لجريدة عمان:
2025-03-10@18:17:50 GMT

أزمنة محمود شقير.. القاص الإنسان

تاريخ النشر: 7th, February 2024 GMT

أزمنة محمود شقير.. القاص الإنسان

طيلة أسبوع كامل، وأنا غارق في أزمنة الأستاذ محمود شقير، أحب هذا القاص المهم، الذي شكلت تجربته علامة فارقة في القصة الفلسطينية، على يديه نمت ونهضت تجارب قصصية كثيرة في العالم العربي، شخصيا، أخذت منه الكثير من التقنيات، وسأكون قويًا حين أعترف أني سرقت في مجموعاتي الأولى بعضا من أجوائه، كما اعترف بعض أصدقائي من الساردين بأنهم نهبوا لغة شقير المحيرة اللذيذة، المقيمة في بيت خاص بين الشعر والسرد، وكانت مجموعته الأولى مصدر نهب لجيل فلسطيني كامل، (خبز الآخرين)، أتذكر هوسنا بفضائها وشخوصها، ونقاشاتنا من خلالها حول علاقة الفن بالأم الفلسطينية الاجتماعية، وكان حزننا كبيرًا على مصائر أبطالها، ولن أنسَ مجموعة (طقوس المرأة الشقية) التي هزت الوسط السردي الفلسطيني، بأسلوبها اللغوي وشذريتها، ومضامينها.

هذه المجموعة هي التي حفزتني على كتابة بعض القصص القصيرة جدًّا، لكني لم أتقنها وعدت إلى القصيرة، مكللا بفشل مفيد وحب كبير للأستاذ.

عام 2022 صدر للقاص شقير عن دار نوفل في بيروت سيرة ذاتية مهمة جدًّا: (تلك الأزمنة)، سيل من الذكريات مصاغة بطريقة سردية ممتعة، المدن والأصدقاء والحياة بكليتها، محمود شقير ليس قاصا مبدعا فقط، هو يمتلك شخصية إنسانية ساحرة، وغريبة، سأتحدث عنها بالتفصيل.

