إبادة جماعية شنتها القوات الألمانية أوائل القرن العشرين (1902-1908) ضد عرقيتي الهيريرو والناما الأفريقيتين خلال استعمارها ناميبيا، وخلّفت وراءها نحو 65 ألف قتيل من الهيريرو و10 آلاف قتيل من قبيلة الناما.

وبعدما قررت ألمانيا الوقوف إلى جانب إسرائيل في الدعوى التي رفعت عليها بمحكمة العدل الدولية أوائل عام 2024 بسبب جرائمها ضد الفلسطينيين بقطاع غزة واتهامها بارتكاب إبادة جماعية ومجازر بحق الغزيين، ذكّرت ناميبيا ألمانيا بتاريخها الاستعماري والإبادة التي ارتكبتها بحق السكان الأصليين.

ناميبيا

تقع جمهورية ناميبيا جنوبي غربي قارة أفريقيا، وتقدر مساحتها بنحو 824 ألفا و292 كيلومترا مربعا، تحدّها شمالا أنغولا وزامبيا، وشرقا بوتسوانا، وجنوبا جنوب أفريقيا، التي تحدها أيضا من الشرق، وغربا المحيط الأطلسي.

تتميز ناميبيا بتنوعها الثقافي واللغوي، إذ يتحدث سكانها الذين يقدر عددهم بنحو مليونين و642 ألف نسمة (تقديرات عام 2023)، ما يقرب من 16 لغة ولهجة. وعلى الرغم من هذا التنوع، فإن الإنجليزية تظل اللغة الرسمية في هذا البلد، الذي يتبنى نظام حكم ديمقراطي تعددي، ويدين ما يقرب من 90% من سكانه بالديانة المسيحية.

بداية الاستعمار وانطلاق المقاومة

في 28 أبريل/نيسان 1884 تم احتلال ناميبيا من قبل ألمانيا بموافقة من بريطانيا وجنوب أفريقيا، وجرى الإعلان عن ذلك رسميا في السابع من أغسطس/آب من السنة نفسها.

مع بداية القرن العشرين، وصل لناميبيا ما يقرب من 5 آلاف مستوطن ألماني بدؤوا من فورهم بفرض حكمهم بالحديد والنار على حوالي 250 ألفا من السكان الأصليين في هذا البلد الأفريقي.

قاد المستوطنون الألمان حملة طرد جماعي للسكان الأصليين، حيث أجبروهم على ترك أراضيهم واستولوا عليها بالقوة، وتم تهجيرهم إلى محميات خارج حدود أراضيهم التي كانون يعيشون فيها.

في 12 يناير/كانون الثاني 1904، شهدت ناميبيا اندلاع ثورة قادتها قبيلة الهيريرو ضد فرض المستعمر الألماني قوانين قمعية وتعريض ثروات السكان للنهب والسرقة.

وقاد أبناء القبيلة مقاومة شرسة ضد المستوطنين والقوات الألمانية، مما أسفر عن مقتل قرابة 120 مستوطنا وجنديا ألمانيا.

مع تصاعد حدة المقاومة، قررت ألمانيا استبدال الحاكم العسكري ثيودور غوتيلف لوتوين، وتعيين الجنرال لوثار فون تروثا خلفا له. وصل الجنرال تروثا إلى المستعمرة في يونيو/حزيران 1904 مع تعزيزات عسكرية كبيرة.

وعند وصوله، تجمّع ما يقرب من 50 ألف رجل وامرأة وطفل من قبيلة الهيريرو برفقة قطعانهم تحت قيادة صاموئيل مهاريرو، توقعا للمفاوضات مع الجنرال بعد توقف هجماتهم. غير أن لوثار فون تروثا لم تكن لديه أي نية للتفاوض.

خلال نقل أفراد من الهيريرو إلى معسكرات التجميع في جبال خان عام 1905 (غيتي)

في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1904 أصدر الجنرال لوثار فون تروثا "أمر الإبادة" بحق قبيلة الهيريرو، وأعلن أن عليهم مغادرة المستعمرة أو سيقتلون. وعلى إثرها قتل نحو 65 ألفا من الهيريرو و10 آلاف شخص من قبيلة الناما، التي حملت بدورها السلاح ضد الألمان وعانى سكانها من مصير الهيريرو نفسه.

