أما آن للجفاء المغربي الجزائري أن يهدأ؟
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
قرأتُ باهتمام بالغ ما قالته السياسيّة الجزائرية لويزة حنون، من أنها ترفض أن يُزجّ ببلدها في حرب مع المغرب. ليس الأمر قولًا يُلقى على عواهنه؛ لأن لويزة حنون من أوتاد السياسة في الجزائر، لها تجربة طويلة، عبَرت فيه محطات حاسمة في منعرجات بلدها، وأدّت الثمن الغالي لمواقفها والتزاماتها. لا يُقاس وزنها بوزن الحزب الذي ترأسه، فهي ممن يشكلون ضميرًا لبلد، ومرجعًا، وبُوصَلة له.
أقول قولي هذا أنا المغربي، الذي لا يجد نفسه في جفاء مع الجزائر، فبالأحرى عداء. كل شيء يُوحّد بين المغرب والجزائر، عدا السياسة، والسياسة مرتبطة بمنظومة، ومرجعية، وسياق، وربما أشخاص. ليست هي الثابت وإنما المتحول.. ولكن هذا المتحول هو ما طغى على الثابت، بل الثوابت، ويوشك أن يُطوِّح بكل شيء.
رغم الجفاء بين البلدين، فلم تنطفئ جَذوة الأمل، والدليل هو نداء لويزة حنون، ونداءات مماثلة، أسمعها هنا في بلدي، وإن كانت خافتة، لا تكاد تُبِين. مازالت هناك مساحة للعقل والرّوية، ولا تزال، هنا وهناك، عقول راجحة، وأصوات حصيفة.. ولكننا ندرك أن دعوة العقل هي آخر ما ينفذ حين تعلو الجلبة ويعمّ الصراخ. ونحن في ساعة الصراخ، ولمن يمعن في الصراخ.
لا يعرف الجيل الحالي في البلدين، بعضهما بعضًا إلا من خلال سردية رسمية، رسمت عدوًا ضروريًا، أو عدوًا حميمًا، كما يقال. فتح الجيل الحالي في البلدين عينَيه والحدود مغلقة بين البلدين. لم يعشْ مد مرحلة التحرير، ولا ما أعقبها من تعلُّق بأمل وحدة المغرب الكبير.
يتراشق فاعلون إعلاميون على أشياء مشتركة هي دليل على تداخل الشعبين، على هُوية الكسكس، والقفطان، والزليج، والملحون… أجد العنت الكبير أن أذْكُره لطلبتي دائمًا، أننا بالمغرب كنا ندرس، يوم أن كنت تلميذًا، تاريخ جمعية علماء المسلمين، وأدبيات عبدالحميد ابن باديس، ونصوص البشير الإبراهيمي، وقبل ذلك نجمة شمال أفريقيا، وبعدها، رواية نجل الفقير لمولود فرعون، والثورة الصناعية في الجزائر.
ينظر إليَّ طلبتي في ذهول كما لو أحدثهم عن شيء من المريخ. هؤلاء الكراغلة، من ينعتوننا بالمراركة، تدرسون شؤونهم، ولا تقيمون الفرق بينكم؟ أأنت جادّ يا أستاذ؟
طبعًا لا يمكن الاستهانة بالمناوشات الكلامية التي يغذّيها "المؤثرون"، ولو كانت تصدُرُ عن ظن، وتنِمُّ عن جهل، ودافعها حكم مسبق. فالنار بالعودَين تُذْكى، كما يقول الشاعر، وأول الحرب الكلام، كما يُضمِّن.
ولا جدالَ، حسب ما أقدّر، أن القيادتَين، تدركان عواقب المغامرة، وتعيان عمق الوشائج بين البلدين، ولكننا ندرك أن العالم متداخل، وأن الحروب قد تُخاض بالوكالة، يُسعّرها آخرون، لفائدتهم. وذلك ما ينبغي أن يستحضره العقلاء في البلدين. مما أشارت إليه لويزة حنون، أطراف يكون من مصلحتها أن تؤلب هذا على ذاك، ثم تنفض يدها وقد أضعفت هذا وذاك.
