غزيون يروون للجزيرة نت معاناتهم من النزوح المتكرر والمستمر
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
غزة- "نزوح جديد وليست عودة للديار"، هكذا يفسر "أبو خليل" مغادرته مدينة رفح والتوجه مجددا نحو مخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة.
نزح أبو خليل بأسرته (6 أفراد) من منزله بمدينة غزة في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولجأ إلى منزل عائلة زوجته في مخيم النصيرات ومكث فيه نحو شهرين، قبل أن يضطر للنزوح للمرة الثانية تجاه مدينة رفح بعدما اشتدت المعارك في المحافظة الوسطى من القطاع إثر توغل قوات الاحتلال برا.
في رفح التي تشير تقديرات محلية ودولية إلى أنها تؤوي حاليا زهاء نصف سكان القطاع البالغ تعدادهم 2.2 مليون نسمة، كان أبو خليل من القلة المحظوظين وعثر على منزل بالإيجار، ولم يخض التجربة المريرة -حسب وصفه- بالإقامة في الخيام أو مراكز الإيواء المكتظة.
لنحو شهر ونصف الشهر أقام أبو خليل، الذي فضّل الحديث للجزيرة نت بكنيته، في هذا المنزل قيد الإنشاء بمدينة رفح التي صارت شوارعها وأحياؤها ومخيماتها مكتظة بأكثر من مليون نازح، لجؤوا إليها خلال الشهور الأربعة الماضية على وقع جرائم إسرائيلية مروعة ومستمرة منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
يقول هذا النازح الأربعيني إن الوضع في رفح كارثي، والحياة تزداد مأساوية يوما بعد يوم، ويبدو أنها "الهدف القادم للاحتلال بعد خان يونس".
وتدرجت إسرائيل في عملياتها البرية ابتداء من مدينة غزة وشمال القطاع، مرورا بمدن ومخيمات اللاجئين في المحافظة الوسطى، وتواصل حاليا التوغل البري في مدينة خان يونس المجاورة لمدينة رفح من الناحية الشمالية، والتي يتزايد الحديث في وسائل الإعلام العبرية حول عملية برية محتملة فيها.
وتوصيفا لما آلت إليه الأوضاع المعيشية والإنسانية في رفح، قالت الأمم المتحدة إن "استمرار النزوح حوّلها إلى طنجرة ضغط مملوءة باليأس"، وبالنسبة لأبو خليل فقد بلغ لديه اليأس مبلغه، ويقول "خسرت مالي وبيتي في غزة ولا أريد أن أخسر أسرتي".
وتحذر الأمم المتحدة وأوساط دولية من مغبة توسيع إسرائيل عمليتها البرية لتشمل مدينة رفح ما يهدد حياة مئات آلاف الفلسطينيين.
وكان أبو خليل وزوجته وأطفاله الأربعة من الأوائل الذين نزحوا من مدينة غزة وشمال القطاع حفاظا على أرواحهم، وقد لحق دمار كبير بمحله التجاري ومنزله السكني، ويقول "شعرت بخطر كبير من البقاء في رفح في ظل التهديدات الإسرائيلية المتزايدة بعملية برية".
عودة للوسطى
يسلك النازحون العائدون من رفح إلى المنطقة الوسطى من القطاع شارع الرشيد المعروف بطريق البحر، وهو المنفذ الوحيد الذي تركته قوات الاحتلال سالكا أمام حركة الناس، وتدفع بالسكان إلى النزوح عبره نحو جنوب القطاع، خاصة إلى مدينة رفح.
وفيما يستخدم أبو خليل سيارته الخاصة في النزوح المتكرر، فإن الغالبية تضطر لاستخدام سيارات نقل البضائع، وعربات تجرها الحيوانات، بعدما توقفت حركة سيارات الأجرة بسبب نفاد الوقود.
وجد أبو خليل بيت عائلة زوجته مدمرا جزئيا، ويحيط به دمار كبير في المنازل السكنية والبنى التحتية، غير أنه يعتقد أن مخيم النصيرات أكثر أمنا -حاليا- من مدينة رفح، وقد ناله نصيب وافر من القتل والتدمير خلال العملية البرية في المنطقة الوسطى.
ويُمنّي هذا الرجل نفسه بالسفر المؤقت خارج غزة إلى حين انتهاء الحرب أو بالعودة إلى منزله في مدينة غزة وانتهاء رحلة النزوح المريرة، ويقول "بدي أرجع إلى بيتي حتى لو في خيمة على أنقاضه".