في مرحلة خواء الثقافة الفلسطينية، (والـمخترة) الثقافية واستخدام الـمناصب والـمواقع الحزبية والعائلية والـمؤسساتية والشللية لإقصاء الآخرين واغتصاب اسم وروح الثقافة، زمن تغيير الوجوه، والاتجاهات، عبادة الذات الـمبدعة، منهج تحطيم إنجازات الآخرين، الدس بينهم، العيش على خلافاتهم، التعامل مع الأدباء وكأنهم قطعان من الخرفان، التوسل للنقاد من أجل الكتابة عن الأعمال الأدبية، زمن النصوص السريعة الـمليئة بالدهون والشحوم في مطاعم ومطابخ (النت)! تزداد صورة القاص محمود شقير لمعانًا ورقيًا ومصداقيةً وشفافيةً، هذا الرجل -الأمل، لن يتجادل معي أحد حول نزاهته وصدقه في الكتابة كما صدقه في الحياة، الـمثقف في فلسطين لا يحب أن يسمع مديحًا لأحد من زملائه إلاّ إذا كان هو نفسه هذا الـممدوح، لكن، هناك إجماع بين مثقفي فلسطين على استحقاق هذا الـمبدع الـمديحَ دائمًا، لماذا إذًا نجا هذا القاص الهادئ من دوامات الحسد والنميمة والتشويه؟ بإمكان الحديث عن شقير أن يصبح ذريعةً للحديث عن أمراض الحياة الثقافية الفلسطينية وتشوهاتها، كما يصلح الحديث عن هذه الأمراض أن يكون ذريعةً للحديث عن محمود الإنسان والـمبدع، فكلما رأيت سلوكًا مريضًا لمثقف فلسطيني؛ أتذكر فورًا محمود شقير، وأقول: يا ألله، كم هو واحتنا هذا الرجل!، الحديث لا يدور هنا عن شخص عاديٍّ، بل عن ظاهرةٍ ضائعةٍ متمثلةٍ في سلوك وروح شخصٍ يعيش بيننا، ولكننا، غالبًا، لا ننتبه إليه؛ لأننا مشغولون بسبّ الآخرين، والتّرويج لـما نكتب، لـماذا أنا من الـمتحمسين لنظرية تجنّب الاحتكاك بالأدباء والفنانين الـمبدعين الفلسطينيين؟، الذين نحب كتاباتهم، تجنّب رؤيتهم والحديث معهم؛ لأن مجرد رؤيتهم والاستماع إلى نبرات أصواتهم، يسقطان منّا الإحساس بملائكيتهم، يكسران أبعاد الكريستالة اللامعة التي ربتها فينا نصوصهم الـمدهشة. تذكروا كيف نشعر حين نتعرّف عن قرب إلى بعض ممّن نحب من الـمبدعين: لا، لا، ليس هذا من أقرأ له، هناك خطأ ما!!. لكن ذلك ليس خطأ هؤلاء الأدباء؛ إنها طبيعة الأشياء، سنتها، لا إدانة هنا لهم، بل توصيف للحالة، الاستثناء هو حالات غريبة معذبة قدّر لها أن تلتحم فيها نصوصهم بحيواتهم كما تلتحم شقتا البرتقالة قبل شقها إلى نصفين، مبدعون كثر، روائيون وروائيات، رسامون ورسامات، شعراء وشاعرات، مخرجون ومخرجات، أحببت شخصيًا أعمالهم، عشتها، تعلـمت منها، بنيت عليها كما تبنى كل نصوص العالـم على ما سبقها من نصوص، بعضها شكّل مفارق ومفاصل في تجربتي القصصية، وربى داخلي ذلك الحيّز الـمقدّس الغامض الحلو من النقاء والألوهة، وذوبان الزمن، واتحاد الأمكنة، وبريق جوهر التاريخ الإبداعي البشري وخلاصاته، لكن بمجرّد رؤيتهم انتهى كل شيء، كل شيء، بالطبع ماعدا قلة -أبرزهم محمود شقير- متناثرين هنا وهناك غير قادرين على التـأثير في الوضع الثقافي، حين نقرأ نصوص محمود القصصية نرى وجهه ونسمع صوته، وحين نراه ونسمع صوته نقرأ نصوصه، أعترف بأن هذا النوع من الأدباء يسبب لي الارتباك، والألـم، الارتباك؛ لأنني أكون في حضرة الحيز الـمقدس نفسه، سائلًا إلى الخارج بكل خلوده وعمقه وحرارته وطزاجته؛ فمن الخارق وغير الطبيعي أن تتمرأى النصوص واللوحات والقصائد والروايات والأغاني على شكل إنسان يتحرك ويبتسم ويشرب أمامنا القهوة، ذلك يشبه أمنية بعيدة الـمنال، والألـم؛ لأن عليّ أن أحصل على هذا الكائن ليبقى بجانبي دومًا يزودني بالإلهام ويعطيني الأمل. إن مفارقته تشبه مفارقة قدرة خارقة حصلنا على سرها. من منا -في لحظات تعال تافهة- لـم يهاجم أعمال الكبار؛ لأنهم لـم يمسوا شغاف أرواحنا بأعمالهم كما ندعي؟ محمود شقير كانت له زاوية نظر أخرى.

