نشر مجلة "بوليتيكو" مقالا للصحفية نحال توسي قالت فيه “إن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وبحسب المقربين منه، لا يرفع صوته أو يصرخ عندما يغضب ولكنه يصبح حادا وصريحا جدا بخصوص ما يريد وإذا كان هناك طاولة فسوف ينقر عليها بالتأكيد".

واضافت أن بلينكن أظهر هذا الغضب الهادئ على انفراد خلال الأشهر القليلة الماضية أثناء تعامله مع الحرب بين إسرائيل وحماس، وهو التحدي الأكثر صعوبة حتى الآن في فترة ولايته.



ولكن ربما حان الوقت للتعبير عن بعض هذا الغضب علنا. لأنه في هذه اللحظة يبدو ضعيفا.

وبينت الكاتبة، "أن القادة الإسرائيليون استجابوا لطلبات بلينكن بتنازلات بسيطة، إن لم يكن بتحد صريح، وقد منحه الرئيس جو بايدن نفوذا يقارب الصفر لاستخدامه معهم. إن المحادثات الواعدة المتعلقة بالحرب يقودها آخرون في إدارة بايدن".



وفي الوقت نفسه، يشعر العديد من موظفي وزارة الخارجية بالغضب من تعامله مع الأزمة.

ويشتهر بلينكن بأدبه، حتى في المناسبات غير الرسمية، وهي السمعة التي كان يتمتع بها حتى عندما كان طفلا كما أنه حريص أيضا على الالتزام بنقاط حديثه، لذلك لن تكون متأكدا أبدا مما يؤمن به حقا. وتعلق الكاتبة "بينما كنت أشاهده وهو يتعامل مع هذه الأزمة، بدأت أتساءل عما إذا كان ألطف من أن يكون وزيرا للخارجية" وفقا للمقال.

وتابعت "إذا أبدى بلينكن غضبه علنا، فربما لن يعارض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بسهولة دعوته لإقامة دولة فلسطينية مستقبلية. ربما يكون غضب بلينكن بشكل أكثر وضوحا بشأن الصراع يعني أن الناشطين المؤيدين للفلسطينيين - مثل أولئك الذين يحتجون خارج منزله - يمكن أن يجدوا المزيد من التعاطف مع الموقف الأمريكي الذي يرون أنه مؤيد لإسرائيل بلا تردد".

وطرحت الكاتبة مثل هذه الأسئلة على ما يقرب من عشرة أشخاص - بعضهم في الإدارة الذين يعملون مباشرة مع بلينكن، وغيرهم من موظفي وزارة الخارجية، والمسؤولين الأمريكيين السابقين، والمحللين وغيرهم - قبل زيارة الوزير الحالية إلى الشرق الأوسط. وهذه هي رحلته الخامسة إلى المنطقة منذ هجوم حماس المسلح على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر والذي أدى إلى شن الحرب.

ورفضت الوزارة إتاحة بلينكن للتعليق. لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر قال في بيان إن الزعماء الإقليميين يقولون لبلينكن باستمرار إن القيادة الأمريكية  "لا غنى عنها في معالجة هذه الأزمة".

وقال ميلر: "في بعض الأحيان تأتي النتائج بسرعة، وفي أحيان أخرى يستغرق الأمر المزيد من الوقت، لكنه سيواصل معالجة هذه المشاكل الصعبة لأن العمل الذي يقوم به مهم للولايات المتحدة ومهم للعالم".

معظم الأشخاص الآخرين الذين تحدثوا مع المجلة  واشترطوا عدم الكشف عن هويتهم بسبب حساسية الموضوع، وتراوحت ردودهم بين الازدراء لأسئلة الصحافية والازدراء لأداء بلينكن. الشيء الوحيد الذي تم الاتفاق عليه أكثر هو أن بلينكن يواجه تحديا صعبا بشكل استثنائي أثناء عمله ضمن الحدود التي حددها بايدن، بما في ذلك رفض فرض شروط على المساعدات العسكرية لإسرائيل.

وتعمل إدارة بايدن على خطط تربط بين رغبة الفلسطينيين في إقامة دولة ورغبة إسرائيل في إقامة علاقات رسمية مع دول عربية مثل السعودية.

