أزمنة محمود شقير.. القاص الإنسان
تاريخ النشر: 7th, February 2024 GMT
طيلة أسبوع كامل، وأنا غارق في أزمنة الأستاذ محمود شقير، أحب هذا القاص المهم، الذي شكلت تجربته علامة فارقة في القصة الفلسطينية، على يديه نمت ونهضت تجارب قصصية كثيرة في العالم العربي، شخصيا، أخذت منه الكثير من التقنيات، وسأكون قويًا حين أعترف أني سرقت في مجموعاتي الأولى بعضا من أجوائه، كما اعترف بعض أصدقائي من الساردين بأنهم نهبوا لغة شقير المحيرة اللذيذة، المقيمة في بيت خاص بين الشعر والسرد، وكانت مجموعته الأولى مصدر نهب لجيل فلسطيني كامل، (خبز الآخرين)، أتذكر هوسنا بفضائها وشخوصها، ونقاشاتنا من خلالها حول علاقة الفن بالأم الفلسطينية الاجتماعية، وكان حزننا كبيرًا على مصائر أبطالها، ولن أنسَ مجموعة (طقوس المرأة الشقية) التي هزت الوسط السردي الفلسطيني، بأسلوبها اللغوي وشذريتها، ومضامينها.
عام 2022 صدر للقاص شقير عن دار نوفل في بيروت سيرة ذاتية مهمة جدًّا: (تلك الأزمنة)، سيل من الذكريات مصاغة بطريقة سردية ممتعة، المدن والأصدقاء والحياة بكليتها، محمود شقير ليس قاصا مبدعا فقط، هو يمتلك شخصية إنسانية ساحرة، وغريبة، سأتحدث عنها بالتفصيل.
في مرحلة خواء الثقافة الفلسطينية، (والـمخترة) الثقافية واستخدام الـمناصب والـمواقع الحزبية والعائلية والـمؤسساتية والشللية لإقصاء الآخرين واغتصاب اسم وروح الثقافة، زمن تغيير الوجوه، والاتجاهات، عبادة الذات الـمبدعة، منهج تحطيم إنجازات الآخرين، الدس بينهم، العيش على خلافاتهم، التعامل مع الأدباء وكأنهم قطعان من الخرفان، التوسل للنقاد من أجل الكتابة عن الأعمال الأدبية، زمن النصوص السريعة الـمليئة بالدهون والشحوم في مطاعم ومطابخ (النت)! تزداد صورة القاص محمود شقير لمعانًا ورقيًا ومصداقيةً وشفافيةً، هذا الرجل -الأمل، لن يتجادل معي أحد حول نزاهته وصدقه في الكتابة كما صدقه في الحياة، الـمثقف في فلسطين لا يحب أن يسمع مديحًا لأحد من زملائه إلاّ إذا كان هو نفسه هذا الـممدوح، لكن، هناك إجماع بين مثقفي فلسطين على استحقاق هذا الـمبدع الـمديحَ دائمًا، لماذا إذًا نجا هذا القاص الهادئ من دوامات الحسد والنميمة والتشويه؟ بإمكان الحديث عن شقير أن يصبح ذريعةً للحديث عن أمراض الحياة الثقافية الفلسطينية وتشوهاتها، كما يصلح الحديث عن هذه الأمراض أن يكون ذريعةً للحديث عن محمود الإنسان والـمبدع، فكلما رأيت سلوكًا مريضًا لمثقف فلسطيني؛ أتذكر فورًا محمود شقير، وأقول: يا ألله، كم هو واحتنا هذا الرجل!، الحديث لا يدور هنا عن شخص عاديٍّ، بل عن ظاهرةٍ ضائعةٍ متمثلةٍ في سلوك وروح شخصٍ يعيش بيننا، ولكننا، غالبًا، لا ننتبه إليه؛ لأننا مشغولون بسبّ الآخرين، والتّرويج لـما نكتب، لـماذا أنا من الـمتحمسين لنظرية تجنّب الاحتكاك بالأدباء والفنانين الـمبدعين الفلسطينيين؟، الذين نحب كتاباتهم، تجنّب رؤيتهم والحديث معهم؛ لأن مجرد رؤيتهم والاستماع إلى نبرات أصواتهم، يسقطان منّا الإحساس بملائكيتهم، يكسران أبعاد الكريستالة اللامعة التي ربتها فينا نصوصهم الـمدهشة. تذكروا كيف نشعر حين نتعرّف عن قرب إلى بعض ممّن نحب من الـمبدعين: لا، لا، ليس هذا من أقرأ له، هناك خطأ ما!!. لكن ذلك ليس خطأ هؤلاء الأدباء؛ إنها طبيعة الأشياء، سنتها، لا إدانة هنا لهم، بل توصيف للحالة، الاستثناء هو حالات غريبة معذبة قدّر لها أن تلتحم فيها نصوصهم بحيواتهم كما تلتحم شقتا البرتقالة قبل شقها إلى نصفين، مبدعون كثر، روائيون وروائيات، رسامون ورسامات، شعراء وشاعرات، مخرجون ومخرجات، أحببت شخصيًا أعمالهم، عشتها، تعلـمت منها، بنيت عليها كما تبنى كل نصوص العالـم على ما سبقها من نصوص، بعضها شكّل مفارق ومفاصل في تجربتي القصصية، وربى داخلي ذلك الحيّز الـمقدّس الغامض الحلو من النقاء والألوهة، وذوبان الزمن، واتحاد الأمكنة، وبريق جوهر التاريخ الإبداعي البشري وخلاصاته، لكن بمجرّد رؤيتهم انتهى كل شيء، كل شيء، بالطبع ماعدا قلة -أبرزهم محمود شقير- متناثرين هنا وهناك غير قادرين على التـأثير في الوضع الثقافي، حين نقرأ نصوص محمود القصصية نرى وجهه ونسمع صوته، وحين نراه ونسمع صوته نقرأ نصوصه، أعترف بأن هذا النوع من الأدباء يسبب لي الارتباك، والألـم، الارتباك؛ لأنني أكون في حضرة الحيز الـمقدس نفسه، سائلًا إلى الخارج بكل خلوده وعمقه وحرارته وطزاجته؛ فمن الخارق وغير الطبيعي أن تتمرأى النصوص واللوحات والقصائد والروايات والأغاني على شكل إنسان يتحرك ويبتسم ويشرب أمامنا القهوة، ذلك يشبه أمنية بعيدة الـمنال، والألـم؛ لأن عليّ أن أحصل على هذا الكائن ليبقى بجانبي دومًا يزودني بالإلهام ويعطيني الأمل. إن مفارقته تشبه مفارقة قدرة خارقة حصلنا على سرها. من منا -في لحظات تعال تافهة- لـم يهاجم أعمال الكبار؛ لأنهم لـم يمسوا شغاف أرواحنا بأعمالهم كما ندعي؟ محمود شقير كانت له زاوية نظر أخرى.