في جلسة صغيرة كنت حاضرًا فيها ذكر أحدهم اسم الروائي أمين معلوف؛ فتمادى الجالسون في مديح رواياته، إلاّ محمود شقير، فقد تحدث عن عدم قدرته على مواصلة قراءة معلوف، ليس لأن أدب معلوف ضعيف أو ركيك، كما قال، بل لأن الخلل في داخله؛ لأنه لا يميل إلى الرواية التاريخية. هذا تفسير صادق وحقيقي يليق بروح عالية، روح استثنائية منسجمة مع جزئياتها بصورة محيّرة، من الفلسطيني الذي يجرؤ على مواجهة نفسه وتعريتها؟

وفيًا ومخلصًا ظل محمود شقير لفن القصة القصيرة، الـمعزولة عالـميًا والنابضة في بطن حوت، عزلته الرائعة في القدس الـمعزولة هي الأخرى زادت حضوره داخلي وعند من يعرفه نورًا على نور..

لـماذا يعشق أبو خالد خليل السكاكيني الذي عاش معزولاً؟ لـماذا يطارد شبحي ابنتيه دمية وهالة في أزقة القدس؟ لأن محطات حياة ومبادئ ومواقف السكاكيني تشبه إلى حد كبير حياة ومشاعر ومواقف محمود: صدقه مع الذات، تقديسه الحرية،إيمانه بالإنسان وقدراته، تعففه عن الـمصالح الشخصية والـمناصب، كرهه الـمنافقين، وطنيته العالية، التي لا تتعارض مع كونيته الـمتقدة، علـمانيته وحماسه للحوار والتعددية وانفتاحه على الآراء الأخرى، عدم رضاه عن تخلف ذهن البلاد مع انتمائه الهائل لقضية هذه البلاد. حزنه الوجودي، ثقافته العالية. لـم ير محمود العالـم بعيني الحزب الضيقة الواثقة والـمقولبة، بل رآه بعيني الفن الـمتشككة والـمعقدة والعميقة والفاحصة والشمولية، فترى أن الثيمة الأساسية في كل أعماله هي التقاط الحزن البشري والتضامن مع الـمتألـمين والأرواح الـمكسورة، بصرف النظر أكانوا عمالاً أم فقراء أم أغنياء أم ملوكًا، لـم تجبره الـمؤسسة التي عمل فيها لسنوات على أن يكون جزءًا من طبيعتها التي تشجع على الكسل والتآمر والنميمة، عجزت عن أن تصنع منه متلونًا وشتامًا ومقاولًا كما تصنع عادة هذه الـمؤسسات في العالـم العربي من موظفيها. من أجل كل ذلك نحن نحب هذه الظاهرة، هذا الرجل، خصوصًا في مرحلة هذه الصحراء الـمسماة ثقافة.

محمود شقير في سطور.

مواليد جبل المكبر/ القدس 1941

أصدر العديد من المجموعات القصصية والروائية.

حاصل على ليسانس فلسفة واجتماع- جامعة دمشق 1965

نائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الهيئة الإدارية للرابطة لمدة عشر سنوات 1977-1987.

عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين 1987-2004.

عضو المجلس الوطني الفلسطيني 1988 - 1996.

رئيس تحرير صحيفة الطليعة المقدسية الأسبوعية 1994-1996.

مشرف عام مجلة دفاتر ثقافية الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية 1997 - 2000 .

محرّر الشؤون الثقافية في مجلة صوت الوطن الصادرة في رام الله 1997 -2002.

ابتدأ الكتابة سنة 1962 ونشر العديد من قصصه القصيرة في مجلة الأفق الجديد المقدسية.

عمل محرّرًا للشؤون الثقافية في صحيفة الجهاد المقدسية، ثم القدس 1965 _ 1967.

عمل في صحيفة الرأي الأردنية محرّرًا لشؤون الأرض المحتلة 1978-1980.

عمل في صحيفة الرأي الأردنية كاتبًا لمقالة أسبوعية 1991-1993.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الثورة الفلسطينية الكبرى.. يوم قام القسام ضد الإنجليز والمنظمات الصهيونية

ثورة بدأت عام 1936م وامتدت حتى 1939م. اندلعت في منتصف أبريل/نيسان بعدما هاجم أتباع الشيخ عز الدين القسّام قافلة شاحنات بين مدينتي نابلس وطولكرم، وقتلوا سائقين يهوديين، فردت منظمة الإرغون الصهيونية في اليوم التالي بقتل عاملَين فلسطينيين قرب قرية بيتح تكفا.