وهي تحاول تجميع اقتراح - خارطة طريق، أو إطار عمل، أو أي شيء آخر - يتضمن حوافز لجميع الأطراف لوقف الحرب والنظر إلى ما بعد الحرب. وسوف تشمل إعادة بناء قطاع غزة وإصلاح السلطة الفلسطينية.

وقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية: "هناك العديد من القطع المتشابكة، والأمر معقد".

واستنادا إلى الإشارات العامة حول هذه الاستراتيجية والهمسات التي أسمعها في جميع أنحاء واشنطن، فإن هذا النهج قد ينطوي على تكثيف الضغوط على إيران، الدولة الداعمة لحماس التي يلقي العديد من القادة العرب والإسرائيليين عليها المسؤولية عن الفوضى الحالية. إن عقد مؤتمر سلام كبير يمكن أن يكون أحد الخطوات.

وهذا الاقتراح، الذي تأمل الإدارة في تقديمه إلى دول المنطقة، قد يمنح بلينكن أوراقا أقوى في الأسابيع المقبلة بينما يتجادل مع نظرائه. لذا، قد لا يكون الآن هو الوقت المناسب لإبداء بلينكن غضبه علنا.



بالإضافة إلى ذلك، تحدث الناس أنه في لحظات الأزمات، الغضب لا يساعد في كثير من الأحيان - فالوجود الهادئ والثابت من المرجح أن ينجز المهمة.

قال دينيس روس، المسؤول الأمريكي السابق الذي أمضى سنوات منخرطا في جهود السلام في الشرق الأوسط: "هناك أوقات وأماكن ينبغي فيها للوزير، سواء في السر أو في أوقات معينة في الأماكن العامة، أن يعبر عن مستوى من الغضب والإحباط، ولكن إذا أفرطت في استخدامه، فلن تكون أداة مفيدة للغاية، وستصبح قيمتها منخفضة".

وذكرت الكاتبة، "جاءت أكبر مشاكل بلينكن في التعامل مع الإسرائيليين، على الرغم من أن القادة العرب ألقوا عليه في وقت مبكر محاضرات خيالية وكانوا حذرين من أن يُنظر إليهم على أنه أي شيء آخر غير الغضب من الولايات المتحدة".

بعد أيام فقط من هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، زار بلينكن إسرائيل، وفي محادثات مع القادة هناك، أصر على السماح لبعض المساعدات بدخول قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، حيث كان الفلسطينيون يفرون من القصف الإسرائيلي. وأظهر شيئا من غضبه وقتها.

وقال أحد مستشاري بلينكن: "كنا نتجادل بعد ذلك حول عدد مكون من رقم واحد من شاحنات المساعدات الإنسانية التي تدخل غزة، وكانت هناك مقاومة من الجانب الإسرائيلي بشأن ذلك. لقد أوضح توني وجهات نظره بشكل واضح بطريقة  لا يمكن الشخص أن يخطئها".

وكجزء من هذا، أخبر بلينكن "الإسرائيليين" أن رحلة بايدن إلى بلادهم كانت على المحك.

 وأشار أحد مساعدي بلينكن إلى أن الوزير قال للإسرائيليين، في الواقع: "الرئيس لن يصعد على طائرته حتى تعطيني التزامك الآن بفتح المساعدات الإنسانية".

لقد كان للضغوط الأمريكية تأثيرها: هناك بعض المساعدات تذهب إلى غزة؛ وتم إطلاق سراح العشرات من الأسرى الإسرائيليين؛ وقد سمح توقف القتال لبعض الفلسطينيين بالهروب من القصف. 

لكن بلينكن نفسه يعترف بأن النتائج تافهة بالنظر إلى حجم المعاناة في غزة، حيث تم تهجير غالبية السكان البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة وقتل أكثر من 25 ألف شخص. وتقول الأمم المتحدة إن حجم المساعدات التي تدخل غزة لا تزال أقل بكثير مما هو مطلوب.

كما قال بلينكن مرارا إنه في نهاية المطاف يجب أن توجد دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وأن السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها يجب أن تتولى زمام الأمور في غزة بعد اقتلاع حماس. لكن نتنياهو رفض هذه الأفكار في مناسبات عديدة، وهو ازدراء واضح لبلينكن وبايدن.



