صلاح ستيتيّة.. قراءة الوجه الآخر للصّمت
تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT
بقلم: فرانسوا كسافيي
ترجمة: أحمد حميدة
«الشّعر الذي يتسنّم قمّة علاماتنا، هو بالنّهاية العلامة الوحيدة التي لا تقبل التّبعيض والتجزئة، وأعني بذلك أنّ غموضه.. غالباً ما ينكفئ لفائدة كمال آخر جديد. كما أعني أنّ العلامة بوصفها ذات طبيعة مزدوجة - إذ تكون متلكّأة بين الثّقالة واللّطافة - فهي سرعان ما تمّحي متى أطلّ الشّعر، بعد أن تكون قد تخفّفت سراً من حمولتها لفائدة حضور مجنّح.
فكيف يتأتّى للألْطفِ دَحْرَ الأثقل؟ أريد أن أقول هنا.. إنّ الشّعر يقيم سلطته المطلقة انطلاقاً من كلّ ما هو مبهم، بما في ذلك الزّمان والمكان، ومن تلك الصّيحة المشهودة: «أنا لا أعرف» (صلاح ستيتيّة).
...
إنّ هذا الاستشهاد الذي قد يختزل رؤية ستيتيّة إلى الشّعر، يكشف إلى حدّ ما عن جانب من تصوّره المتفرّد لأدوات التّعبير عن فنّه. فلئن كان ستيتية شاعراً قبل أن يكون مفكراً وكاتباً ومترجماً.. ويكون قد عانق العمل الدّيبلوماسيّ، فإنّ ذلك يعني أنّه كان بحاجة ماسّة إلى الكلمات للتّعبير والإفصاح. لذا.. نراه قد تخيّر الشّعر، تلك الموسيقى الرّوحانيّة الأثيرة والأقرب إلى آذان القلب، إذ كان يتغذّر عليه في الحقيقة إبداع شيء آخر، وهو الذي كان دوماً يعلم أنّ الفكر- كما أشار إلى ذلك شيلر –«ينبغي له المرور بالكلمات كيما يعود إلى الفكر».
صلاح ستيتية هو ذلك السّاحر المدهش والبحّاثة الذي، وهو يقودنا إلى بستان الخرافات، يخبرنا عن الجانب الآخر الأكثر صفاء فينا، ذلك الجزء الضّئيل الذي يظلّ متمنّعا علينا، لأنّنا لا نعرف كيف نتخاطب معه، أو حتّى الإنصات إليه. ويسري ذلك السّحر فينا بفضل ما استكنّ في سرّ هذا الإنسان من فراسة وتبصّر، جعلته يعمل، بكتابة محكمة.. مستجمعة وبليغة، على الجمع بين عالمين مختلفين ودمجهما حدّ الانصهار، عالمي الشّرق والغرب. هكذا.. كان باستطاعته كشاعر.. بثّ الحياة في العفاريت التي تسكن شعره، وشدِّ أنتباهنا إلى روعة الحلم، الذي يتجاور فيه الرّوحانيّ والحسيّ.
لو كان بوسع ستيتية أن يكون محض فكرة، أو دخاناً رمادياً متصاعداً في الهواء، أو ريح صبا، لكان من دون شكّ أسعد النّاس. ولكنّ الأمر في عالم الكثافة ليس كذلك، وهو ليس كذلك أيضاً بالنّسبة لنا نحن، القرّاء البسطاء، القادرون على قراءة وإعادة قراءة أبياته الحالمة والمدندنة، وتلك الصّيغ الخيميائيّة لمفرداته المزهرة، التي متى جُمِعتْ، شكّلت.. لا جملةً، وإنّما صورة رشيقة عن الرؤية الفذّة التي كانت لهذا الرّاوي المدهش. بلى ! إنّ لشعر ستيتية تلك الطّاقة الإيحائيّة التي تميّز الأعمال الأدبيّة الكبرى، فمتى استوقفتنا كلماته، سرعان ما ستندمغ تلك الكلمات في أعماق كياناتنا لتستنفر مشاعرنا وانفعالاتنا. فهل ينبغي أن نرى في ذلك علامة سحر يمتلك ستيتية أسراره؟ أم تراه يريد أن يبيّن لنا أنّ وراء كلّ المشاعر المبثوثة في الشّعر ثمّة أمر آخر مدهشاً ومثيراً؟
وسيط بين ثقافتين
في البدء كان ثمّة إنسان شرقيّ، لبنانيّ.. أي حتما فينيقيّ، دفعته لغته الأمّ العربيّة، ودينه الإسلام إلى الكتابة باللّغة الفرنسيّة، في ظرفيّة شهدت تنامي فكرة النّهضة العربيّة، وأصبح يُنظَر من خلالها إلى كلّ تنازل عن اللّغة الأمّ تفريطاً في الهويّة.