وتلت ذلك اضطرابات دامية في تل أبيب ويافا فانطلقت بذلك "الثورة الفلسطينية الكبرى"، التي استمرت 3 أعوام، وتعاضد فيها الأعيان والنخب مع الفلاحين والبسطاء من أهل الريف.

الظروف التاريخية للثورة الفلسطينية الكبرى

مهدت عدة أحداث وتطورات الطريق لهذه الثورة، فقد كانت فترة الثلاثينيات من القرن الـ20 في فلسطين -كما في غيرها من البلدان- فترة اضطراب اقتصادي شديد، وفيها أصاب الفلسطينيين في الريف ضرر كبير نتيجة عمليات نزع ملكيتهم وتراكم الديون عليهم، جرّاء سياسات سلطات الانتداب البريطاني المشجعة لجهود المنظمات الصهيونية لشراء الأراضي بالإكراه.

وملأت الهجرة من الريف إلى الحضر حيفا ويافا بالفلسطينيين الفقراء الباحثين عن عمل، فبرزت أشكال جديدة من التنظيمات السياسية التي ركّزت على الشباب والفئات الاجتماعية الشعبية بدل الأشكال القديمة القائمة على النخب، كما أدى تزايد العداء لليهود في أوروبا إلى زيادة هجرتهم إلى فلسطين.

ونتجت عن تلك التطورات والأحداث اضطرابات دورية، ابتداء بثورة البراق سنة 1929، ثم اندلاع المظاهرات في العديد من مدن فلسطين ضد الانتداب البريطاني عام 1933.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1935، تم اكتشاف كمية من الأسلحة شُحنت لحساب منظمة الهاغاناه في ميناء يافا، مما أجّج المخاوف الفلسطينية، خاصة وأن الهجرة اليهودية بلغت ذروتها، ففي الفترة من 1933 إلى 1936 وصل أكثر من 164 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين، وبين 1931 و1936 زاد عدد السكان اليهود أكثر من الضعف من 175 ألفا إلى 370 ألفا، وانتقلت نسبتهم من 17% إلى 27% من مجموع السكان.

إعلان

وفي عام 1930، أسس الشيخ عز الدين القسام منظمة "الكف الأسود"، المناهضة للصهيونية وللسياسات الاستعمارية البريطانية، وجنّد الفلاحين والعمال وأقام لهم دورات تدريبية عسكرية.

وبحلول عام 1935 كان قد جند المئات، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه اشتبك اثنان من رجاله بالأسلحة النارية مع دورية للشرطة البريطانية وقتلوا شرطيا.

وفي أعقاب هذه الحادثة طاردت الشرطة القسّام، وحاصرته في كهف بالقرب من قرية يعبد ومعه 10 من أنصاره، فرفض الاستسلام، وبعد قتال من الصباح حتى العصر استشهد الشيخ برصاصة في جبينه، واستشهد معه 3 من رفاقه، وأصيب اثنان منهم وأسر الباقون.

وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، خرج الآلاف في جنازة كبيرة لتشييع عز الدين القسام ورفاقه الثلاثة، وأطلقت الدعوات لمتابعة نهجهم والسير على منوالهم، وبقيت تتوالى حتى اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في أبريل/نيسان 1936.

ويعد عبد القادر الحسيني أول من بدأ قيادة الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 بحشده رجال المقاومة في كل الأراضي لمواجهة الاحتلال، وقد استشهد في الثامن من أبريل/نيسان 1948 وهو يخوض معركة تحرير قرية القسطل الإستراتيجية المشرفة على طريق القدس يافا.