فما الذي يجب على وزير الخارجية أن يفعله عندما يقع في وضع حرج بهذه الطريقة؟
يقول زملاؤه: استمر في المحاولة ويشمل ذلك المزيد من الرحلات إلى المنطقة، والمزيد من المكالمات الهاتفية، والمزيد من الخطب. إنها، كما أخبرني المستشار، "عملية"،  عملية طويلة.

يشير بعض زملاء بلينكن إلى المآثر المتعلقة "بإسرائيل" التي قام بها وزيرا الخارجية السابقان هنري كيسنجر وجيمس بيكر، اللذين تحملا أيضا عمليات طويلة.

وعاش بيكر عمليا في الشرق الأوسط عام 1991 حيث كان يجمع الدعم لمؤتمر سلام كبير في مدريد. لكن بيكر كان أيضا الرجل الذي، بسبب إحباطه من القادة الإسرائيليين في عام 1990، ذكّرهم علنا برقم هاتف البدالة في البيت الأبيض وقال: "عندما تكونون جادين بشأن السلام، اتصلوا بنا".

وقال آرون ديفيد ميلر، المسؤول الأمريكي السابق الذي أمضى سنوات عديدة في التفاوض بشأن القضايا الإسرائيلية الفلسطينية، إن أحد الجوانب السلبية لبلينكن هو أنه ربما يكون لديه الجزء الأقل تحديدا من بين جميع مساعدي بايدن الذين يعملون على حل لغز الشرق الأوسط.

ويتولى ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، معالجة المحادثات الرامية إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. 

ويتولى المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوشستاين مهمة محاولة تهدئة التوترات بين إسرائيل ولبنان.. ويتولى المبعوث الأمريكي الخاص ديفيد ساترفيلد من الناحية الفنية مسؤولية تحسين الوضع الإنساني في غزة. 

ويواصل بريت ماكغورك، المسؤول الكبير في مجلس الأمن القومي، توجيه الجهود لإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والسعوديين.

تقول توسي إن اختصاص بلينكن، بطريقة ما، هو كل ما سبق. لكن ميلر قال إنه حتى الآن يبدو أن بلينكن يفتقر إلى هدف ملموس خاص به.

وقال زملاؤه إن بلينكن لا يمانع في مشاركة المحفظة. وفي بعض الحالات، يمتلك آخرون القنوات الأفضل لإنجاز ما هو مطلوب، مثل تحرير الرهائن. ويتعامل بلينكن مباشرة مع كبار صناع القرار الإقليميين – الذين يمكن أن يكونوا واثقين جميعا من أنه يتحدث نيابة عن رئيس خدمه لفترة طويلة.

ويلقي العديد من المراقبين اللوم على بايدن لعدم منح بلينكن مساحة كافية للضغط على إسرائيل. لن يضع الرئيس شروطا على المساعدات العسكرية لإسرائيل ويريد دعم إسرائيل بقوة في منتديات مثل الأمم المتحدة.

ويتعجب قادة المنظمات الإنسانية من الكيفية التي يقول بها المسؤولون الأمريكيون إنهم يضغطون على الإسرائيليين، ولكن دون تغييرات تذكر. وقال جيريمي كونينديك، رئيس المنظمة الدولية للاجئين، في مؤتمر صحفي عقد مؤخرا: "هناك نوع غريب من العجز الذي تشعر به عندما تتحدث إلى أقوى حكومة في العالم".

ويقول زملاء بلينكن إن الزيارات الأمريكية المتكررة والضغوط الخطابية والإجراءات المتعلقة بالضفة الغربية تظهر أن "إسرائيل" لم تفلت من العقاب. 

ويحذرون من أن التخلي عن إسرائيل من غير المرجح أن يدفعها إلى تغيير تصرفاتها بالنظر إلى الغضب الشعبي الإسرائيلي بسبب هجوم حماس في تشرين الأول/ أكتوبر.

وقال اثنان من زملاء بلينكن إنه يدعم قرار بايدن بعدم حجب المساعدات العسكرية عن إسرائيل. لسبب واحد، إذا بدا أن الولايات المتحدة تبتعد عن إسرائيل عسكريا، فإن ذلك قد يشجع حماس، وهي منظمة تصنفها الولايات المتحدة على أنها إرهابية، على مواصلة القتال.

كان رد مستشار بلينكن علي عندما طرحت مسألة الضغط على الإسرائيليين: "هل تعتقدين أن حماس يجب أن تبقى في السلطة في غزة؟".