ولم تخامر هذه الفكرة الاختزاليّة أبداً خيال الشّاعر، بل إنّ ستيتيّة عمل على العكس من ذلك من أجل أن تنفتح كلا الثّقافتين، الغربيّة والشّرقيّة، الواحدة على الأخرى. وحين تولّى إدارة مجلّة «الشّرق الأدبي» في بيروت خلال الستّينات، كان قد شرع بعد في أداء دور الوسيط بين هاتين الثّقافتين، فبادر بكتابة البحوث وإلقاء المحاضرات لاطلاع الجمهور الفرنسيّ على خصوصيّة الخيال العربي. ومن ناحية ثانية.. سعى في لبنان إلى حفظ الجسر المترنّح الذي كان يصل الغرب بالشّرق من التّداعي، وإرساء أسس خطاب «متوسّطيّ» بالغ الوجاهة وقائم على القيم الإنسانيّة الأصيلة.
لقد كان ستيتية ديبلوماسياً سياسياً، ولكنّه كان أيضاً ديبلوماسيّ القلوب، إذ كان من القلائل الذين عملوا على تطويع فتنة الشّرق، بما انطوى عليه هذا الشّرق من إرث ثقافيّ وهّاج، وإشاعته في الغرب، وهو المثقّف العربيّ الوحيد الذي توفّق في الكتابة بالفرنسيّة عن العروبة، التي وجد المترجمون عناء كبيراً في الكشف عن حقيقتها لغير العرب. وإن كان لا شيء يعدل الأصل، فإنّ ستيتيه قد كتب لنا العربيّة بلسان فرنسيّ وارف البيان، وبمثل ذلك الزّاد فحسب غداً بإمكاننا الاقتراب من «الجانب الآخر المحترق والبالغ الصّفاء»: ذلك هو عنوان ديوانه الصّادر سنة 1992، والذي رسّخ مكانته الرّفيعة كعلم شامخ من أعلام الشّعر الجديث.
وقد أقرّت الأكاديميّة الفرنسيّة ذلك الاعتراف الدّولي حين منحته سنة 1995 «الجائزة الكبرى للفرنكوفونيّة». كما خصّصت له ندوتان سنة 1996. ولكن بعيداً عن كلّ تلك الضجّة، سوف يظلّ ستيتيّة شاعراً بالغ التّواضع والإخبات، شديد التعلّق بالقيم الشّرقيّة، إنسانيّ إلى أبعد الحدود.. وحلو المعاشرة، وسوف يظلّ بشكل ثابت، رجل الحوار الذي يكون قد فهم الشّعر على أنّه بارقة أمل يمكن أن تغيّر بعمق رؤية الإنسان للوجود.
موسيقى نابضة
يكتب صلاح ستيتيّة حينئذ بلغة مفردة، تلك «الفرنسيّة-العربيّة» التي أبدعها لتظلّ موسيقى كلماتها نابضة بكلّ ما استكنّ فيها من صور وأحاسيس ومشاعر. وفضلاً عن ذلك.. أبدع أسلوباً خاصاً من الكتابة قادراً على توليد إيقاعاتِ وأصواتِ السّرد الشّرقي البالغ الخصوصيّة، كما أمكنه ترويض فنّ التّكرار من دون الوقوع في الإسهاب والإفاضة، فجاء شعره تبعاً لذلك بالغ الإزهار ومتخففاً من الاستعارات المجانيّة.
وهذه الكتابة الجديدة التي كانت في آن.. فاتنة، ثابتة ومتفرّدة، أفادت من كلّ إمكانات قواعد اللّغة لتوليد زخارف عربيّة ساحرة دونما تقيّد بأوزان الشّعر المألوفة. فمن الصّمت إلى الصّرخة، ومن الاستعارة إلى الصّور الغنّاءة، جبلت البلاغة بريشة هذا الشّاعر، وعُجِنت حدّ الاكتمال، حتّى غدت لغة ستيتيّة مطواعة وقابلة للتّشكيل والقولبة الشّعريّة.
إنّنا لنلمس في شعر ستيتيّة حرصاً دائماً على الجمع بين الجسديّ والرّوحانيّ، كما لو أن كلّ منهما يرتهن في وجوده بصورة ثابتة، لوجد الآخر. غير أنّ ذلك الجسديّ الذي يكون متحركاً، يبدو دائما وكأنّه لا يتوقّف عن الإنفتاح ومحاولة الاقتراب من الرّوحانيّ ليكون أدنى منه، حتّى أنّه ليخيّل إلينا أنّ الشّاعر يتوق إلى القبض على الوجود الذي يحيط به.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الفرنسی ة العربی ة ستیتی ة ة التی
إقرأ أيضاً:
أمين عام منتدى أبوظبي للسلم: الإمارات قدمت نموذجاً يحتذى به في التسامح وقبول الآخر
شارك الشيخ المحفوظ بن بيّه، الأمين العام لمنتدى أبوظبي للسلم، رئيس «لجنة الدين والمجتمع المدني للذكاء الاصطناعي» في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحريات الدينية، الذي عقد في مبنى وزارة الخارجية بالعاصمة التشيكية تحت عنوان «البحث عن التفاهم في عصر الأزمات»، بمشاركة عدد كبير من الشخصيات الدبلوماسية والسياسية والفكرية وصناع السلام عبر العالم.