مراحل الثورة الفلسطينية الكبرى

مرت الثورة الفلسطينية الكبرى بـ3 مراحل:

المرحلة الأولى

بدأت من ربيع عام 1936 وحتى يوليو/تموز 1937، وهي مرحلة اشتعال الثورة بعد تأجج التوترات في فلسطين وتراكمها منذ خريف 1935.

ففي منتصف أبريل/نيسان 1936، هاجم أتباع القسّام قافلة من الشاحنات بين نابلس وطولكرم وقتلوا سائقين يهوديين، فردت منظمة الإرغون في اليوم التالي بقتل عاملَين فلسطينيين بالقرب من بيتح تكفا، ثم تلت ذلك اضطرابات دامية في تل أبيب ويافا.

وفي 19 أبريل/نيسان، شُكّلت في نابلس لجنة وطنية اتُّفق فيها على إعلان الإضراب، كما شُكلت لجان وطنية في مدن أخرى دعت بدورها إلى الإضراب.

إعلان

وفي 25 أبريل/نيسان، تم تشكيل اللجنة العربية العليا من رؤساء الأحزاب الخمسة، و5 آخرين من رجالات البلاد. وكان أعضاء اللجنة هم: الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي وأحمد حلمي عبد الباقي والدكتور حسن الخالدي ويعقوب فراج وعوني عبد الهادي وعبد اللطيف صلاح وألفرد روك وجمال الحسيني ويعقوب الغصين، وانتخب أمين الحسيني رئيسا لتنسيق ودعم إضراب وطني عام انطلق في الثامن من مايو/أيار وشلّ النشاط التجاري والاقتصادي في فلسطين 6 أشهر.

وفي تلك الأثناء كان الفلسطينيون في أنحاء الريف كافة يشكّلون مجموعات مسلحة لمهاجمة أهداف للسلطات البريطانية والحركات الصهيونية المسلحة، وكان عملهم في البداية عفويا ومتقطّعا، ثم انتظم بعد ذلك بشكل متزايد، وانضم إليه متطوعون عرب من خارج فلسطين، وإن بأعداد قليلة.

واستخدم البريطانيون أساليب وتكتيكات مختلفة لوقف الإضرابات وقمع العصيان المسلّح في المناطق الريفية، وزادوا أعداد رجال الشرطة البريطانيين واليهود، وتعرّضت المنازل للتفتيش والمداهمات الليلية، وأهلها للضرب والسجن والتعذيب والترحيل.

ووصل القمع البريطاني إلى حد هدم أحياء واسعة في مدينة يافا القديمة، وتزامنت تلك العمليات العسكرية والتدابير القمعية مع إرسال الحكومة البريطانية لجنة برئاسة اللورد بيل للتحقيق في الأسباب الجذرية للتمرد.

وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول 1936، وتحت وطأة ضغوط السياسات القمعية البريطانية، وضغوط بعض الملوك والأمراء العرب من خلال وعود وتطمينات، وكذا العواقب الاقتصادية للإضراب على السكان الفلسطينيين، أوقفت اللجنة العربية العليا الإضراب ووافقت على التعاون مع لجنة بيل.

بدأت لجنة بيل عملها، وانخفضت التوترات مؤقتا، وبعد إعلان نتائج تحقيقها، الذي صدر في يوليو/تموز 1937، أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة لليهود وأخرى للعرب، فثار الشعب الفلسطيني مجددا وأطلق تمردا مسلّحا أكثر شدة من سابقه، وبدأت المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية.

إعلان

المرحلة الثانية

وامتدت من يوليو/تموز 1937 إلى خريف 1938، وحققت فيها الثورة مكاسب كبيرة، إذ سيطرت على مساحات شاسعة من الأراضي الجبلية، بما في ذلك البلدة القديمة في القدس لفترة من الزمن، فأحلوا فيها مؤسسات وطنية محل تلك التي كانت تابعة للانتداب البريطاني، مثل المحاكم وخدمة البريد وغيرها.

