الإسراء والمعراج.. رحلة الإعجاز الإلهي
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
حمد الحضرمي **
وقعت حادثة الإسراء والمعراج بعدما مرت على النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من المآسي والأحزان والشدائد المتلاحقة؛ حيث فَقَدَ عمه أبي طالب وزوجته خديجة بنت خويلد، وأذية أهل قريش له، وما أسفرت عنه محاولته إلى الطائف من مشاق ونتائج أليمة، ثم ما لقيه من أهل قريش عند عودته إلى مكة من عنتِ وصلفِ أثرت على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد توجه نبينا الكريم إلى الله تعالى شاكيًا همومه ومعاناته، ملتمسًا النصر والتمكين، مجددًا العزم على المضي قدمًا في تحمل مسؤوليته في نشر الدعوة الإسلامية، مستهينًا بكل الصعاب ما دام هذا الأمر يرضي الله عنه، وقد جاءت بعد كل هذه المآسي والأحزان حادثة الإسراء والمعراج تسلية عن نفس النبي صلى الله عليه وسلم ومواساة له وتكريمًا وتثبيتًا، وقد وقعت هذه الحادثة في السنة العاشرة من البعثة وقبل هجرة النبي إلى المدنية بأكثر قليلًا من السنة، وبعد وفاة عمه أبي طالب.
إن الإسراء والمعراج حادثتان متلازمتان؛ وهما ثابتتان بنص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فقد نص الكتاب العزيز أن معجزة الإسراء قد تمت ليلًا، حيث انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف بأرض فلسطين "سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الإسراء: 1).
أما حادثة المعراج فهو الانتقال بالرسول صلي الله عليه وسلم إلى السماوات وتجواله في ملكوت الله في رحلة تتجاوز حدود التصور المادي وتصل إلى حدود الإعجاز الإلهي، لتصل به إلى سدرة المنتهى، وليطلع بحواسه ودون شك على آيات الله الكبرى، قال الله في كتابه الكريم "وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ (13) عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ (15) إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ (16) مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ" (النجم: 13- 18).
وقد صحت الرويات عن قيام المَلَك جبريل- عليه السلام- بشق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة وغسله لقلب الرسول بماء زمزم، وإفراغه الحكمة والإيمان في صدره، وبعد الإنتهاء من شق الصدر وغسله، أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وهو راكب ظهر البراق، فقد ذكر أنس قول النبي صلى الله عليه وسلم "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، فسار بي حتى أتيت بيت المقدس"، وفي بيت المقدس صلى الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض الأنبياء، ووصف هيئاتهم، ثم عرج إلى السماء السابعة مارًا بما قبلها من السماوات، حيث التقى بالأنبياء آدم ويوسف وإدريس وعيسى ويحيى وهارون وموسى وابراهيم- عليهم السلام- وقد رأى خلال هذه الرحلة السماوية الفريدة الجنة ونعيمها ووصف أنهارها وخاصة الكوثر، كما رأى النار ومن يعذب فيها، وسمع صريف أقلام الملائكة الكاتبين، ورأى البيت المعمور في السماء السابعة وما يدخله من الملائكة، كما وصف سدرة المنتهى، ووصف جبريل- عليه السلام- الذي قدم له خمرًا ولبنًا فاختار اللبن، فقال جبريل هي الفطرة، وفرضت عليه وعلى أمته خمسون صلاة في اليوم والليلة، ثم خفضت إلى خمس صلوات، قبل أن ينزل إلى بيت المقدس ليعود منه إلى مكة.
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث له في تلك الليلة المباركة وكان مشفقًا أن يكذبه قومه، وقد صدقه المؤمنون وكذبه المشركون، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكرُبت كربة ما كربت مثلها قط، قال: "فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به".
ولقد افتُتِنَ المشركون بأخبار الإسراء متعجبين، واستنكروا أن يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثم يعود في ليلة واحدة، في الوقت الذي يقتضيهم ذلك فترة شهرين، ورغم ذلك فقد اضطروا للاعتراف بصحة وصفه لمسجد بيت المقدس، وعندما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر بخبر الإسراء والمعراج صدقه دون تردد، وكلما وصف الرسول شيئًا لأبو بكر عن بيت المقدس قال صدقت، أشهد أنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأنت يا أبا بكر الصديق".
ويُستحب إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بفرضية الصلاة والذكر والتسبيح، وغيرها من أشكال الطاعات كقضاء حوائج الناس وإخراج الصدقات، ومن المهم الإطلاع وقراءة سيرة النبي العطرة، والصلاة والسلام على النبي، فقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشرًا". والصلاة على الحبيب من ذكر الله تعالى، فهي تشرح الصدر وتريح القلب وتكفر الذنوب.