بدورها، عادت أم عبد الله القطراوي إلى مخيم النصيرات وقال زوجها أبو عبد الله للجزيرة نت "لم تعد تحتمل حياة الخيمة وقررت العودة إلى منزل عائلتها في المخيم".
ودمرت غارة جوية إسرائيلية شقة أسرة القطراوي في "برج المهندسين" بالمخيم، وكان القدر بها رحيما وقد غادرته قبل أيام من هذه الغارة التي أودت بحياة العشرات.
ويضيف أبو عبد الله "هذه الشقة هي كل حياتنا، ولا نملك سواها، خسرنا كل شيء فيها، وقررت أم عبد الله العودة إلى منزل عائلتها بعد 40 يوما من مرارة النزوح في خيمة قرب الحدود مع مصر غرب مدينة رفح".
ولم يعد هذا الرجل مع زوجته وفضّل البقاء في الخيمة للحفاظ على حياتها تحسبا لما وصفها بالأوضاع غير المضمونة، ولتكون ملجأ لأسرته في حال حدوث أي طارئ في المنطقة الوسطى وتجد نفسها مضطرة للنزوح مجددا.
عودة ممنوعة
وتراجعت دبابات الاحتلال وآلياته العسكرية من مناطق الكثافة السكانية إلى أطراف المخيمات والمدن، الأمر الذي شجع عودة النازحين إلى منازلهم أو ما تبقى منها، ومن هؤلاء عائلة أبو بكر المكونة من 50 فردا.
ويقول إسلام أبو بكر للجزيرة نت "عادت أسرتي إلى مخيم النصيرات بسبب التهديدات الإسرائيلية لمدينة رفح، وسوء الأوضاع المعيشية هناك".
وكانت هذه العائلة الكبيرة تقيم في شقتين سكنيتين صغيرتين في شرق رفح، وبحسب إسلام، فإن الخشية من عملية برية إسرائيلية كانت السبب الرئيسي في قرار العودة إلى المنطقة الوسطى، إضافة إلى "الاكتظاظ الشديد، وشح المساعدات، وصعوبة توفير مقومات الحياة الأساسية من مياه وطعام".
وتؤثر عودة النازحين من المنطقة الوسطى في الكثافة السكانية العالية لمدينة رفح، وغالبيتها من مدينة غزة ومدن شمال القطاع، التي تمنع سلطات الاحتلال العودة إليها، ولا تزال تجبر من تبقى هناك على النزوح سيرا على الأقدام نحو الجنوب عبر طريق البحر الساحلي.
وفيما دمرت غارات جوية إسرائيلية "جسر وادي غزة" على طريق البحر لمنع مرور السيارات، فإنها تُحكم سيطرتها على طريق صلاح الدين وتمنع الحركة عليه، وهما الطريقان الوحيدان الرابطان بين شمال القطاع وجنوبه.
ولا تتوقف منشورات التهديد والوعيد التي تلقيها طائرات إسرائيلية على مناطق جنوب القطاع، تحذر من العودة إلى مدينة غزة وشمالها، وفي أحدث هذه المنشورات يقول جيش الاحتلال إن "كل منطقة شمال وادي غزة ما زالت تعتبر منطقة قتال خطيرة"، ويحذر من محاولات العودة إليها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المنطقة الوسطى مخیم النصیرات للجزیرة نت العودة إلى مدینة غزة مدینة رفح عبد الله من مدینة أبو خلیل إلى منزل فی رفح
إقرأ أيضاً:
أسير يروي للجزيرة نت قصة هروبه من أهوال سجون الدعم السريع
الخرطوم- كشفت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الخميس الماضي عن قيام قوات الدعم السريع بسجن أكثر من 10 آلاف شخص في مراكز احتجاز داخل ولاية الخرطوم، توزعوا في نحو 40 مرفقا، و توفي منهم المئات بسبب التعذيب والمرض.
وغطى تقرير المفوضية الفترة ما بين بداية الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023 إلى يونيو/حزيران 2024، كاشفا عن تجاوزات لحقوق الإنسان وانتهاكات للقانون الإنساني الدولي في مرافق الاحتجاز هذه.