وكان حادث اغتيال لويس يلاند أندروز -حاكم لواء الجليل- على يد جماعة القسام يوم 26 سبتمبر/أيلول 1937 المؤشر البارز على بدء المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية.

وقد اعتبر مقتل أندروز صدمة كبيرة للسلطات البريطانية، إذ كان أول اغتيال لشخصية مدنية كبيرة، واعتبر إعلانا صريحا للثورة ضد الحكم البريطاني.

فما كان من البريطانيين إلا أن اتخذوا تدابير أشد قسوة في محاولة لسحق الثورة، فأعلنت سلطة الانتداب عدم شرعية اللجنة العربية العليا والأحزاب السياسية الفلسطينية كافة، وألقت القبض على القادة السياسيين والأهليين، ونفت عددا من الشخصيات العامة رفيعة المستوى.

كما لجأت إلى تصعيد الوسائل العسكرية لمكافحة التمرد، فنشرت الدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة في جميع أنحاء فلسطين، وطبّقت العقاب الجماعي في حق الفلسطينيين، فزجّت بآلاف منهم في "معسكرات الاعتقال"، كما دمرت أحياء سكنية وأغلقت مدارس وغرمت قرى بشكل جماعي وأجبرتها على إيواء الشرطة والقوات البريطانية.

وأمام هول ما كان يحدث للشعب الفلسطيني، استفادت المنظمات العسكرية الصهيونية من الوضع لبناء قدراتها بدعم بريطاني، وبحلول أوائل سنة 1939 حصل 14 ألف رجل من "شرطة المستعمرات اليهودية" على الدعم والزي الرسمي والسلاح من الحكومة البريطانية.

وكانت منظمة الهاغاناه تعمل خلف تلك الواجهة، إضافة إلى ما يسمّى الوحدات الليلية الخاصة المشكَّلة من يهود وبريطانيين، وكانت تنفذ "عمليات خاصة" ضد القرى الفلسطينية.

إعلان

المرحلة الثالثة

واستمرت تقريبا من خريف 1938 حتى صيف 1939، إذ كان البريطانيون قد عينوا في يناير/كانون الثاني 1938 لجنة تحقيق أخرى بقيادة السير جون وودهيد لدراسة الجوانب الفنية لتنفيذ التقسيم.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1938، خلص تقرير لجنة وودهيد إلى أن التقسيم ليس عمليا، مما جعل البريطانيين يتراجعون بعض الشيء عن توصية بيل، إلا أنهم أطلقوا في الوقت ذاته هجوما شاملا على الفلسطينيين، فشهد عام 1939 قتل المزيد منهم وإعدام المزيد شنقا واعتقال ما يقارب ضعفي عدد معتقلي سنة 1938.

وقد فرضت هذه الأوضاع ضغوطا هائلة على الثوار الفلسطينيين، مما أدى إلى تفاقم الخلافات بين قادة اللجنة العربية العليا من السياسيين المنفيين إلى دمشق وبين القيادة المحلية، ومن جهة ثانية بين مجموعات الثوار وسكان القرى الذين كان من المتوقع أن يدعموهم.

ووقع الخلاف بشكل أساسي بين الفلسطينيين المستعدين للتوصل إلى تسوية مع البريطانيين وأولئك الملتزمين بالثورة، وتم تشكيل ما سمّي "فرق السلام" الفلسطينية بدعم بريطاني لمحاربة أنصار الثورة.

وفي مايو/أيار 1939 نشرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض الجديد الذي نص على "الوفاء بالتزامات بريطانيا تجاه فكرة الوطن القومي لليهود، واستمرار السماح بهجرة 75 ألف يهودي جديد إلى فلسطين في الأعوام الخمسة التالية، واستحواذ اليهود على الأراضي فيها (وهما بندان يتعارضان مع التزامات بريطانيا تجاه الفلسطينيين).