الحرب التي أريدها ما بين بلدي المغرب وبين الجزائر، هي الحرب على الفقر، وعلى الجهل. بل أريد أن نخوضها سويًا، ولا يمكن كسب هذه "الحرب" إلا سويًا.
تقوم السياسة طبعًا على الواقعيّة، بل هي كما يُعرفها البعض، فنّ الممكن، ولكن السياسة وَفق الممكن، في سياق معين، قد تكون تربيع الدائرة، والاجترار، والقَمْص في المكان ذاته، كما يفعل الحصان بحوافره، ولذلك لا بدّ أحيانًا هتك ستر الواقعية، وكسر الحواجز المنتصبة، بالحلم والخيال، وبتعبير علمي، يتوجب تغيير البرادايم أمامَ وضع معضل.
لا انفراج في الأفق بين البلدَين وَفق النموذج القائم الناظم للعلاقات بين البلدين. العَرَض أضحى سببًا، واختلط السبب بالنّتيجة، وأضحى الأمر كمن يُقدّم "علاجًا" بناءً على تشخيص سيئ. تصوروا من يتناول حبة تبديد صداع الرأس، وهو يشكو قرحة المعدة. لا يفتأ يتناول الحبة، تلو الحبة، والقَرْح يشتد، وهو لا يبرأ.
يمكن أن أتوقع الأسوأ. أسعى أن أفكر متشائمًا، عسى أن يتاح لنا أن نعمل متفائلين. لا أتوقع بعد أن تهدأ الحرب على غزة أن تُترك المنطقة لحالها… لا أرى أن من سعوا أن ينمطوا المنطقة بعد سقوط حائط برلين، وبعد 11 سبتمبر/ أيلول، أن ينفضوا أيديهم. سيُسعّرون الحروب التي يُحسنون، بتوظيف تناقضاتنا، واللعب على نرجسيتنا: المغرب ضد الجزائر، والجزائر ضد المغرب، بالقول للجزائر ما تريد أن تسمعه، وترديد ما يريده مسؤولو المغرب أن يسمعوه، وتأليب العرب ضد الأمازيغ، والأمازيغ ضد العرب، والحداثيين ضد المحافظين، والمحافظين ضد الحداثيين، وهلمّ جرّا.
سنشهد جيلًا جديدًا من صياغة المخيال، كما سبق أن أوصى المحافظون الجدد قبل عقدين. وأحسب أن العمل بدأ من لدن الأكاديميين من أجل قَولبة المنطقة. وأتمنّى أن أكون مخطئًا.
لندعِ السياسة للسياسيين، مَن يشتغلون في دائرة الممكن، ويُربّعون الدائرة، ولْيُتَحْ لمن لا ينزغ بهم نزغ السياسة أو تشطح بهم الأهواء، أن يلتقوا فيما بينهم، وأن يتحدثوا بحرية، فعسى أن يُشخّصوا الداء، ولعلهم أن يهتدوا للدواء، أو على الأقل أن يكفّوا عن تناول الدواء غير الصحيح.
في سبتمبر/ أيلول 1991 بمناسبة انعقاد قمة مغاربية بالدار البيضاء (وأظنها الأخيرة)، وكانت حرب "عاصفة الصحراء" قد وضعت أوزارَها، وكنت حينها مكلفًا بالدراسة في الخارجية المغربية، طلب صحفيّ من جريدة "لوبينون" (الرأي) المغربية هو السيد نعيم كمال، أن يلتقي بي في فندق شيراتون، كي أضعه في الصورة كما يقال.
كان مما قلته له، والحديث بيننا بالفرنسية: إنهم سيشتغلون علينا (كذا)، وأنا أعني المنطقة. وكان رده، من جنس تخوفي، أنْ ليس الأمر بمستبعد. وللأسف الشديد تحقق ما توقعته، وتوقف الحُلم المغاربي، وضُرب الحصار على ليبيا، ودخلت الجزائر مرحلة اهتزازات قوية، ولم تلتئم قمة مغاربية بعدها.