وفي ذات السياق كشفت تقارير صحفية نشرتها صحيفة "غارديان" أول أمس عن أدلة على تعرض أكثر من 500 شخص للتعذيب أو الجوع حتى الموت في مركز احتجاز، ثم دفنوا في مقبرة جماعية سرية شمالي الخرطوم بالقرب من قاعدة قري العسكرية، التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع حتى تاريخ 25 يناير/كانون الثاني الماضي.
وكشفت زيارة إلى القاعدة الواقعة على بعد حوالي 40 ميلًا (70 كلم)، بعد فترة وجيزة من استعادتها من قبل الجيش السوداني، عن وجود مركز احتجاز غير معروف سابقًا، مع وجود أغلال معلقة على الأبواب، تشير إلى أنها كانت غرف تعذيب من خلال بقع الدم على الأرض.
أكبر الجرائميروي أشخاص معتقلون تعرضوا للتعذيب في مركز الاحتجاز بشكل متكرر من قبل خاطفيهم، أنه يوجد في مكان قريب من المركز موقع دفن كبير فيه العديد من جثث أشخاص ماتوا خلال التعذيب، وبه ما لا يقل عن 550 قبرا غير محدد، وكثير منها محفور حديثًا، ووجد الأطباء الذين فحصوا الناجين علامات لا تعد ولا تحصى على التعذيب، وخلصوا إلى أنهم كانوا يتضورون جوعا.
إعلانويعد الموقع أكبر أرض دفن مؤقت موجودة في السودان خلال الحرب الحالية، حيث قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" التي حققت في انتهاكات في جميع أنحاء السودان خلال الحرب، إن موقع مركز الاحتجاز هذا يمكن أن يشكل "واحدة من أكبر مشاهد الجرائم الوحشية التي تم اكتشافها في السودان منذ بدء الحرب"، ودعت للسماح لمحققي جرائم في الأمم المتحدة بالوصول للموقع.
وقال الدكتور هشام الشيخ، الذي فحص 135 رجلا تم العثور عليهم هناك، بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية الموقع في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، إن الأدلة السريرية على التعذيب وسوء التغذية المزمن كانت كثيرة، وقال الشيخ لصحيفة "الغارديان" إن الرجال -وجميعهم من المدنيين- كانوا مصابين بصدمة كبيرة ولا يستطيع كثيرون منهم الكلام.
وتكشف صورة تم التقاطها عبر الأقمار الاصطناعية لطريق أحادي المسار بجانب القاعدة، بعد أسابيع من بدء الحرب، غياب أي مظهر من مظاهر الدفن، بينما تكشف صورة أخرى لنفس الموقع تم التقاطها بعد عام في 25 مايو/أيار 2024 عن عدد كبير من التلال التي تمتد على مسافة حوالي 200 متر.
وقال الرقيب محمد أمين الذي يتمركز الآن في قري إن "جميع الجثث المدفونة هناك لقى أصحابها حتفهم في القاعدة"، وقال ضابط في الجيش السوداني إن المعتقلين الذين عثروا عليهم "كانت أيديهم وأقدامهم مربوطة معًا، وكانوا في حالة سيئة للغاية مع علامات تعذيب على أجسادهم".
وقال جان بابتيست جالوبين، من "هيومن راتيس ووتش" إن "السلطات السودانية التي تسيطر على القاعدة الآن قد تعاملت معها كموقع محتمل لجريمة حرب، وبذلت جهودًا فورية لتأمين وجمع وحماية الأدلة، التي قد تكون حاسمة في عملية المساءلة"، ووصف ذلك بـ"الأمر الحيوي".
على لسان أسيرالتقت الجزيرة نت بأحد الأسرى الناجين من سجون قوات الدعم السريع، وأفسحت له المجال ليروي قصته وشهادته، مع طلبه عدم الإشارة إلى اسمه كاملا، لأنه لم يأخذ الإذن من وحدته العسكرية.
إعلانيسرد ضابط الصف عثمان ما جرى معه خلال هذه الأيام، ويقول إنه ومنذ اليوم الأول في الحرب، تواصلتُ مع وحدتي العسكرية عبر الهاتف وأخذت كل التكليفات، ثم بدأت تنفيذها من خلال ذات الهاتف في منزلنا الكبير بضاحية الأزهري جنوبي الخرطوم، على مدى نحو شهرين.