بعد حملة التقتيل التي قادها الجنرال تروثا، دعا حاكم المستعمرة فريدريش فون ليندكويست جميع الهيريروين للاستسلام والانضمام إلى "معسكرات التجميع" ابتداء من نوفمبر/تشرين الثاني 1905 إلى أغسطس/آب 1907.

ويؤكد المؤرخون أن عشرات الآلاف من الناميبيين توفوا بسبب العطش أو الجوع أثناء رحيلهم إلى بيتشوانا لاند (بوتسوانا اليوم) المجاورة، كما تعرضت السجينات الناميبيات للاعتداء الجنسي بشكل منهجي.

وفي مدينتي "لودريتزبوخت" و"سواكوبموند"، توفي سجناء الهيريرو جراء تعرضهم للمناخ القاسي وسوء التغذية والعمل القسري. وبلغ معدل الوفيات ذروته في جزيرة القرش، المتاخمة لمدينة لودريتزبوخت التي استأجرها الألمان في البداية من مستعمرة "كيب" البريطانية.

انتهت الحرب رسميا يوم 31 مارس/آذار 1907، لكن المعسكرات لم تغلق حتى 27 يناير/كانون الثاني 1908.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1918، قررت عصبة الأمم سحب المستعمرة الألمانية، وتم منح الانتداب عليها لجنوب أفريقيا التي كانت تحت الحماية البريطانية. ثم سلمت إدارة المستعمرة لجنوب أفريقيا عام 1920، واستمرت تحت سيطرتها حتى استقلال ناميبيا عام 1990.

في عام 1923، أقيمت جنازة قائد قبائل الهيريرو صاموئيل مهاريرو، الذي كان شعاره "لنمت ونحن نقاتل"، فكانت البداية لحركة جماعية من قبل أفراد القبائل من أجل نقل ما حصل إلى العالم.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1966 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بإنهاء انتداب جنوب أفريقيا على ناميبيا، وهو القرار الذي رفضته جنوب أفريقيا، مما جعل المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا "سوابو" تخوض كفاحا مسلحا، إلى حين نيل الشعب الناميبي استقلاله يوم 21 مارس/آذار 1990.

أسرى من قبيلتي الهيريرو والناما خلال انتفاضتهما ضد الاستعمار الألماني بين عامي 1904و1908 (الفرنسية-أرشيف)

في عام 1985، وصف تقرير "ويتاكر" الصادر عن الأمم المتحدة ما تعرضت له قبيلتا الهيريرو والناما بأنه "إبادة جماعية". وشمل هذا الوصف تفاصيل عن الممارسات البشعة التي تعرض لها سكان هاتين القبيلتين من قتل وتعذيب واعتداء جنسي ومعاملة قاسية.

استند التقرير إلى الأدلة والشهادات التي جمعها المحققون، وكان له تأثير كبير في رفع الوعي حول ما حدث، وفي تشجيع المطالبات بتحقيق العدالة وإقرار جبر الضرر الناجم عن هذه الإبادة.

وفي مايو/أيار 2021، أقرت الحكومة الألمانية رسميا بأن الأحداث التي وقعت في ناميبيا خلال الفترة من عام 1904 إلى عام 1908 تشكل إبادة جماعية.

في إعلان مشترك مع ناميبيا، التزمت الحكومة الألمانية بدفع 1.1 مليار يورو للحكومة الناميبية للمساهمة في التنمية والإعمار على مدى أكثر من 30 عاما. وأكد الإعلان ضرورة إنفاق هذه الأموال بشكل رئيسي في المناطق التي يعيش فيها حاليا أحفاد ضحايا هذه الإبادة.

الإعلان المشترك بين الحكومتين الألمانية والناميبية أثار جدلا واسعا في ناميبيا، حيث دعا نشطاء من قبيليتي الهيريرو والناما إلى إعادة التفاوض بشأنه.

