جبر الخاطر وأثره في توثيق الروابط الاجتماعية.. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
خطبة الجمعة2024.. حددت وزارة الأوقاف، خطبة الجمعة، 9 فبراير 2024، تحت عنوان جبر الخواطر وأثره في توثيق الروابط الاجتماعية.
وفي هذ الإطار تقدم «الأسبوع» لزوراها ومتابعيها نص الخطبة التي أعلنت عنها وزارة الأوقاف، ويأتي هذا ضمن خدمة مستمرة تقدمها لقرائها، في كافة الموضوعات المتنوعة.
نص خطبة الجمعة غداالحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهو علي كلِّ شيءٍ قدير، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المنيرُ سيدُ الأولين والآخرين، أرسلَهُ ربُّهُ رحمةً للعالمين، وعلي آلِه وأصحابِه أجمعين، ومَن تبعَهُم بإحسانٍ إلي يومِ الدين.
أولاً: عبــــادةٌ وخلــقٌ مهجـــورٌ
* عبادَ الله: إنّ الكثيرَ منّا إذا ذُكرتْ العباداتُ ذهبَ عقلُهُ وفكرُهُ إلي الصلاةِ والصيامِ وبرِّ الوالدينِ وصلةِ الأرحامِ وغيرِهَا مِن العباداتِ التي اعتادَ علي فعلِهَا والسماعِ عنها، ورغمَ عظمِ هذه العباداتِ وفضلِهَا إلّا أنّ هناك عباداتٌ أخرَي نغفلُ عنها، ويغفلُ عنها الكثيرُ، وهي عباداتٌ قد لا تكلفنَا شيءٌ ومع ذلك أجرُهَا عظيمٌ، منها جبرُ الخواطرِ، وجبرُ الخواطرِ في حقيقتهِ نوعٌ مِن البرِّ و الإحسانِ إلي الخلقِ، والبرُّ اسمٌ جامعٌ للخيراتِ كلِّهَا، والإحسانُ هو أنْ تُعطِي ولا تنتظرُ مقابلًا، ولجبرِ الخواطرِ أثرٌ عظيمٌ في توثيقِ وتقويةِ الروابطِ الاجتماعيةِ.
وجبرُ الخواطرِ عبادةٌ وخلقٌ إسلاميٌّ عظيمٌ يدلُّ على سموِّ نفسٍ ورقةِ قلبٍ وسلامةِ صدرٍ ورجاحةِ عقلِ فاعلهِ، يجبرُ المسلمُ فيهِ نفوسًا كُسرتْ وقلوبًا فُطرتْ وأجسامًا أُرهقتْ، وأشخاصًا فقدُوا أحبابَهُم وذويهم، فما أجملَ هذه العبادةَ وما أعظمَ أثرَهَا.
ومِن أسماءِ اللهِ تعالي الجبارُ، قالَ تعالي:{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)}(الحشر).
ومِن معانِي اسمِ اللهِ الجبار أنَّهُ جابرٌ لكلِّ كسيرٍ، والمصلحُ لأمورِ خلقِه، يجبرُ كسرَ القلوبِ والنفوسِ، ويجبرُ كسرَ الفقيرِ فيغنيه، ويجبرُ كسرَ المريضِ فيداويه، ويذهبُ همَّ المهمومِ، ويفرجُ كربَ المكروبِ، ويبثُّ الأملَ في قلبِ البائسِ الحزينِ، فمَا أجملَ هذا المعنَي.
وكان مِن دعاءِ الرسولِ الله ﷺ في الجلوسِ بينَ السجدتينِ في الصلاةِ أنْ يجبرَهُ اللهُ تعالي، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي».(سنن الترمذي). قال في الصحاحِ: الجبرُ أنْ تغنيَ الرجلَ مِن فقرٍ أو تصلحَ عظمَهَ مِن كسرٍ، وجبرَ اللهُ فلانًا سدّ مفاقرَهُ وجبرَ مصيبتَهُ وردَّ عليهِ ما ذهبَ منهُ أو عوضَهُ.(فيض القدير).