في جلسة صغيرة كنت حاضرًا فيها ذكر أحدهم اسم الروائي أمين معلوف؛ فتمادى الجالسون في مديح رواياته، إلاّ محمود شقير، فقد تحدث عن عدم قدرته على مواصلة قراءة معلوف، ليس لأن أدب معلوف ضعيف أو ركيك، كما قال، بل لأن الخلل في داخله؛ لأنه لا يميل إلى الرواية التاريخية. هذا تفسير صادق وحقيقي يليق بروح عالية، روح استثنائية منسجمة مع جزئياتها بصورة محيّرة، من الفلسطيني الذي يجرؤ على مواجهة نفسه وتعريتها؟
وفيًا ومخلصًا ظل محمود شقير لفن القصة القصيرة، الـمعزولة عالـميًا والنابضة في بطن حوت، عزلته الرائعة في القدس الـمعزولة هي الأخرى زادت حضوره داخلي وعند من يعرفه نورًا على نور..
لـماذا يعشق أبو خالد خليل السكاكيني الذي عاش معزولاً؟ لـماذا يطارد شبحي ابنتيه دمية وهالة في أزقة القدس؟ لأن محطات حياة ومبادئ ومواقف السكاكيني تشبه إلى حد كبير حياة ومشاعر ومواقف محمود: صدقه مع الذات، تقديسه الحرية،إيمانه بالإنسان وقدراته، تعففه عن الـمصالح الشخصية والـمناصب، كرهه الـمنافقين، وطنيته العالية، التي لا تتعارض مع كونيته الـمتقدة، علـمانيته وحماسه للحوار والتعددية وانفتاحه على الآراء الأخرى، عدم رضاه عن تخلف ذهن البلاد مع انتمائه الهائل لقضية هذه البلاد. حزنه الوجودي، ثقافته العالية. لـم ير محمود العالـم بعيني الحزب الضيقة الواثقة والـمقولبة، بل رآه بعيني الفن الـمتشككة والـمعقدة والعميقة والفاحصة والشمولية، فترى أن الثيمة الأساسية في كل أعماله هي التقاط الحزن البشري والتضامن مع الـمتألـمين والأرواح الـمكسورة، بصرف النظر أكانوا عمالاً أم فقراء أم أغنياء أم ملوكًا، لـم تجبره الـمؤسسة التي عمل فيها لسنوات على أن يكون جزءًا من طبيعتها التي تشجع على الكسل والتآمر والنميمة، عجزت عن أن تصنع منه متلونًا وشتامًا ومقاولًا كما تصنع عادة هذه الـمؤسسات في العالـم العربي من موظفيها. من أجل كل ذلك نحن نحب هذه الظاهرة، هذا الرجل، خصوصًا في مرحلة هذه الصحراء الـمسماة ثقافة.
محمود شقير في سطور.
مواليد جبل المكبر/ القدس 1941
أصدر العديد من المجموعات القصصية والروائية.
حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع- جامعة دمشق 1965
نائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الهيئة الإدارية للرابطة لمدة عشر سنوات 1977-1987.
عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين 1987-2004.
عضو المجلس الوطني الفلسطيني 1988 - 1996.
رئيس تحرير صحيفة الطليعة المقدسية الأسبوعية 1994-1996.
مشرف عام مجلة دفاتر ثقافية الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية 1997 - 2000 .
محرّر الشؤون الثقافية في مجلة صوت الوطن الصادرة في رام الله 1997 -2002.
ابتدأ الكتابة سنة 1962 ونشر العديد من قصصه القصيرة في مجلة الأفق الجديد المقدسية.
عمل محرّرًا للشؤون الثقافية في صحيفة الجهاد المقدسية، ثم القدس 1965 _ 1967.
عمل في صحيفة الرأي الأردنية محرّرًا لشؤون الأرض المحتلة 1978-1980.
عمل في صحيفة الرأي الأردنية كاتبًا لمقالة أسبوعية 1991-1993.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«القاهرة الإخبارية»: 12 شهيدا في غارة إسرائيلية على مدينة رفح الفلسطينية
قال مراسل قناة «القاهرة الإخبارية»، إن هناك 12 شهيدا جراء الغارات الإسرائيلية على مدينة رفح الفلسطينية، جنوبي قطاع غزة منذ فجر اليوم.