جماجم للبحث العلمي

لم يقتصر الأمر على القتل والتعذيب، بل شمل حتى رفات وجماجم الهيريرو والناما، فقد كان الأطباء العسكريون الذين خدموا في المعسكرات يتلقون طلبات من علماء في برلين يطلبون منهم الاحتفاظ بجماجم ورؤوس كاملة.

وكان الطبيب الألماني بوفينغر يجري عدة تجارب على المعتقلين في جزيرة القرش، كما كان الباحثون بألمانيا، بين عامي 1906 و1907، يتلقون عددا من رؤوس القبيلتين لإجراء تجارب تهدف لتأكيد تفوق العرق الأبيض على العرق الأسود.

ومن بين الدراسات المنشورة، تبرز دراسة الطبيب الألماني أوجين فيشر (1913) التي كانت تهدف إلى إثبات الآثار السلبية للخليط العرقي.

ومن الرسائل التي نقلت في هذا السياق، تلك التي وجهها الأنثروبولوجي فيلكس فون لوشان إلى رالف زيرن، الذي كان ملازما في أوكاهاندجا يوم 22 يونيو/حزيران 1905، حيث خاطبه قائلا "هل تعرف وسيلة للحصول على عدد كبير من جماجم الهيريرو؟ الجمجمة التي قدمتها لنا لا تتناسب كثيرا مع الصور التي تم إنشاؤها حتى الآن.. لذا يبدو لي أنه من الضروري الحصول على مجموعة أكبر من الجماجم لأغراض البحث العلمي، وبأسرع وقت ممكن".

يذكر أن ألمانيا سلمت لناميبيا 19 جمجمة في أغسطس/آب 2018، وكذلك عظاما وفروة رأس، في مراسيم دينية أقيمت ببرلين، وكانت هذه الجماجم والعظام قد نقلتها القوات الاستعمارية الألمانية معها قبل أكثر من قرن، وكانت محفوظة في المستشفى الجامعي في برلين.

جمجمتان لأفراد من قبيلتي الهيريرو والناما قتلوا خلال الإبادة الجماعية (غيتي) التأريخ للإبادة

يعد "الكتاب الأزرق" أول وثيقة تاريخية روت تفاصيل الإبادة الجماعية التي نشرتها المملكة المتحدة عام 1918 عبر ناشرها الرسمي، وقدم الكتاب إلى مجلس البرلمان بلندن في أغسطس/آب 1918.

تم اختيار وصف "الأزرق" نظرا لأنه كان يطلق على أي تقرير ينشره البرلمان البريطاني، وكان عنوان الكتاب الكامل هو "اتحاد جنوب أفريقيا.. تقرير عن أهالي جنوب أفريقيا وتعامل الألمان معهم"، وقد أعده مكتب مدير جنوب غرب أفريقيا في وندهوك.

يعتمد الكتاب الأزرق على شهادات 47 شاهدا على أحداث الإبادة الجماعية التي تم تنفيذها بأمر من الإدارة الألمانية، ويتضمن معطيات تفصيلية وصورا فوتوغرافية.

ومن الشهادات التي تضمنها "الكتاب الأزرق" تلك التي تؤكد أن الألمان كان يطلقون الرصاص على كل من يقابلونهم، أو يبقرون بطونهم، ويقتلون الرضع والأطفال، إلى جانب قتل السجناء من الجرحى وغيرهم، فضلا عن الضرب بالسياط حتى الموت جزاء لهم على مقاومتهم، ومن استطاع الهروب من يد الجنود الألمان أبيد في الصحراء بالجوع والعطش.