اللهم صلى على سيدنا محمد صلاة تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتقضي بها جميع الحاجات، وتطهرنا بها من جميع السيئات، وترفعنا بها عندك أعلى الدرجات، وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، وندعو الله في هذه المناسبة العظيمة أن ينصر إخواننا وأهلنا في غزة وفلسطين المرابطين المجاهدين الأحرار، ويكتب لهم الغلبة والتمكين والنصر المبين.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: قراءة السيرة والصلاة على النبي وتدبر القرآن مفاتيح محبة وتعظيم الرسول
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق، إن مدخل حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقود إلى تعظيمه والارتباط به، مشيرًا إلى أن المسلم إذا أحب النبي حقًّا فإنه يعظّمه ويقف عند حدّه ويتصل به اتصالًا روحيًا عميقًا، مؤكدًا أن هناك ثلاث وسائل رئيسية لغرس هذا التعظيم والمحبة في القلوب: قراءة السيرة، والإكثار من الصلاة عليه، وتتبع ما ورد عنه في القرآن الكريم.
وأوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق، خلال بودكاست «مع نور الدين»، المذاع على قناة الناس، اليوم الخميس: «من مدخل الحب، إذا أحب المسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يعظمه ويقف عند حدوده أمامه، ويكون متصلاً به اتصالاً تامًا. هذا الحب يتولد من أمور عدة، أولها قراءة السيرة النبوية».
وأضاف: لو أن المسلمين قرأوا السيرة النبوية وأكثروا منها، لرأوا حال النبي صلى الله عليه وسلم واشتاقوا إلى أن يفعلوا مثله، ولرأوا ذلك الإنسان الكامل الذي تحول إلى إنسان رباني، ثم بعد رحلة الإسراء والمعراج، تحول إلى نور، كما ورد في القرآن الكريم: 'يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ'، وهذا النور هو حضرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم."
وتساءل قائلاً: «كيف تعلقت قلوب الأمم بقراءة السيرة؟ كانت السيرة تُقرأ في الأزهر الشريف يوميًا بعد صلاة الفجر، حيث يكون الذهن متفتحًا والناس في نشاطها، وأول ما يستقبلونه هو السيرة النبوية».
وأشار إلى أن مؤلفات السيرة النبوية المطبوعة بلغت حوالي 450 كتابًا حتى الآن، وقد يكون العدد وصل إلى 500، أما المخطوطات، فهي أكثر من ذلك بكثير، على سبيل المثال، قام المرحوم صلاح المنجد بعمل معجم جامع لكل ما كُتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحواله ومواقفه وأشيائه وخدامه وأزواجه وأبنائه، وكلما قرأت عنها، زاد حبك له ولم تمل.
وأردف: «هذا هو الطريق الأول لعلاج المسلم المعاصر، حتى إذا ما ذهب في هذا البحر اللجي من الحمق والتحامق والاستهانة بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد قلبه يصده ويطمئن إلى تعظيمه».
وأضاف: «الأمر الثاني الذي أمرنا الله به، وجربه المسلمون، هو الصلاة على سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)».
وذكر: "المسلمون تفننوا في صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدنا حوالي 43 صيغة واردة في الحديث، على سبيل المثال، الشيخ الجزولي رحمه الله في القرن الثامن الميلادي، ألف مجموعة سماها 'دلائل الخيرات'، ما رأيكم أن عدد مخطوطات 'دلائل الخيرات' فاق عدد المصاحف؟، الأمة لم تجتمع وتقرر أن تعمل نسخًا أكثر، ولكن سبحان الله، أراد الله ذلك، فوجدنا حوالي 20 مليون مخطوطة إسلامية على وجه الأرض، منهم حوالي 2 مليون نسخة فقط لـ«دلائل الخيرات»، وهذا غير كتب الصلوات الأخرى، مثل «كنوز الأسرار» للهروش، و«سعادة الدارين» للنبهان، و«الكنز الثمين»، وغيرها من المجاميع التي جمعت الصلوات وتتبعت فضلها، وعرف المسلمون فضلها كثيرًا، إما بالتجربة أو بالرؤى».
وشدّد: «الالتزام بالنصوص عندنا شكله إيه؟ نحن ملتزمون بالنصوص ولكن بالفهم العميق، ملتزمون بالنصوص ولكن بالفهم الذي لا يضرب بعض الشريعة فيه بعض، إنما كله متفق على نمط واحد، فإذا كان الأمر الأول هو السيرة، والأمر الثاني هو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر الثالث هو تتبع ما ورد عن سيدنا في القرآن الكريم».
وتابع: «ربنا في القرآن الكريم أكثر من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، هو لم يُذكر باسمه محمد إلا أربع مرات، وأحمد مرة واحدة، لكن المقصود ليس ذلك، المقصود أنه وصفه وذكر عينه وذكر يده وذكر كل أعضاء جسمه، فقراءة السيرة مع الصلاة على النبي، مع تتبع القرآن، تجعل الإنسان يرسم هذه الصورة لسيدنا».