الاستباحة والمقاومة
إسرائيل هي الوريث الشرعي لكل تاريخ الاستعمار الغربي الدامي، والذي نعرف جميعاً المصير البائس الذي آل إليه رغم هول جرائمه.
الرأس المرفوع للمعتقل الفلسطيني ونظرة التحدي في عينيه مقابل الجلّاد الصهيوني يقولان الكثير، بالنسبة لمن يريد أن يرى، عن مصير هذا الكيان ومستوطنيه.
تعرية المعتقلين من أدوات الاستعمار التقليدية، كالتعذيب والقتل الجماعي والتهجير والاغتصاب، وتهدف لتظهير قدرته على الاستباحة الكاملة لمن يتجرّأ ويقاوم.
لم تكن الاستباحة الكاملة واردة بين «أبناء أمم متحضّرة» وإن تنازعوا. لكنها قواعد وأعراف وضوابط لم تكن سارية المفعول في حروب «مكافحة التمرّد» بالمستعمرات.
عندما وصف وزير الدفاع الصهيوني سكان غزة بأنهم «حيوانات بشرية»، كان عمليا (وموضوعياً) ناطقاً رسمياً باسم تاريخ الغرب الاستعماري ومنظوره التراتبي العنصري لشعوب العالم.
* * *
يتوارث المستعمرون وسائل وأدوات السيطرة، بعضهم عن بعض. قبل مدة، نشرت وسائل إعلام صهيونية صوراً لعشرات من رجال غزة، وقد جُمعوا شبه عراة في أرض جرفها جيش الاحتلال، الذي ادّعى بأنهم من مقاتلي المقاومة في غزة.
وأمس انتشرت صورة (ثم اختفت عن المواقع) لمعتقل فلسطيني عارٍ ومقيّد اليدين أمام الجندي الصهيوني. ليست في الواقع سوى تكرار لصور مماثلة لمعتقلين عراقيين، وقبلهم لفيتناميين، عراة أمام جلّاديهم الأميركيين، أو لمعتقلين جزائريين، أمام الغزاة الفرنسيين.
تعرية المعتقلين هي أداة من أدوات ترسانة الاستعمار التقليدية، شأنها في ذلك شأن التعذيب والقتل الجماعي والتهجير والاغتصاب، للمثال لا الحصر، الهادفة إلى تظهير قدرته على الاستباحة الكاملة لمن يتجرّأ على مقاومته.
لم نرَ ممارسات شبيهة، وتحديداً تعرية للمعتقلين، خلال الحروب الكثيرة والدامية، التي وقعت بين دول أوروبا في القرنيْن 19 و20. راعت هذه البلدان، بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال، القواعد والأعراف والضوابط السائدة في ما بينها حيال كيفية معاملة أسرى الحرب.
لم تكن الاستباحة الكاملة واردة بين «أبناء أمم متحضّرة» وإن تنازعوا. غير أن مثل هذه القواعد والأعراف والضوابط لم تكن سارية المفعول خلال حروب «مكافحة التمرّد» في المستعمرات.
عندما وصف وزير الدفاع الصهيوني يوآف غالانت سكان غزة بأنهم «حيوانات بشرية»، هو كان عملياً (وموضوعياً) ناطقاً رسمياً باسم كل التاريخ الاستعماري للغرب الجماعي ومنظوره التراتبي لشعوب العالم.
تحمل عملية تعرية المعتقلين بصمات كل الأيديولوجيا العنصرية للاستعمار، وربطها لإذلال أبناء «المجتمعات التقليدية»، أي المتخلّفة في عرفهم، بانتهاك تقاليدها وأعرافها ومعتقداتها، خاصة تلك المرتبطة بالحشمة.
نزع ملابس أسير، وتصويره في وضعيات مهينة، كما جرى في معتقل أبو غريب على أيدي قوات الاحتلال الأميركي للعراق مثلاً، والتسريب المتعمّد للصور، كلّ ذلك كان جزءاً لا يتجزّأ من استراتيجية مكافحة التمرّد الأميركية لكسر شوكة المقاومة العراقية عبر ترويع حاضنتها الاجتماعية من خلال التلويح بالاستباحة الكاملة.
لم يلتفت العديد من المعلّقين إلى أن أولى عمليات القتل المشهدي لرهائن أميركيين أو غربيين في العراق، عبر قطع رقابهم، تمّت بعد انتشار صور وأفلام الانتهاكات والإذلال المنهجي للمعتقلين العراقيين في أبو غريب وغيره من معتقلات الاحتلال الأميركي، وكردّ فعل انفعالي عليها.