ثانياً: جبرُ الخواطرِ صورٌ ونماذجُ.عبادَ الله: إنّ في كتابِ اللهِ تعالي وسنةِ نبيِّهِ ﷺ عشراتِ النماذجَ لجبرِ الخواطرِ منها:
*قولُهُ تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } (يوسف)، كان هذا الوحيُ مِن اللهِ سبحانه وتعالى تثبيتًا لقلبِ يوسفَ عليه السلام وجبرًا لخاطرِهِ، لأنَّهُ ظُلِمَ وأوذِيَ مِن أخوتِه، والمظلومُ يحتاجُ إلى جبرِ خاطرٍ، لذلك شرعَ لنَا جبرَ الخواطرِ المنكسرةِ.
* وقالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }(القصص)، رسولُ اللهِ ﷺ الذي أحبَّ مكةَ التي وُلِدَ فيهَا ونشأَ أُخرجَ منها ظلمًا، فاحتاجَ في هذا الموقفِ الصعبِ وهذا الفراقِ الأليمِ إلى شيءٍ مِن المواساةِ والصبرِ، فأنزلَ اللهُ تعالى عليه إنَّ الذي فرضَ عليكَ القرآنَ وأرسلَكَ رسولًا وأمركَ بتبليغِ شرعِه سيردُّكَ إلى موطنِكَ مكةَ عزيزًا منتصرًا وهذا ما حصلَ.
* وقالَ تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} في سورةِ الضحى، وانظرْ لروعةِ العطاءِ المستمرِّ في هذه الآيةِ حتى يصلَ بالمسلمِ لحالةِ الرضَا، فهذه الآيةُ رسالةٌ إلى كلِّ مهمومٍ ومغمومٍ، وتسليةٌ لصاحبِ الحاجةِ، وفرجٌ لكلِّ مَن وقعَ ببلاءٍ وفتنةٍ، أنّ اللهَ يجبرُ كلَّ قلبٍ لجأَ إليهِ بصدقٍ.
* و في صحيحِ مسلمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: «اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟» فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: " يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ "(صحيح مسلم).
* وقالَ تعالي: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)}(الأنبياء). فاستجبنَا لهُ دعاءَهُ ووهبنَا لهُ على الكبرِ ابنَهُ يحيى، وجعلنَا زوجتَهُ صالحةً في أخلاقِهَا وصالحةً للحملِ والولادةِ بعدَ أنْ كانتْ عاقرًا، إنَّهُم كانوا يبادرون إلى كلِّ خيرٍ، ويدعونَنَا راغبينَ فيمَا عندنَا، خائفينَ مِن عقوبتِنَا، وكانوا لنَا خاضعينَ متواضعين.(التفسير الميسر).
*و فقراءُ المهاجرينَ جاءوا يشكونَ إلي النبيِّ ﷺ عدمَ قدرتِهِم علي التصدقِ كالأغنياءِ، فجبرَ ﷺ خاطرَهُم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ؟ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ» قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولُ اللهِ قَالَ: «تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً» قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»(صحيح مسلم).
ثالثاً:الجزاءُ مِن جنسِ العـــملِ.عبادَ الله: مَن عاشَ بينَ الناسِ جابرًا للخواطرِ أدركَهُ اللهُ في جوفِ المخاطرِ، ومَن جبرَ الخواطرَ بقضاءِ حوائجِ الناسِ والإحسانِ إليهِم كان هذا مِن أعظمِ أعمالِ البرِّ، لِمَا فيهِ مِن المواساةِ والتكافلِ بينَ المسلمين، واللهُ سبحانَهُ وتعالي أخبرَنَا أنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ، قالَ تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } (البقرة)، وقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (البقرة)، وقال: { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (محمد).