كنت قلقا على أسرتي الصغيرة زوجتي وصغيريها، ووالدي المسن وأمي التي تتحمل الأعباء، بدأت أخطط لترحيلهم بعيدا عن مواقع الجنجويد، خصوصا بعد أن زادت حدة الانتهاكات، وبدأت تتواتر الأنباء عن اقتحام البيوت الخالية وسرقة محتوياتها، ونهب السيارات بقوة السلاح، كنت أدرك بحكم خلفيتي العسكرية أن الدور قادم علينا.
لم أكن أتصور أنه في يوم من الأيام سيكون الطارق على الباب هو العدو نفسه، لم يمنحني فرصة المراوغة، قالوا لي: عثمان نحتاجك الآن في مكتب استخبارات الدعم السريع.
وصلت برفقة المجموعة التي أوصلتني إلى محطة الصهريج القريبة من مكان سكني، لم يكن مكتبا، بل بيتا تحت التشييد، الذين أخذوني لم يتحدثوا كثيرا، كأنما كانوا على عجلة من أمرهم، وتركوا للسياط مهمة الاستنطاق، ضرب مبرح في كل مكان، وعندما أجبتهم: نعم أنا عثمان أعمل بالقوات المسلحة، كان ذاك كافيا لكف الأذى لبعض الوقت، لكني بقيت في المكتب نحو 5 أيام.
ومن نقطة الاحتجاز الأولى، تم نقلي وأحد زملائي إلى سجننا الأول في مقر الدعم السريع في ضاحية الرياض، والذي يعرف أيضا بـ"العمارة الهيكلية"، تم حشرنا في غرفة صغيرة نحو 25 معتقلا، وفي ركن الزاوية تم وضع جردل لقضاء الحاجة، أضفنا ستارة لستر العورة، وحينما يمتلئ الإناء نغرق بالقاذورات، حتى يُسمح لنا في الصباح بتفريغ ما أفرزته البطون الخاوية ليلا.
كنا نُمنح وجبتين على سبيل الاصطلاح، لقيمات من دقيق الذرة يعرف في السودان بـ"العصيدة"، لكن بلا إدام، فقط يضاف للذرة المطبوخة بالماء الساخن سكر في الصباح وملح في الليل، أو وفق ما يتيسر.
إعلانحصة الفرد من الماء 6 أكواب في اليوم، أحيانا يقل الماء فنعلن حالة الطوارئ، نقتصد في ما عندنا ونقلل في حصتنا حتى لا يهلكنا العطش، هزلت أجسادنا، وبات القمل يسرح في الرؤوس ثم يمضي إلى أدني من ذلك.
رفاق الزنزانةيكمل عثمان حديثه للجزيرة نت، متحدثا عن أيامه في السجن ومن رافقه فيه، كالدكتور محمد مرعي وهو طبيب جراحة مدني، لكنه يعمل في أحد المشافي العسكرية، كان ذلك كافيًا ليزج به في السجن، ومات فيه بسبب الجوع وقهر الرجال.
علي جعفر، أميركي من أصول سودانية، تم اعتقاله وهو في طريقه لبورتسودان، لم تشفع له وثائق السفر الأجنبية، حيث اعتبر متعاونا مع الجيش، افترقنا لاحقا وأظنه قد مات، فقد تبادلنا داخل الحبس المعلومات الشخصية حتى يُطمئن الذي يخرج من السجن ذوي الآخر، لكن الاتصال بيني وبينه انقطع.
وائل محمد، شاب، كان أحدثنا عمرا، يحمل الجواز الأميركي والسوداني معا، فقد عقله داخل السجن، كان يتحدث بالإنجليزية فقط، وهو شخصية عسكرية مهمة، اتهم بأنه خطط لتفجير مقر رئاسة قوات الدعم السريع في اليوم الأول من الحرب، أخرجوه من السجن ولم نعرف وجهته.
بعد عدة أشهر من المعاناة، نُقلنا إلى سجن سوبا شرقي الخرطوم، كان الأمر بالنسبة لنا أفضل من سجننا الأول، هنا توجد عنابر ضخمة، أهم ما فيها حمام لقضاء الحاجة، الماء أوفر، ولكن الطعام قليل، حشرنا نحو 180 معتقلا في هذا العنبر.
في نهاية المطاف تبقى منا على قيد الحياة نحو 48 أسيرا، الموت هنا يحصد الناس حصدا، فعند إصابة أحدنا بالإسهال ننقله لمدخل الحمام ليصبح سكنه الدائم حتى يتوفى، ونقوم بهذا الإجراء مخافة العدوى وحتى نسهل للمريض قضاء الحاجة.