واستخدم الكتاب في ذلك الوقت لأغراض سياسية، بهدف تبرير وجود الإدارة البريطانية وحلفائها في جنوب أفريقيا في "ناميبيا". وفي عام 1926 أمرت الحكومة البريطانية وحلفاؤها في جنوب أفريقيا بتدمير الكتاب بشكل كامل بعد أن أعيد الاعتبار لألمانيا من جانب حلفائها عقب الحرب العالمية الأولى، وأصبح الكتاب مصدر إزعاج لألمانيا و"للعرق الأبيض" بكامله لكونه صوّر الأوروبيين كائنات قاسية وعديمة الإنسانية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: إبادة جماعیة جنوب أفریقیا ما یقرب من أغسطس آب فی عام

إقرأ أيضاً:

من صبرا وشاتيلا إلى غزّة: عقيدة إبادة وغريزة انتقام لا تنطفئ

لا يُعرَف حتى الآن عدد شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، فالتقديرات متفاوتة جدّا، ترتفع إلى حدّ أربعة آلاف شهيد، وتنزل دون هذا العدد بكثير، وهذا العجز عن الإحصاء الدقيق لشهداء المجزرة، يتخذ صورتين متقابلتين، بين نمط الإبادة الذي يقترفه الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، والنمط الخاص والفريد للمأساة الفلسطينية، فالإبادة الجماعية تتقصّد الفرد كذلك، فتنقله من كونه إنسانا كانت له حياته، وامتلك روايته وسرديته وشهادته، إلى رقم مشكوك في صحته، أو قصة مشكوك في حقيقتها، وذلك إمعان في النفي والمحو للمعنى الفلسطيني، وفي المقابل يُحرَم الفلسطينيون من سرد شهاداتهم كلّها، وإظهار معاناتهم المركّبة، بوصفها معاناة شعب تُلاحق كيانيته السياسية، ومعاناة كلّ فرد في هذا الشعب.

بمدّ التاريخ الفلسطيني الواحد، من اليوم موعد نشر هذه المقالة (17 أيلول/ سبتمبر 2024)، إلى يوم مجزرة صبرا وشاتيلا التي طالت من 16 وحتى 18 أيلول/ سبتمبر 1982، فإنّه لا يمكن لأحد، وقد ارتفعت مستويات الإبادة إلى عشرات الآلاف في الحرب على غزّة، أن يقطع بالعدد الدقيق لشهداء غزّة في هذه الحرب؛ فقد تمكّنت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، في الذكرى الثانية والأربعين لليوم الأول لمجزرة صبرا وشاتيلا (16 أيلول/ سبتمبر)، من توثيق أسماء 34 ألفا و344 فلسطينيّا استشهدوا في حرب الإبادة الإسرائيلية المفروضة على قطاع غزّة، من ضمنهم 11 ألفا و983 طفلا أعمارهم أقل من 18 عاما، بينهم 710 أطفال لم يتجاوزوا العام، إلا أنّها في الوقت نفسه أعلنت أن الرقم الكامل لأعداد الشهداء والمفقودين هو 51 ألفا و206 فلسطينيين، وهو ما يعني أنّ 16 ألفا و862 فلسطينيّا لا يُعرف بعد عنهم أيّ شيء! وذلك حتى التاريخ المذكور (16 أيلول/ سبتمبر 2024).

الاختلاف من أيلول/ سبتمبر 1982 وحتى الشهر نفسه في العام 2024، هو فقط في مستويات القتل والإبادة، لا في المبدأ ولا في النمط، ولا حتى في الدوافع
إنّ الاختلاف من أيلول/ سبتمبر 1982 وحتى الشهر نفسه في العام 2024، هو فقط في مستويات القتل والإبادة، لا في المبدأ ولا في النمط، ولا حتى في الدوافع، فلم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا التي اقترفتها المليشيات اللبنانية المتحالفة مع الاحتلال الإسرائيلي، بإشراف ومشاركة جيش الاحتلال، إلا بالدافع الإسرائيلي المركّب من غريزة الثأر والانتقام وعقيدة الإبادة، وتأكيد التفوق الإسرائيلي بالقدرة على الثأر والانتقام المضاعف وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم، وهو الأمر الذي وبقدر ما يسعى الإسرائيلي بواسطته لتأكيد عناده وتمسّكه بأيّ وسيلة تضمن بقاءه واستمراره في فلسطين، فإنّه بذلك يُضمِر فزعا من أنّه لا بقاء له إلا بالإبادة، بيد أنّ عُقْدته في كون هذه الإبادة لا تضمن الغاية المرادة منها، فتصير في ذاتها غاية، وهو ما يعني أن الاستمرارية الإسرائيلية محدودة، فلا استمرار لكيانية تتنفس الإبادة وتغتذي بها وتعتاش عليها!

