واحدا من أسباب تأخر كتابة الجزء الثاني.
أترين، كان لا بد أن أخلص لصوت الشخصيات ولرؤيتي وروايتي، أن أنجو من سلطة القارئ لأكتب الرواية التي أريد، ولم يكن ذلك سهلا.
أعرف أن القراء يكابدون النهاية التي وضعتها، وأنا لا ألومهم على ذلك، لكنها الحياة أليس كذلك!
********************************************************************************************************************
ما مقدار الصنعة في كتابة بشرى؟
لا أستطيع نفي الصنعة عن كتابتي، فأنا أستغرق وقتًا طويلًا في تشذيب العمل أو فلنقل صنفرته حتى أكسوه السلاسة التي تليق بالعمل الأدبي الذي أحاول تقديمه بأكبر قدر من الإتقان، ولأجل ذلك أعيد كتابة الجملة الواحدة عدة مرات وأعيد رسم المشاهد مرات كثيرة، وأحذف آلاف الكلمات دون تردد وربما أمحو أكثر مما أكتب.
كتابة الرواية ليست مجرد دفق أول نستلم فيه لما يعن على الخاطر، بل خطة وصنعة، عملية دقيقة جدا، ولا أظن أن أورهان باموق كان يبالغ عندما وصف كتابة الرواية كحفر بئر بإبرة؛ فالزمن الذي تقضيه وأنت تتوغل في البناء والحفر، والجهد المبذول في سبيل ذلك، لا يقاس بعدد الصفحات التي سودت فقط، بل بعدد ما مزق وأحرق أيضا.
********************************************************************************************************************
هل يمكن أن نعتبر الحرز هو البطل في سيرة الدم والذهب؟
ما الذي حلّ بأموال عبد اللطيف؟
ولماذا كان عبد اللطيف يكرر على مريم: «ذهبش زينة وخزينة»، «الحرز يحميش ويغنيش»، هذه أسئلة من صميم الجزء الأول، أسئلة حول المآلات المبهمة لأموال عبداللطيف التي تلاشت حتى جعلت الديانة يستولون على البيت لوماه بكل رمزيته في النص.
نعم كان الحرز هو الخيط المتفلت من نسيج الجزء الأول، الخيط الذي بدأ منه نسج سيرة الدم والذهب. الحرز، الذي صار جزء من لعبة الوهم، الوهم الذي امتد منذ أيام عبداللطيف حتى لحظة فتحه عند الصائغ، لذا كان لابد أن يكون للحرز سيرة موازية وإن كانت صامتة، فقدمت لأجله التضحيات؛ ليتكشف الوهم عن وهم أيضا في النهاية.
على الرواية أن تحاك حول محور عميق، يراكم عليه الروائي طبقات الحكي، كي يستطيع تقديم مقولاته وفهمه للفكرة التي يحاول مقاربتها، وذلك لا يتم إلا من خلال خلق عالم سردي متماسك، ذلك أننا نتعامل اليوم مع قارئ حذق وذكي ومتربص أيضا، وعلى الكاتب أن يحترم ذلك كما يحترم الأدب الذي يحاول أن يكتبه.
********************************************************************************************************************
كيف اخترعتِ شنون السرسري؟ هل انعكاس للواقع؟
لا أعرف، لكني عندما أفكر فيه الآن أشعر بالشفقة، كنت مفتونة به أثناء تشكله بين يدي، بحكايته وبشخصيته وبحزنه، لكن كيف اخترعته؟ لا أعرف. من أين أتى شنون؟ لا أعرف.
هل نبت من حكاية الحرز وصالح بن سيف الذي كان حاضرا في لحظة واحدة وخاطفة في سيرة الجوع والشبع أم أن شنون من نبتت منه الحكاية كلها، الحكاية التي تصل خيط الوهم الذي يحاول لضم الجوع بالشبع ويقرب الدم من الذهب؟
ما أعرفه أنه كان على شنون أن يحضر فحضر، شخصية هامشية تعبر عن فئة في مجتمعنا لا تعرف إلى أي فئة تنتمي، وباستحضارها نستحضر اللامرئي، وهو ما يجعلنا ندخل بشكل ما في فكرة الوهم والإيهام، لكنها، أقصد شخصية شنون، بالنسبة لي واحدة من أكمل الشخصيات التي كتبتها حتى الآن.
********************************************************************************************************************
هل معنى ذلك أن الحدث كان موجودا في ذهنك قبل أن توجد الشخصية التي تقوم به؟
كيف تكتب رواية دون أن تعرف الحكاية وترسم أحداثها بوضوح ذهني؟ وكيف يمكن أن يتم حدث دون شخصيات تدفع به ونحوه؟ هما عنصران روائيان متلازمان لا يستغنى فيه أحدهما عن الآخر.
بطبيعة الحال كنت أعرف الخيط الذي انسلّ من سيرة الجوع والشبع فقد تركته عن عمد، وكان عليّ فقط أن أقبض عليه بإحكام؛ لأبني سيرة الدم والذهب تقديما وتأخيرا ومخاتلة.
********************************************************************************************************************
توارى دلشاد ولم يصبح هو البطل، ثم نتفاجأ بفقدانه للذاكرة.
ليس دلشاد بطلا عاديا حتى يتوارى، بل هو حالة مستمرة من القهر الذي يبدل جلده ويعدد لبوسه، فتمظهرت صورة دلشاد في كل الشخصيات وفي كل نماذج «القهر»، قهر حسن لبن، قهر شنون السرسري، قهر دلشاد نفسه، قهر نظام، قهر صالح بن سيف، قهر اللصوص وقهر الشيوخ والثوار، دلشاد تراتبية من القهر تبدأ مع الإنجليز/ المحتل وتنتهي بهم بشكل من الأشكال.
********************************************************************************************************************
اختراع الميتات الفريدة لأزواج أم شنون مع مفارقة موتها العادي البسيط في البيدفور، هل هي نهايات مخطط لها؟
بالطبع، فشنون السرسري شخصية أحاطت بها الغرابة والعبثية منذ ميلاده حتى لحظة موته، وكأنه خلق ليشقى، مع ذلك فهو مثل دلشاد لم يتوقف عن التحديق في الحياة بعينين مفتوحتين. شخصية صلبة الجوهر رغم الهشاشة التي قد تخدع للوهلة الأولى.
********************************************************************************************************************
كيف كتبت عن زراعة الغليون وكأنك جربت ذلك؟ ولمَ الغليون تحديدا؟
اخترت زراعة التبغ أو الغليون كما يسمى محليا؛ لأنه رغم انتشار زراعته في عدة ولايات سابقا، بل وربما لم يزل يزرع في بعض الولايات الشمالية، إلا أنه ليس من الزراعات المذكورة في عمان، ربما لصغر الرقعة الزراعية التي يحتلها، أو ربما للوصمة التي يحملها كنبات يشوب استخدامه كدخان حرمة.
لا أعرف كبشرى الكثير عن الزراعة بشكل عام، لذا كان عليّ إجراء بحث مكتبي حول الموضوع؛ لأستطيع كتابة شخصياتي بشكل مقنع، فصالح وأبوه كانا مزارعين وعليهما أن يعرفا أسرار زراعة الغليون الذي اختارها كمحصول تجاري، هما يعرفان وليس أنا، فأنا لست أكثر من كاتبة تحاول إتقان عملها.