تم نقل بعض المرضى للوحدة الطبية بعد أن ساءت حالتهم، لكننا كنا نعتبر من يذهب للمشفى مفقودا وفي عداد الأموات، في كل أسبوع كنا نفقد نحو عشرة من رفاق السجن، من يتوفاه الله نحاول غسله إن توفر ماء، ونصلي عليه داخل العنبر، ثم نضعه في الممر الخارجي، يمكن أن يبقى في هذا الوضع حتى تفوح رائحته وبعدها ينقل إلى مقابر نجهل مكانها.
إعلان لحظة أملفي بداية شهر فبراير/شباط ظننا أننا سنموت جميعا في سجننا في ضاحية سوبا، فجأة سمعنا دوي الرصاص، خبراء السلاح أكدوا لنا أن هذه المعركة قريبة من سجننا، كانت أصوات الرصاص ترتفع، وبدأ الحراس بخلع ملابسهم العسكرية ثم هربوا.
سرت حالة من الفوضى داخل العنابر المغلقة بإحكام، بدأنا نتداول الحديث حول تقرير مصيرنا، اقترحت مجموعة كسر الأقفال والهروب، لكن الرأي في عنبرنا استقر على أن ننتظر الجيش، فهروبنا في مناخ الفوضى يمكن أن يجعل بعضا وقودا للمعارك.
وبعد أن كان صوت السلاح عاليا، انخفضت وتيرته قليلا، ثم اختفي شعاع الأمل، ليوضح لنا خبراء السجن أن ذلك يبدو انسحابا تكتيكيا للجيش، وغالبا سيعاود الكرة في اليوم الذي يليه، لكن ذلك لم يحدث.
عاد الهاربون أكثر غضبا، وبدؤوا في إعادة فرز المساجين، بعد أن كان التوزيع يتم على أساس قبلي، بتوجيه من بعض زعماء العشائر الذين جاؤوا إلى سجننا وفحصوا الأسرى، فأبناء الدرجة الأولى تم إطلاق سراحهم فورا، ثم خصص للآخرين عنابر كنا نسميها "عنبر أولاد القبائل" من باب الطرفة.
بعد اقتراب المعارك، أدركت بخبرتي المتواضعة أن التصنيف الجديد يعني نقلنا إلى سجن جديد، وربما نقلنا إلى مدينة أخرى، وهو ما حدث بالفعل، فاتفقت مع رفاق الغرفة على تغيير اسمي باسم شخص آخر توفي، كان يعمل بالشرطة وكنت أحتفظ باسمه كاملا ورقم هويته العسكرية.
ولأن المليشيا لا تهتم بتدوين دفاتر الوفيات، تمكنت من خداعهم، وبحكم اعتباري رجل شرطة قضي الأمر بتحويلي إلى سجن الاحتياط المركزي جنوبي الخرطوم مع مئات من السجناء، فيما نقل زملائي العسكريين إلى مدينة نيالا، حيث كانوا نحو 300 ضابط وضابط صف وجندي، وكان نقل الأسرى على عجل مؤشرا على أن قوات الدعم السريع أدركت أنها ستخسر كل المعارك في العاصمة الخرطوم.
محاولةهنا لن تستطيع التفكير في الهروب بصوت مسموع، سيمنعك رفاق الزنزانة من ذلك، فنجاح محاولة الهروب ستلقي بتبعات عالية على المتبقين داخل الحراسات، حيث يعقب أي عملية هروب "حفل تعذيب جماعي" وتضييق في الأكل والشرب والحركة.
إعلانفقبل فترة، تمكن نحو 7 ضباط من الهروب عبر فتحة في سور السجن، صنعَتها قذيفة من الجيش، واكتفى حراس السجن بوضع أغصان الأشجار وبعض الكتل الصلبة، لكن الضباط تجاوزوا الصعاب ونالوا حريتهم بينما تذوقنا نحن طعم التعذيب.
اتفقت مع ثلاثة من زملائي على الهرب، قلت لرفاقي "إنه الموت جوعا وعطشا أو أثناء محاولة الهروب"، ووضعنا خطة لأن نقفز من عربة النقل أثناء مرورها في منطقة سوبا ذات الطبيعة الترابية التي تجعل العربة تبطئ من سرعتها، لكن المفاجأة كانت أن تم تغيير وسيلة النقل إلى باصات محكمة الإغلاق، ففشلت الخطة الأولى لكننا لم نفقد الأمل بانتزاع حريتنا.