وكذلك النبيُّ ﷺ أخبرَنَا أنّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ، قال ﷺ: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»(صحيح البخاري)، وقال أيضًا: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا»(صحيح مسلم)، فمَن جبرَ خواطرَ الناسِ جبرَ اللهُ خاطرَهُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ
اقرأ أيضاًانضمام ٣٦٣ مسجداً بسوهاج ضمن مبادرة «حصن طفلك بالقرآن الكريم»
احتفالات محافظة السويس بعيدها القومى المحافظ ووزير الاوقاف ومفتى الجمهورية يفتتحون مسجد الرحمة بمدينة السلام 2
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: خطبة الجمعة خطبة الجمعة غدا نص خطبة الجمعة
إقرأ أيضاً:
يناجي الله في سجود التلاوة
في يوم الجمعة الرابعة عشرة من رمضان لعام ألف وأربعمائة وستة وأربعون للهجرة، كان يوماً جميلاً حين انطلقت لصلاة الجمعة في جامع الراجحي بمدينة الرياض، وإذ بالخطيب يستفتح تلك الخطبة الرائعة العميقة في معانيها، تثير الشغف في آذاننا، حدثنا عن قصة الصحابيين الجليلين اللذين حميا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في فم الشعب خلال غزوة ذات الرقاع، وفي عتمة الليل، اختار الأنصاري أن يتولى الحراسة، بينما نام المهاجر، أراد ذلك الأنصاري أن يخلو مع ربه ويتلذذ بمناجاته، فقام يصلي ويستفتح كتاب الله، يقرأ ويرتّل، ويحلق في أجواء القرآن، ويعيش مع آياته وهو قائم، وإذ بالعدو يتربص بهم، فيرمونه بسهم، فينزعه ويواصل قراءة تلك الآيات الكريمات، ثم يسدد العدو مرة أخرى، فينزعه ويستمر، ثم يُرمى ثالثاً فينزعه، ثم يركع ويسجد ويوقظ صاحبه. فلما أفاق الأخير، عاتبه على عدم إيقاظه، قال له: “كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها. فلما ركعت، أريتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطعت نفسي أحب إليّ من أن أقطعها وأنفذها.” انتهت القصة، فهي حقاً عظيمة، وداخل ذلك الجامع، أزعم أن المصلين كانوا يتأملون في حال ذلك الصحابي الذي ضحى بنفسه وعاش مع الله، وكان من الممكن أن يقدم روحه في سبيله. ما الآيات التي كانت تتردد في أذنه؟ وما الشعور الذي كان يستشعره؟ لا يمكن أن أصف شعوره في بضع أسطر أكتبها الآن، لكنني أزعم أنه كان يعيش في سماء عالية في مناجاة الله.
انتهينا من صلاة الجمعة، وانطلقت لأحد المحافظات، حيث كان لدينا موعد لنطق الشهادة مع اثنين وثلاثين قد منّ الله عليهم وفتح قلوبهم للدخول في الإسلام، وقد استضافهم رجل زاهد عابد قد فتح بابه لإكرامهم، حضرت بعد العصر، ووجدته في المسجد، يجلس على كرسيه يحلق ويرتّل في الجزء الأخير من القرآن، وبينما هو يقرأ، إذا مرت به آية سجدة تلاوة، فأومأ برأسه ساجداً على كرسيه، وبدا يدعو بدعاء سجود التلاوة، ثم أخذ في مناجاة الله تعالى لأكثر من خمس عشرة دقيقة، وهو مومئ في سجود التلاوة على كرسيه، لا ينقطع عن الدعاء، حتى جاءه سائل فاستوقفه، كنت أقول في نفسي: ماذا عاش ذلك الرجل مع الله في دعاء سجود التلاوة؟ واستمر الوقت الطويل يدعو الله ويناجيه ويبتهل إليه ويسأله وهو في سجود تلاوة، كان مشهداً مهيباً، تذكرت قصة الصحابي في خطبة الجمعة، فمن عاش مع الله استلذ بمناجاته، ومع اقتراب المغرب، انطلقت معه لاستقبال المسلمين الجدد قبيل الإفطار في منزله، حيث يكرم ضيوفه، وبعد الإفطار، ذهبنا لصلاة المغرب، وما زال المشهد يتحدث، فقد نطق الشهادة بعد الصلاة اثنان وثلاثون رجلاً دخلوا في الإسلام، وكان قد استضافهم الكريم ابن الكريم، وهو من أشهدهم وأنطقهم الشهادة بعد الصلاة، وكان وجهه متهللاً ، فقد دخلوا في رحاب الإسلام، كان يوماً جميلاً، لا يسعني وصفه في أسطر، فقصصنا ومشاعرنا الإيمانية تنبض بالحياة، عندما تعيش نفسك مع الله، تهون عليها كل الصعاب، فقد أدرك هؤلاء قيمة الحياة الدنيا البسيطة، وكانت همتهم عالية تسعى لما عند الله، تذكرت مقولة ابن تيمية: “إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة.” جعلنا الله وإياكم ممن طال عمره وحسن عمله.