ومع ذلك، وبالنظر إلى مستوى المعاناة في غزة، حيث تخشى منظمات الإغاثة أن المجاعة تلوح في الأفق، يقول النقاد إن مثل هذا التبرير للحفاظ على تدفق الأسلحة إلى إسرائيل لا يفي بالغرض. بل إنه يثير تساؤلات حول ما إذا كان فريق بايدن يدعم حقا حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

قال أحد محللي السياسة الخارجية عن دائرة بايدن: "إنهم يؤمنون بحل الدولتين مثل: نعم، إنها فكرة جميلة. ولكن ما مدى إيمانهم به بالفعل؟ ستخبرني عن مدى إيمانك بها بالفعل من خلال ما تفعله – مثل، هل هناك عواقب على الأشخاص الذين يعارضون ذلك؟"



ويصر المدافعون عنه على أن بلينكن جاد بشأن الدولة الفلسطينية المستقبلية. وقال مسؤول أمريكي مقرب من بلينكن: "إنه ليس شخصا يتحدث من كلا جانبي فمه".

يبدو بلينكن أكثر هزالا وشاحبا ومتعبا من المعتاد هذه الأيام. إنه يعلم أن صورته تتعرض للانتقاد
ومن الواضح أنه مستاء من تلميحات بعض النقاد بأنه لا يهتم بحياة الفلسطينيين.

لكن داخل وزارة الخارجية، يشعر الكثيرون بعدم الرضا العميق عن تعامل بلينكن مع أزمة الشرق الأوسط. وقد قام بعض الموظفين بتوزيع مذكرات معارضة تطالب، من بين أمور أخرى، بأن تنتقد الولايات المتحدة الإسرائيليين علنا.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية بلينكن وزارة الخارجية غزة غزة الاحتلال وزارة الخارجية العدوان الإدارة الأمريكية صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة وزارة الخارجیة الشرق الأوسط أن بلینکن العدید من فی غزة

إقرأ أيضاً:

أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (1)

مهدي رابح

في شهري سبتمبر وأكتوبر 2021م احتدمت الأزمة بين القوى المدنية المكونة لتحالف الحرية والتغيير والمشاركة في السلطة الانتقالية من طرف والمكون العسكري بشقيه الجيش والدعم السريع من الطرف الآخر لتبلغ قمة تعقيدها. وهي أزمة تركّزت بصورة أساسية حول المطالبة بتنفيذ ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من استبدال الجنرال البرهان ونائبه حميدتي في رئاسة المجلس السيادي بالمدنيين وما يترتب علي ذلك من أحكام لسلطة الأخيرين السياسية ما قد يمكنهم من المضي قدما في عمليات إكمال تفكيك أركان النظام السابق واستعادة الأموال العامة المنهوبة وتدشين عمليات الإصلاح لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها القطاع الأمني والعسكري والخدمة المدنية، والتي يسيطر على مفاصلها عناصر الإسلامويين بصورة أساسية, وربما الإعداد لبقية عمليات التحول الديموقراطي المختلفة.

في تلك الفترة التي توسطت الخطوات الأخيرة في الإعداد لانقلاب ال 25 من أكتوبر، أي ما بين إعلان تكوين الواجهة المدنية للنظام الاستبدادي الجديد المنشود والمتمثلة في تحالف “مجموعة ميثاق التوافق الوطني/الكتلة الديموقراطية لاحقا” في الثاني من أكتوبر وبداية الاعتصام الشعبي المصطنع أمام القصر الرئاسي، والمموّل من قبل استخبارات الجيش والدعم السريع والمعروف باعتصام “الموز”، في السادس عشر من نفس الشهر، قام قائدان من الصف الأول للجيش والدعم السريع بزيارة سرية مشتركة إلى تل أبيب تُمثِّل في حد ذاتها مجموع تجليات تهرؤ أركان الدولة بسبب سيطرة كارتيل إجرامي على مصيرها، كارتيل هو اتحاد بين ثلاث منظومات إجرامية بكل ما تحمل الكلمة من معاني، قيادات الجيش وقيادات الدعم السريع والمركز الأمني العسكري للحركة الإسلامية.