ومن يدري؟، فلعلّ سيناريو ما بعد عاصفة الصحراء أن يتكرر بعد الحرب على غزة، وإن تكرر، فسيكون أهوج، لا يُبقي ولا يذر.
أقول تمامًا ما قالته لويزة حنون، وليس لي وزنها، ولا جُرأتها، ولا حصافتها: لا أريد لبلدي أن يُزجّ به في مغامرة مع الجزائر.. وما زلت أتطلع لعقلاء، هنا وهناك، كي يطفئوا فتيل الجفاء، وأتشوف لمن يحضن هؤلاء العقلاء. هناك فرصة تاريخيّة كي يستمع عقلاء البلدين لبعضهما بعضًا، وليس من الحكمة أن نُضيّعها.
وإذا قالت حنّون فصَدِّقوها، فالقول ما قالت حنّون.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بین البلدین لویزة حنون
إقرأ أيضاً:
هل يتحول ملف المياه إلى “حرب جديدة” بين الجزائر والمغرب؟
ذكرت وسائل إعلام غربية، أن الجزائر اتهم المغرب بتقليص حصتها من مياه “وادي كير” الذي يمتد من الأراضي المغربية إلى الأراضي الجزائرية.
وأفادت صحيفة غربية، مساء السبت، بأن الجزائر أبدت قلقها بشأن تقليص كمية المياه التي تصل إليها من خلال “وادي كيره” الذي يسهم في تزويد بعض المناطق الجزائرية بالمياه، وهو ما أدى إلى تصعيد الموقف بين الجانبين.
وأكدت أن هذا الاتهام يأتي في ظل التوترات السياسية الجزائرية المغربية، خاصة وأن الجزائر أثارت ملف “وادي كير” مرتين على المستوى الدولي، حيث تحدث وزير الري الجزائري، طه دربال، عن ما أسماه بـ”تجفيف متعمد ومنتظم للمياه” من بعض المناطق على الحدود الغربية.
وأشارت إلى أن الحديث عن ملف المياه قد تجدد في منتدى المياه العالمي الذي عقد في شهر مايو/أيار 2024، حيث وصف طه دربال الممارسات المغربية بأنها “تدمير للمياه عبر الحدود”.
وأثناء اجتماع جرى في سلوفينيا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بخصوص اتفاقية حماية واستخدام مصادر المياه عبر الجبال والبحيرات الدولية، اتهمت الجزائر المغرب بـ”عرقلة تدفق المياه وتدمير المياه السطحية عبر الحدود”.
لم يقتصر النزاع بين كل من الجزائر والمغرب بشأن “وادي كير” فقط، بل تضمن السدود أيضا، حيث اعتبرت الجزائر أن “سد قدوسة المغربي هو السبب الرئيسي وراء تقليص تدفق المياه إلى سد الجرف الأصفر الجزائري، الذي يعد من أكبر السدود في البلاد، ما أدى ذلك إلى كارثة بيئية بسبب تناقص منسوب المياه في السد”.
ولفتت إلى أن تلك الكارثة البيئية تسبب في نفوق الأسماك وهجرة الطيور، في ظل استمرار الغضب الشعبي الجزائري بسبب نقص حاد في المياه في بعض المناطق الجزائرية.
ومن ناحيتها فإن المغرب قد نفت كل ما وجه لها من اتهامات جزائرية، مضيفة أن هذا اتهام لا يصدق.
ويشار إلى أن الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب بدأت منذ قطع الجزائر علاقاتها مع المغرب في صيف عام 2021، في وقت لم تتوان المملكة منذ ذلك الحين في اقتراف أعمال عدائية ومستفزة للجزائر، إلى جانب النزاع المتصاعد بشأن “الصحراء الغربية”.
ويتنازع المغرب وجبهة البوليساريو منذ عقود بشأن السيادة على إقليم الصحراء، وبينما تقترح الرباط حكما ذاتيا موسعا في الإقليم تحت سيادتها، تدعو الجبهة إلى استفتاء لتقرير المصير، وهو طرح تدعمه الجزائر.
وكالة سبوتنيك
إنضم لقناة النيلين على واتساب