تم نقلنا في الأسبوع الثاني من شهر فبراير/شباط إلى سجن شرطة الاحتياط المركزي جنوبي الخرطوم، بالقرب من ضاحية الدخينات، لم يكن المبني في الأصل سجنا بل مقرا للتدريب، لهذا كانت هنالك الكثير من الثغرات.
تخطي الأسواركان لقائد فريقنا أنور -وهو أحد ضباط الصف في الجيش- معرفة جيدة بالسجن، وتم اختياره كـ"حكمدار" وهي وظيفة تنسيقية بين حراس السجن والأسرى، حيث تتيح هذه الوظيفة لشاغلها حرية الحركة.
وبعد أن تفقد سجننا الجديد، وضع أنور خطة جديدة للهروب، ورغم أننا أربعة لم نكن على اتفاق على تفاصيل الخطة، لكن إصرار قائد الفريق على التنفيذ جعلنا نوافق ونتعاهد على الموت.
قامت خطة أنور على عنصر المفاجأة في تمام الساعة الثامنة مساء، حيث يكون الظلام قد حل لكن الحركة مستمرة داخل المعسكر الذي بات سجنا، وكانت الخطوة الأولى أن يكسر أنور نافذة الغرفة الضخمة دون أن ينتبه النزلاء، لم تكن مهمة سهلة، لكنه نفذها بقليل من الضوضاء وكثير من الخبرة، فلم تثر عملية الكسر إلا انتباه من كان يترقب الحدث.
قفز أنور أدنى الشباك بشكل عمودي، وبات في وضع الانتظار، تخلص من ملابسه الخارجية ذات الألوان المناهضة للستر، ووضعها في كيس كان يحمله، وبذات الخطوات نفذ ثلاثتنا المهمة، ثم زحف قائد الفريق إلى السور الأول المغطى بشجر "المسكيت" ثم تجاوزه نحو الضفة الأخرى، وفي ذات الدرب سرنا خلفه.
إعلانكانت في الزاوية البعيدة خيمة حراسة يبدو أن أفرادها مشغولون بشأنهم، وكانت العقبة الكبرى أمامنا تجاوز السور الأعظم، في زاويته يوجد برج مراقبة عليه حارس مسلح، ورغم أن هذه العقبة جعلتنا نتوقف، فإن أنور قرر أن يستكشف ما بداخل البرج في ذلك الليل الدامس.
كلما اقترب من البرج لم يكن يرى أي حركة، وعندما وصله وجده خاليا، ارتقى السلم ثم استكشف الشارع، كان خاليا تماما أيضا، وعاد إلينا يحمل البشرى، فتناوبنا القفز على السور العالي، لقد كانت مهمة شاقة لرجال جياع وعطشى فقدوا نصف وزنهم خلال أيام الأسر.
أخيرا تنفسنا الصعداء، ارتدينا ملابسنا ثم دخلنا الحي الشعبي المجاور لمعسكر الاحتياط، قبل أن نصل إلى المنزل الذي من المفترض أن نقضي ليلتنا فيه، لكننا فوجئنا بمجموعة من عناصر الدعم السريع تقف على ناصية الشارع الذي في وجهنا.
فكرنا في تغيير وجهتنا، لكن ذلك كان سيثير شكوكهم، فاخترنا أن نمضي نحوهم بشكل مباشر، ونلعب دور مدنيين يعيشون في هذا الحي إن تم استجوابنا، أو نخوض غمار مواجهة وننزع بعض أسلحتهم، لكن عندما اقتربنا منهم ردوا على تحيتنا بغير اهتمام، وأحسب أنهم ظنوا أننا قوة من رجالهم الذين ينتشرون في الأمسيات بشكل عشوائي.
أخيرا.. وصلنا إلى بغيتنا، منزل شقيق أحد أفراد الفريق، وفيه نمنا ليلتنا الأولى ونحن أحرار، وفي الصباح تفرق شملنا بإحساس من هزم الموت أكثر من مرة، لكن لن تكتمل فرحتنا إلا بمعرفة مصير رفاقنا في سجون مليشيا الدعم السريع.