الزيارة المذكورة، وحسب ما رشح عنها من معلومات مؤكدة بصورة لا يرقى إليها أي مجال للشك بتاتا، تمحورت حول إمكانية لعب إسرائيل لدور في عمليات تسويق الانقلاب المزمع لدى القوى الغربية الكبرى الداعمة للانتقال الديمقراطي. وكان مكمن ضُعف خطة التسويق تلك، إن جاز التعبير، هو اعتمادها على كذبة مركزية بلقاء أهم عناصرها هو ادعاء دعم بعض الشخصيات السياسية المدنية القوية المؤثرة لهذا الانقلاب كمخرج أوحد لما سمي حينها ب “الأزمة السياسية”، ما أدى إلى فشل الخطة بعد أيام قلائل عقب الرد على بعض الاستيضاحات العاجلة التي قدمت عبر القنوات غير الرسمية، وما أدى لاحقا أيضا، وبعد الانقلاب لإحكام العزلة الدولية على شريكي المؤامرة، الجيش والدعم السريع.

من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهن القارئ/ة سؤال بديهي مشروع أرى أن أقوم بالرد المختصر عليه مباشرة قبل الدخول في متن المقال وهو من شقين.

“كيف تلعب إسرائيل مثل هذا الدور؟ وما مصلحتها في ذلك؟.”

تؤكد معطيات الواقع التي لا ينتطح حولها عنزان أن موقف عديد القوى العظمى “الغربية” من قضية وجود إسرائيل وضمان أمنها هو موقف تاريخي استراتيجي ثابت لا يتزحزح – بغض النظر عن مدى صوابه أو خطئه، فذلك مبحث مختلف – ويمثل لها أولوية قصوى تسبق أي أجندات أخرى، وهو ما يوفر للأخيرة سهولة استغلال القنوات الدبلوماسية المفتوحة والثقة المتبادلة مع تلك الدول القوية لتمرير أي رسالة تريدها، هذا فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال. أما في الشق الثاني، فإن ارتباط مصلحة إسرائيل المباشرة بوجود نظم استبدادية خاضعة في محيطها العربي الإسلامي المعادي، مستعدة وقادرة عبر أدوات القمع المختلفة على فرض موقف رسمي ومتصالح مع التطبيع ضد تيار شعبي عارم وغير قابل لأن يتبدل بصورة كبيرة في المدى المنظور يجعل منها داعمة لأي خطوة في سبيل ترسيخ هكذا ديكتاتوريات، ذلك بالطبع على حساب أي تيارات ساعية لترسيخ نظم حكم ديمقراطية تعكس الإرادة الجماهيرية الحرة، وهو ما يفسر دعمها للجنرالين البرهان/حميدتي منذ وقت مبكر جدا، وبالمقابل استعداؤها للمدنيين الديموقراطيين. وليس أدل علي ذلك، وأبلغ من تصريح وزيرة الخارجية في الحكومة الانتقالية الأولى، السيدة أسماء عبدالله، معترفة بجهلها التام عن لقاء البرهان ونتنياهو في عنتيبي فبراير 2020م، برعاية من الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني.

باختصار بالغ، فإن الصفقة التي مهدت لزيارة تل أبيب المذكورة تتمحور حول تحقيق السلطة الديكتاتورية الجديدة المزمعة بقيادة البرهان وحميدتي لمصلحة إسرائيل في تنفيذ ما سمي حينها “صفقة القرن” أو اتفاقيات أبراهام الهادفة للتطبيع مع عديد الدول المصنفة عربية وإسلامية مقابل دعم انقلابهما على الفترة الانتقالية وتثبيت أركان حكمهما لاحقا.

إن عديد الأسئلة المهمة الأخرى المتفرعة من هذا الحدث ذي الدلالات الهامة وما أعقبه من أحداث جسيمة قد لا نجد لها إجابة مفصلة مطلقا مستقبلا نسبة للطبيعة السرية للتدخلات الخارجية في المشهد السياسي والأمني السوداني، كدور بعض الدول “الشقيقة” في هذه الزيارة مثلا، وهي دول علي علاقة وثيقة بإسرائيل، وعملت سوية أحيانا أو منفردة في أحيان أخرى وبصورة نشطة علي عرقلة الانتقال المدني، وعلى محاولات تثبيت نظم حكم عسكرية في السودان تدين لها بالولاء التام ثم لاحقا علي اشتعال الحرب واستمرارها، وما الزيارات الخارجية المختلفة التي قام بها كل من البرهان وحميدتي، أو من ينوب عنهما قبل ساعات من مجزرة الاعتصام المروعة في يونيو 2019م الذي يعد المحاولة الانقلابية الأولى، أو من الانقلاب الثاني في أكتوبر 2021م أو أخيرا حرب أبريل 2023م التي تعد محاولة الانقلاب الثالثة بخافية عن أحد، رغم ما وسعها من جهود مستميتة للاحتفاظ بها بعيدا عن أعين الرقابة الشعبية المتحفزة اليقظة. وما أقصده هنا بالانقلاب هو فرض واقع سياسي جديد بقوة السلاح.