ترتبط حرب الإبادة الجارية على غزّة الآن بمجزرة صبرا وشاتيلا، بالدافع. وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد عشر سنوات بالضبط من عملية ميونخ التي كانت في يومي (5 و6 أيلول/ سبتمبر 1972)، لتكون عملية انتقامية نموذجية للإسرائيلي، فاختيار المخيم كان مقصودا لذاته، فكما يروي محمود عبد الله كلم في كتابه "صبرا وشاتيلا: ذاكرة الدم"، ينتمي خمسة من ثمانية هم منفذو عملية ميونخ للحيّ الذي بدأت منه المجزرة، ويلعبون كرة القدم في نادي "الكرمل" التابع لجمعية إنعاش المخيم الفلسطيني، حيث بدأت المجزرة؛ بقصف الجمعية والنادي وتدميرهما، ثمّ تركّزت في شارع أبو حسن سلامة الذي كان يُعدّ مقرّا لمنظمة "أيلول الأسود" المسؤولة عن عملية ميونخ.

جاءت المجزرة في مخيم صبرا وشاتيلا عن قصد، وبعد عشر سنوات على عملية ميونخ، وتعمّدت أن تطول ضعف مدة عملية ميونخ، وبينما قُتل في حاثة ميونخ 12 شخصا بسبب سلوك الشرطة الألمانية تحديدا، إذ لم يقصد الخاطفون قتلهم وإنما مبادلتهم بعدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وقُتِل إلى جانبهم خمسة من الخاطفين، فقد أمعن الاحتلال وبواسطة أدواته المتحالفة معه في قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلا، وذلك في حين أنه لا تصحّ المقارنة أصلا بين فصيل يندرج في إطار حركة تحرر وطنيّ يقصد بعمليته تحرير الأسرى من أبناء شعبه، وبين دولة تقصد الإبادة والانتقام يُفترض فيها امتلاك القدرة الكاملة لضبط عملياتها؛ لولا أنّها تتحرك بغريزة ثأرية تعتاش عليها، ولا يمكنها كبحها!

وإذا كان مخيم صبرا وشاتيلا مثّل الرمزية النموذجية للاحتلال الإسرائيلي للثأر من منفّذي عملية ميونخ، فقد انتهج السياسة نفسها في قطاع غزة، من جهة بالإبادة الواسعة التي طالت الغزيين كلّهم، ومن جهة أخرى باستهداف عائلات منفّذي عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وملاحقتهم حتى الساعة، وقصفهم حيثما وجدوا، ولو في أماكن النزوح، وهو ما أفضى إلى مقتل آلاف النساء والأطفال والشيوخ الغزّيين؛ فقط لأنّ أبناءهم شاركوا في عملية "طوفان الأقصى".

بتحليل رمزية مخيم صبرا وشاتيلا بما يؤكّد اختياره بغرض الثأر والانتقام، هل يمكن القول إنّ عملية ميونخ وفّرت "الفرصة أو الذريعة" لتدمير المخيم وإبادة سكانه؟ الجواب: لا غرض العملية ولا شكلها ولا نتيجتها من الممكن تشخصيه ذريعة يمكن استغلالها لعملية تدمير وإبادة لمخيم فلسطينيّ في لبنان، (ونحن نستخدم هنا وصف الإبادة بمعزل عن أي نقاش قانوني حول مفهوم الإبادة الجماعية ولكن بقصد الوصف المباشر لما جرى)، الإبادة عقيدة إسرائيلية، يخضع تفعيلها وتقرير مستوياتها لإرادة "إسرائيل" وقدرتها، لا لفرصة أو ذريعة يوفّرها الفلسطيني، والقفز عن ذلك بتحميل الضحية مسؤولية توفير (الذريعة أو الفرصة) لا مفهوم له إلا دعوة الضحية للاستكانة، والتي تعني القبول بالإبادة السياسية والمعنوية، لأنه لا يمكن لأحد أن يتوقع كيفيات التصرف الإسرائيلي إزاء مقاومة الضحية لوجوده وسياساتهوعملية الإبادة هذه جاءت بعد عشر سنوات على عملية ميونخ، مما يمنح الزمن القدرة الكافية على إنهاء المفاعيل النفسية الجماعية لدى الإسرائيليين الناجمة عن عملية ميونخ، بما يلغي أن تكون ميونخ ذريعة لأيّ ردّ فعل إسرائيلي بهذا الحجم.