كما نص الكتاب الأبيض على أنه "بعد انقضاء السنوات الخمس تصبح الهجرة اليهودية خاضعة للموافقة العربية ويسمح بنقل ملكية الأراضي في مناطق معينة فقط، فيما تكون العملية مقيدة ومحظورة في مناطق أخرى، وذلك لمنع حرمان الفلسطينيين من الأراضي، ويتم إنشاء دولة موحدة مستقلة بعد 10 سنوات، مشروطة بعلاقات فلسطينية يهودية مواتية".

إعلان

وفي أواخر صيف 1939، أوصلت الجهود البريطانية العسكرية والدبلوماسية المشتركة، الثورة إلى نهايتها، وفي السنوات الثلاث للثورة قُتل حوالي 5 آلاف فلسطيني وجُرح ما يقارب 15 ألفا، إضافة إلى نفي القيادات الفلسطينية واغتيالها وسجنها وتأليب بعضها ضد بعض.

أما خسائر الإنجليز، فكانت مقتل 16 رجل شرطة و22 جنديا وجرح 10 رجال شرطة و148 عسكريا ومقتل 80 يهوديا وجرح 308 آخرين.

أبرز معارك الثورة الفلسطينية الكبرى معركة نور شمس: وقعت يوم 23 مايو/أيار 1936. معركة عنبتا: وقعت يوم 21 يونيو/حزيران 1936. معركة وادي عزون: وقعت يوم 28 يونيو/حزيران 1936. معركة الفندقومية: وقعت يوم 30 يونيو/حزيران 1936. معركة باب الواد: وقعت يوم 29 يوليو/تموز 1936. معركة رأس عامر: وقعت في الثالث من أغسطس/آب 1936. معركة صفد: وقعت في التاسع من أغسطس/آب 1936. معركة بلعا الأولى: وقعت في العاشر من أغسطس/آب 1936. معركة عصيرة الشمالية: وقعت يوم 17 أغسطس/آب 1936. معركة وادي عرعرة: وقعت يوم 20 أغسطس/آب 1936. معركة عين دور: وقعت يوم 29 أغسطس/آب 1936. معركة بلعا الثانية: وقعت في الثالث من سبتمبر/أيلول 1936. معركة الجاعونة: وقعت في التاسع من سبتمبر/أيلول 1936. معركة ترشيحا: وقعت في التاسع سبتمبر/أيلول 1936. معركة حلحول: وقعت يوم 24 سبتمبر/أيلول 1936. معركة جبع: وقعت يوم 24 سبتمبر/أيلول 1936. معركة بيت مرين: وقعت يوم 29 سبتمبر/أيلول 1936. معركة الخضر: وقعت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1936. معركة كفر صور: وقعت في التاسع من سبتمبر/أيلول 1936.

مقالات مشابهة

  • الدراما الرمضانية والقضية الفلسطينية المنسية
  • الاستيطان في الضفة الغربية.. تعزيز السيطرة على الأرضي الفلسطينية
  • الصحة الفلسطينية: ارتفاع حصيلة الشهداء فى قطاع غزة إلى 48467 شهيدًا
  • برنامج تراحموا ..حكايات اليمنيين المتعففين في أسوأ أزمنة الحياة
  • أمريكا تندد بالمجازر التي حدثت في الساحل السوري
  • الثورة الفلسطينية الكبرى.. يوم قام القسام ضد الإنجليز والمنظمات الصهيونية
  • شيخ الأزهر: التاريخ سيقف طويلًا وهو يحني الرأس للمرأة الفلسطينية التي تشبثت بوطنها
  • أزمنة الكرب وبعثرة الأوطان (٤٨)
  • محسن عثمان: القضية الفلسطينية اختبار لضمير الإنسان
  • مرشح لخلافة محمود عباس.. من هو ماجد فرج رئيس جهاز الاستخبارات الفلسطينية؟