ليس من العسير الوصول إلى الاستنتاج القائل بأن ما قام به شريكا الانقلاب سابقا وطرفي الحرب الحالية يعد عمالة في تعريفها البسيط أي سعي فرد أو مجموعة أشخاص صغيرة لتحقيق مصالحها الضيقة علي حساب المصلحة العامة، وعلى حساب أمن الوطن والمواطن عبر تنفيذ أجندات دول أجنبية، لكن الأهم من ذلك هو أن ذلك كان استمرارا لنمط تاريخي من تفريط النخب المتحكمة عبر أدوات القمع والعنف في سيادة البلاد علي قرارها وعلى أراضيها، وما أدل علي ذلك من الحقيقة التاريخية المثبتة بأن فقدان السودان لأجزاء من أراضيه لم يحدث إلا تحت حكم أحد الجنرالات، حلفا القديمة وآلاف الأميال المغمورة تحت مياه بحيرة ناصر إبان حكم الجنرال عبود، مثلث أليمي خلال حكم الجنرال النميري ثم الطامة الكبرى خلال حكم الجنرال البشير والإسلاميين، ما بين حلايب وشلاتين والفشقة وانفصال أشقائنا في جنوب السودان. في حقيقة الأمر وتحريا للإنصاف بين الأنظمة الديكتاتورية التي تعاقبت في حكم 55 عاما من تاريخ السودان، فإن البلاد لم تبلغ خصيصا في فقدانها لسيادتها وارتهانها للأجنبي، بعد الحضيض الأقصى التي بلغته عقب انقلاب برهان/حميدتي طبعا في 2021م، إلا خلال حكم البشير والمركز الأمني للحركة الإسلامية خلال فترة “ثورة الإنقاذ الوطني”.

لكن قبل أن أختم المقالة الأولى لهذه السلسلة ارجع بذاكرة القارئ قليلا لزيارة البشير “أسد افريقيا” المهينة والكئيبة لمدينة سوتشي في روسيا في ال 23 من نوفمبر 2017م، والتي طلب فيها الحماية من الرئيس بوتين، بصورة مقززة وذليلة شكلا ومضمون، مقدما الأراضي السودانية علي شواطئ البحر الأحمر عربونا لاستخدامها كقاعدة عسكرية مقابل مساندة روسيا له للاستمرار في الحكم.. فتأمّل.

الوسوممهدي رابح

مقالات مشابهة

  • الخارجية الأمريكية: بلينكن متجه الآن إلى مصر وسيكون لديه حوارات بناءة هناك
  • «الخارجية الأمريكية»: بلينكن يتجه إلى مصر لبحث مقترح وقف إطلاق النار في غزة
  • صحف إسرائيلية: تغيير نتنياهو لغالانت مخاطرة سياسية ذات حسابات شخصية
  • جدل في إسرائيل بشأن إمكانية تعيينه وزيرا للدفاع .. من هو غدعون ساعر؟
  • الخارجية الأمريكية: بلينكن سيبحث خلال زيارته لمصر الجهود الرامية إلى التوصل لوقف إطلاق النار في غزة
  • الخارجية الأمريكية: بلينكن يزور مصر الثلاثاء
  • «الخارجية الأمريكية»: بلينكن يزور القاهرة الثلاثاء للمشاركة في الحوار الاستراتيجي
  • الخارجية الأميركية: بلينكن يتوجه إلى مصر للمشاركة في الحوار الاستراتيجي بين البلدين
  • قيادي بـ"أنصار الله": تلقينا "إغراءات أمريكية" مقابل وقف هجماتنا على إسرائيل
  • أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (1)