افتتح المؤتمر المبعوث الخاص للحريات الدينية والحوار الديني روبرت رهاج، ومساعد وزير خارجية جمهورية تشيك إدوارد هلسيس، وأكدا أن الهدف من عقد المؤتمر هو تبني مبادرات ميدانية وتدابير عملية لتوحيد الصفوف حول القضايا المشتركة، وهي قضايا السلام العالمي والعدالة الإنسانية، في جوّ تضامني يرفض كل مشاعر الكراهية وعلى وجه الخصوص من أجل التصدّي لتنامي الحركات المتطرّفة والمعادية للإسلام والمسلمين.
وفي كلمة له في الجلسة الافتتاحية، استعرض الشيخ المحفوظ بن بيه الرّؤية الإماراتية التي تقدّم للعالم نموذجاً حضارياً متجسّداً على أرض الواقع للتّعايش السعيد بين الديانات والثقافات والأعراق، من خلال المراهنة على قيم السّلام والأخوة الإنسانية والتضامن، في مقابل قيم الكراهية والتنابذ التي يراهن عليها صناع الموت.
واستعرض بهذا الصدد الوثائق الإماراتية الكبرى كإعلان أبوظبي للسلام (2014)، وإعلان مراكش (2016)، ووثيقة الأخوة الإنسانية (2019)، وميثاق حلف الفضول الجديد (2019)، وإعلان أبوظبي للمواطنة الشاملة (2021)، وغيرها من الوثائق والإعلانات التي تعتبر معالم ومنارات مشعة على طريق الاستئناف الحضاري، وميلاد إنسانية الأخوة والتضامن.
وفي هذا السياق، استلهم المحفوظ بن بيه من حكمة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، معتبراً أن صناعة السلام ليست مجرّد وظيفة أو مهنة محددة الوقت والغايات، وإنما هي مسعى حياة، ومهمة تمتدّ من المهد إلى اللحد، مضيفاً أن هذا يحتّم على محبي السلام جميعاً واجب الحفاظ على جذوة الأمل متّقدة ومشعل الرجاء مضيئاً، مهما أظلمت الآفاق وتلاحقت الأحداث.
وفي إطار شرحه لجهود منتدى أبوظبي للسلم، أوضح الأمين العام أن المنتدى يتبنى مقاربة «أولي بقية» التي تتقاطع مع نظرية «الأقلية المبدعة التي تصنع التاريخ» بحسب عبارة المؤرخ الأمريكي توينبي، ولذلك فإن المنتدى، انطلاقاً من الرؤية الاستراتيجية لدولة الإمارات، أصبح اليوم بشهادة الكثيرين من صناع القرار والمراقبين الدوليين هو الشريك الأبرز والأهم للفعاليات الكبرى العالمية في مجال الحريات الدينية وتعزيز السلم.
وفي نفس السياق استعرض الأمين العام الشبكة الواسعة للشراكات المتعددة التي تربط المنتدى بمختلف الجهات المعنية في الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة، وأوروبا، والعالم الإسلامي، والتي من خلالها يهدف المنتدى إلى التأسيس لنوع جديد من الحوار التعارفي، يرتقي بالحوار الديني والحضاري إلى مستوى حوار المفاهيم وبناء التعارف حول المشتركات الإنسانية.
وبخصوص تنامي حركات الكراهية ومعاداة المسلمين أكد الشيخ المحفوظ بن بيه أن هذه الحركات هي الحليف الموضوعي والشريك الفعلي للحركات الدينية المتطرفة، حيث يغذّي كل واحد من الطرفين الطرف الآخر، ويقدّم له العناصر الضرورية لنموه ووجوده، ولذلك فعندما نكافح التطرّف فنحن نكافح المعاداة للإسلام ومشاعر الخوف من المسلمين، وفي المقابل عندما نواجه مشاعر العداء للمسلمين فنحن أيضاً نقضي على البيئة المساعدة لنمو حركات التطرف واستغلال الخطاب الديني.
يذكر أن مؤتمر الحريات الدينية هو مبادرة دولية بالتعاون بين منظمة الحريات الدينية الدولية وعدد من الحكومات لنشر الوعي العالمي بقضايا الأقليات الدينية وما تتعرض له من اضطهاد وانتقاص لحقوقها، ولبناء مقاربات تشريعية واجتماعية لتعزيز نماذج المواطنة الشاملة والتفاهم الإنساني.
(وام)