التنكيل بشعوب المستعمرات وارتكاب أفظع الجرائم بحقّها، هما ممارستان من ممارسات الاستعمار القديمة، لكن إدراج هذه الممارسات في إطار عقيدة متكاملة عسكرية وسياسية، تهدف إلى مجابهة حركات التحرر، جرى في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد هزيمة الجيش الفرنسي في حرب فيتنام الأولى.
عكف روجيه ترنكيي، وهو كولونيل فرنسي شارك في هذه الحرب، على دراسة نظريات حرب الشعب (التي بلورها الرئيس الصيني الراحل ماوتسي تونغ والجنرال الفيتنامي فو نجوين جياب) والتجربة الميدانية لثوار الفييتكونغ، وبلور عقيدة حول كيفية مواجهة هذا النمط من القتال في كتاب أصدره آنذاك لحساب الجيش الفرنسي بعنوان: «عن الحرب الثورية».
شكّل هذا الكتاب الأساس النظري لعقيدة مكافحة التمرّد التي اعتمدها الجيش الفرنسي في الجزائر في السنوات التي تلت.
وقد شرحت ماري مورييل روبان، الصحافية والباحثة الفرنسية، في كتابها «فرق الموت: المدرسة الفرنسية»، بإسهاب السياسات والتكتيكات التي اتّبعها الجيش الفرنسي بغية ترويع الحاضنة الاجتماعية للثورة الجزائرية، وفي مقدّمتها اعتماد أساليب كالإذلال المتعمّد للمعتقلين والمعتقلات عبر تعريتهم، وإخضاعهم لشتّى صنوف التعذيب والاغتصاب.
هذا الصنف من الإذلال كان منهجياً وبمثابة سلاح حرب. بات من المسلّم به اليوم أن حرب الجزائر كانت بالنسبة إلى قوى الاستعمار، بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل، نموذجاً إرشادياً، وأن بعض القادة العسكريين الإسرائيليين، رفائيل إيتان، رئيس الأركان الصهيوني خلال اجتياح لبنان في 1982، قاتل مع الجيش الفرنسي خلالها إلى جانب ضباط إسرائيليين آخرين.
إسرائيل هي الوريث الشرعي لكل تاريخ الاستعمار الغربي الدامي، والذي نعرف جميعاً المصير البائس الذي آل إليه رغم هول جرائمه. الرأس المرفوع للمعتقل الفلسطيني ونظرة التحدي في عينيه في مقابل الجلّاد الصهيوني يقولان الكثير، بالنسبة إلى من يريد أن يرى، عن مصير هذا الكيان ومستوطنيه.
*وليد شرارة باحث في العلاقات الدولية
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: إسرائيل الاستعمار الغرب الاستباحة المقاومة الإبادة فلسطين أسرى الحرب مكافحة التمرد حرب الشعب الجیش الفرنسی لم تکن
إقرأ أيضاً:
إصابة 3 فلسطينيين بالضفة والمقاومة تشتبك مجددا مع السلطة بجنين
أصيب 3 فلسطينيين -بينهم طفل وشاب من ذوي الإعاقة- برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، في الوقت الذي تجددت فيه الاشتباكات بين المقاومة وأمن السلطة الفلسطينية في مخيم جنين.
وقالت مصادر للجزيرة إن شابا فلسطينيا أصيب بجروح جراء تعرضه لعملية دهس من مركبة عسكرية إسرائيلية قرب قرية جبع شرقي القدس المحتلة.
من جهته، قال الهلال الأحمر الفلسطيني إن فتى (15 عاما) أصيب برصاص الاحتلال في بلدة بيت فوريك، شرق نابلس بالضفة الغربية بعد أن اقتحمت قوات الاحتلال، ترافقها آليات عسكرية، شوارع البلدة.
وذكر شهود عيان أن مواجهات اندلعت مع مقاومين فلسطينيين خرجوا للتصدي لقوات الاحتلال التي استخدمت قنابل الغاز المدمع والرصاص لتفريق المواطنين الذين تظاهروا داخل البلدة.
وفي بيان منفصل، ذكر الهلال الأحمر أن طواقمه تعاملت مع إصابة لشاب (25 عاما) من ذوي الاحتياجات الخاصة، برصاص حي في الركبة، أطلقه جنود الاحتلال عليه في منطقة وادي قانا شمال غرب سلفيت، وتم نقله إلى المستشفى لتلقي العلاج.
وقالت مصادر للجزيرة إن قوات الاحتلال اقتحمت مساء اليوم مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية. كما اقتحمت قرية بورين جنوبي نابلس وسط مواجهات مع شبان القرية.
إعلانوفي وقت سابق اليوم، اقتحمت قوات الاحتلال قرية حوسان، غرب مدينة بيت لحم. وأفاد شهود عيان بأن عددا من الآليات العسكرية اقتحمت القرية، وسط إطلاق قنابل الغاز باتجاه شبان القرية، كما اندلعت مواجهات خلال علمية الاقتحام بين مقاومين فلسطينيين والقوات الإسرائيلية، وقد احتجزت قوات الاحتلال شابا لفترة قصيرة قبل أن تطلق سراحه.