أيضا لا يمكن تفسير مجزرة صبرا وشاتيلا، فقط بالحرب الأهلية اللبنانية، وصراع منظمة التحرير والقوى اللبنانية المتحالفة معها مع ما كان يُسمّى حينها باليمين الانعزالي الذي لم يكتف بالتحالف مع "إسرائيل"، ولكنّه تذيّل لها ورضي أن يكون أداة منحطّة لجريمة إبادة، فرمزية المخيم من حيث العلاقة بصبرا وشاتيلا واضحة، وقد اختير دون غيره من المخيمات الفلسطينية بإشراف إسرائيلي لتنفيذ تلك المجزرة، هذا علاوة على كون الاجتياح الإسرائيلي نفسه للبنان في حينه ارتكز إلى ذريعة تافهة، لا يمكن عدّها سببا مقنعا لاجتياح بهذا العمق والشمول، إذ اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارها بغزو لبنان بعد ما قيل عن محاولة جماعة "أبو نضال" المعادية أصلا لقيادة منظمة التحرير، اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن!

وبما أنّ ذريعة الغزو أصلا غير معقولة، إذ السبب الحقيقي هو تصفية وجود قوات منظمة التحرير في لبنان، وبما أنّ عملية ميونخ لا يمكن ولا بأيّ اعتبار أن تمنح بعد عشر سنوات الذريعة أو الفرصة للثأر المتوحش في صبرا وشاتيلا، فإنّ ذلك لا يعني سوى أن الإبادة عقيدة إسرائيلية، يخضع تفعيلها وتقرير مستوياتها لإرادة "إسرائيل" وقدرتها، لا لفرصة أو ذريعة يوفّرها الفلسطيني، والقفز عن ذلك بتحميل الضحية مسؤولية توفير (الذريعة أو الفرصة) لا مفهوم له إلا دعوة الضحية للاستكانة، والتي تعني القبول بالإبادة السياسية والمعنوية، لأنه لا يمكن لأحد أن يتوقع كيفيات التصرف الإسرائيلي إزاء مقاومة الضحية لوجوده وسياساته.

x.com/sariorabi

مقالات مشابهة

  • شراكة بين «موانئ دبي العالمية» و«نيدبنك» لتقديم حلول تمويل في أفريقيا
  • وزير الصحة يبحث مع السفير المصري بجنوب أفريقيا سبل التعاون
  • شراكة بين “دي بي ورلد” و”نيدبنك” لتقديم حلول تمويل في أفريقيا
  • الطاقة النووية في جنوب أفريقيا “فرصة” لحل أزمتي الكهرباء والبطالة
  • وزير الصحة: مصر أكبر منتج للأدوية في أفريقيا والشرق الأوسط
  • دليل على إبادة جماعية.. إيران تدين تفجير أنظمة اتصالات في لبنان
  • مقتل 4 أطفال خلال لعبهم الغميضة في ناميبيا الأفريقية.. هذا ما جرى
  • من صبرا وشاتيلا إلى غزّة: عقيدة إبادة وغريزة انتقام لا تنطفئ
  • مقررة أممية: غزة تشهد إبادة جماعية مرعبة
  • الوضع مأساوي.. الفيضانات تضرب ملايين الأشخاص في أفريقيا