تنديد بحرق مسجدمن جانب آخر، نددت حركة المقاومة الإسلامية ( حماس) بإحراق مستوطنين إسرائيليين مسجد "بر الوالدين" ببلدة مردا شمالي الضفة الغربية.
وقال القيادي بالحركة عبد الحكيم حنيني -في بيان- إن "إحراق المسجد يشكل تصعيدا خطيرا ضد المقدسات سيواجه بمزيد من الغضب الشعبي وتصعيد المقاومة ضمن جرائم الإبادة".
وأضاف أن "الخطوات العنصرية التي ينفذها المستوطنون تجاه المساجد والمقدسات الإسلامية تستدعي تحركا قويا لردعهم عن انتهاكاتهم الاستفزازية"، مشددا على أن "المقاومة لن تصمت عن انتهاك حرمات المساجد والمقدسات".
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اقتحمت قرية مردا للمرة الثانية منذ صباح اليوم.
ونشرت قوات الاحتلال آلياتها في محيط مسجد بر الوالدين الذي تعرض لعملية إحراق من قبل مستوطنين متطرفين الليلة الماضية.
وأفادت الشرطة الإسرائيلية بأن قواتها -بالتعاون مع جهاز الأمن العام (الشاباك)- بدأت بإجراء تحقيق في حادث إحراق المسجد وكتابة شعارات كراهية على جدرانه.
وأوضحت الشرطة -في بيان- أن قواتها تعمل على جمع الأدلة والبيانات وأجرت عمليات تحقيق شاملة في موقع الحادث.
وكان عشرات المواطنين الفلسطينيين قد شاركوا اليوم في أداء صلاة الجمعة داخل المسجد وسط قلق من استمرار المستوطنين في استهداف ممتلكاتهم وأماكنهم المقدسة.
تشييع شهداءوفي السياق، شيّع الأهالي في مخيم طولكرم، شمالي الضفة الغربية، جثامين 4 شهداء كانوا قد استهدفوا بقصف إسرائيلي بالمسيّرات على سيارة في المخيم.
إعلانوانطلقت مسيرة التشييع من مستشفى ثابت ثابت الحكومي، وصولا إلى منازل ذويهم ثم مسجد المخيم، ومنه إلى المقبرة.
وردد المشيعون هتافات تندد بجرائم قوات الاحتلال الإسرائيلي، وتطالب بتصعيد نشاط المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وقد ارتفع عدد الشهداء برصاص قوات الاحتلال في الضفة الغربية والقدس منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 822 شهيدا، بالإضافة إلى نحو 6 آلاف و500 جريح، وفق معطيات رسمية فلسطينية.
اشتباكات مع أمن السلطةمن ناحية أخرى، تجددت الاشتباكات المسلحة بين المقاومة وأجهزة أمن السلطة في محيط مخيم جنين في الضفة الغربية.
وتظاهر عدد من سكان المخيم عقب اجتماع شعبي ومؤسساتي لرفض الحملة الأمنية للسلطة الفلسطينية هناك. وطالب المتظاهرون بإنهاء الحصار المفروض على المخيم، وأعلنوا دعمهم للمقاومة فيه.
ونُظمت المظاهرة قبالة عناصر الأمن الذين تمركزوا قرب مدخل المخيم، قبل أن تتجدد الاشتباكات بين الأمن من جهة، و"كتيبة جنين" من جهة أخرى.
وكانت أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية فضت بالقوة مظاهرة أخرى عقب صلاة الجمعة انطلقت من مسجد المخيم، وأصيب خلالها عدد من الشبان الفلسطينيين.
وطالب أهالي مخيم جنين وطلبة المدارس بضرورة السماح للطلبة بالعودة إلى الدراسة المعطلة منذ أسبوعين بفعل اقتحامات الاحتلال المتكررة والحملة الأمنية الأخيرة.
وعلى صعيد متصل، أفادت هيئة البث الإسرائيلية بأن الجيش الإسرائيلي راض عن العملية الفلسطينية في جنين، ويدعو إلى تعزيز السلطة الفلسطينية.
وأضافت أن القيادة المركزية أوصت بتعزيز آليات السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني معها.
وأشارت هيئة البث إلى أن الجيش الإسرائيلي تلقى تعليمات من المجلس الوزاري المصغر بتعزيز التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية.
وقالت الهيئة إن 300 ناشط مسلح من السلطة الفلسطينية يعملون في مخيم جنين، تحت مراقبة الجيش الإسرائيلي، في الأيام العشرة الأخيرة.
إعلان