مستوى آخر من القمع.. حداد محرم للفلسطينيين في إسرائيل على أقاربهم بغزة
تاريخ النشر: 7th, February 2024 GMT
أن تعيش في مجتمع يحكمه التمييز ضدك أمر تعوده فلسطينيو إسرائيل لعقود، لكن أغلبهم لم يتوقع أن يُحرم يوما من حق بكاء أقاربه في غزة، وذلك حسب ما كتبته سماح سلايمة في موقع "سيحا ميكوميت" العبري في تقرير بعنوان "طبقة أخرى من الاضطهاد.. الحداد المقموع للمواطنين الفلسطينيين"، الذين اختار بعضهم التواري بحزنه واختار آخرون إعلانه على الملأ.
عدد القتلى في غزة ناهز 30 ألفا (من دون احتساب المفقودين). إنه الجحيم الذي اختار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أن يترك عليه بصمته -كما تقول سماح سلايمة- عندما كتب رسالة على قذيفة قبل إطلاقها في أعياد الميلاد الماضية، لتكون هدية سانتا كلوز لأطفال القطاع.
كل الكلمات القاسية مثل "مجزرة" و"تطهير عرقي" لا تعكس الألم في الصور الحقيقية القادمة من هناك: جثث الأطفال في أكياس بيضاء لطخها الدم، والرجال يبكون أمام صفوف طويلة من الموتى قبيل دفنها.
سلايمة: الحداد عن بعد في وسط معادٍ لا يسمح لك حتى بالتعبير عن نفسك ثقيل على الروح (الأناضول) بلا جثة أو حدادوتضيف سماح أن مراسم الدفن في غزة لم تعد متاحة أصلا، فأيام الحداد الثلاثة انقلبت 124 يوما من حداد عظيم متواصل.
وتقول أيضا إن الأمر ما دام عن بعد، فإنه يؤلمك عن بعد، فهي في النهاية فظاعات على شاشة تلفاز، أما وقد تعلق بأقارب تعرفهم، فإن الحداد عن بعد في وسط معادٍ لا يسمح لك حتى بالتعبير عن نفسك يثقل على الروح أيّما إثقال، وتشير إلى ألوف من فلسطينيي مدن وسط إسرائيل -خاصة الرملة واللد ويافا- ممن لهم أقارب في غزة (من الدرجة الأولى في أحيان كثيرة) الذين عاشوا هناك لسنوات، ولا يتواصل أغلبهم مع بقية عائلاتهم إلا عن بعد، ولم يلتقوا كثيرا، إلى أن جاءهم الخبر المشؤوم.
تلتقي سماح سلايمة أحد هؤلاء واسمه عادل (اسم مستعار)، وهو من مواليد غزة ويعيش في إسرائيل منذ 20 عاما. وبلغه على تطبيق واتساب بعد 3 أيام خبرُ مقتل أخيه الذي التقاه آخر مرة قبل 15 عاما.
يقول عادل: "رحمه الله، استطعنا انتشاله من بين الأنقاض، وكانت الجثة سليمة. فلنصلّ لله لتنجوَ بقية العائلة".
لكن أنَّى له استكمال حداده وإسرائيل تضطهد كل متعاطف مع ضحايا غزة؟
خشي عادل أن تطلبه السلطات بعدما أعلن نبأ مقتل أخيه.
أما زوجته مريم (اسم مستعار) فتقول "لم أتعرف على صهري كفاية، لكن أخاه ترعرع معه، ولم يعد يدري ما عليه فعله؛ يستيقظ باكيا في الليل، ويجلس وحده ساعات في غرفة الضيوف لا يملك حتى الصراخ؛ لقد انهار عصبيا".
وحسب مريم، فإن زوجها يريد فهم ما جرى بالضبط ليلة قصف بيت أخيه وعائلته، ويفتش في الفيديوهات وفي هواتف الأقارب والجيران، لكنه يخشى مشاركة آخرين بحثه.
فقد قالوا له إن الجثة ظلت تحت الأنقاض أياما إلى أن أخرجها أحدهم، ولم يتعرفوا عليها، وكان على المستشفى التواصل مع الجيران، وحتى حينها لم يجرؤ أحد على الذهاب للتعرف عليها. فقط حين قرر المستشفى دفن الجثمان في حديقته الخلفية -حيث يرقد من لم يأتِ أقاربهم لدفنهم- فإن شابا من العائلة قام بالمهمة وعاد بالجثة.
حداد افتراضيوتضيف مريم أن العائلة لم تجرؤ على نشر النبأ المشؤوم في مجموعات واتساب، وهكذا "نظهر بشرا عاديين من الخارج، وعلينا الامتناع عن إبداء أي شعور خشية أن يحسبونا على حماس، لكن البيت يكتنفه من الداخل شعور رهيب بالضياع".
غير أن مريم تدبرت في النهاية الأمر بطريقتها عبر مراسم حداد بديلة؛ فقد دعت الأقارب والأصدقاء المقربين إلى عشاء صدقة على روحه، ووزعت هدايا تذكاريه باسمه، ثم صلى الجميع "صلاة الجنازة" كما لو كانت الجثة أمامهم، وحينها فقط "تحسن حال عادل وأحس بأنه فعل شيئا من أجل أخيه، وهاتف أخاه الثاني في الخارج وشاركه مراسم الصلاة عن بعد، وأعادت إليه الصلاة الافتراضية بعض الطمأنينة".
وهكذا هم أقارب عائلات غزة في إسرائيل؛ يتسترون على حدادهم كما تقول سماح سلايمة، وعليهم تدبر طقوس بديلة من دون أن يستطيعوا تجهيز الجثة على الطريقة الإسلامية والصلاة عليها في المسجد وحملها في جنازة إلى المقبرة، أو حتى تقديم تمر وقهوة للمعزين ومشاركة الخبر في منشور على فيسبوك.
وتساءلت سماح: كيف للمرء أن يعلن حداده وهو يعيش في مجتمع إسرائيلي، وعليه في الوقت نفسه التخفيف من أي روابط محتملة مع غزة؟
"أما من رسالة تعزية؟"
تلك أيضا حال شيرين عساف المساعدة الاجتماعية من اللد التي سمعت من قناة الجزيرة خبر مقتل صهرها الدكتور رائد مهدي بعد قصف مستشفى المهدي في مدينة غزة.
وقالت شيرين "بعد أيام عصيبة هاتفتني ابنة أختي من الولايات المتحدة (حيث تعيش) وقالت لي: الله يرحمه، تعازي. سألتها: من؟ قالت: أختك إيمان وزوجها رائد وأطفالهما السبعة كلهم قضوا في قصف المستشفى".
"أحسست أن العالم خنجر غرز فيّ، لم أصدق، كنت واثقة من أن أحدهم سيُنتشل من تحت الأنقاض، وجار أختي استطاع أن يتواصل معي وأخبرني أنه جمع الجثث".
وتضيف شيرين "كنت في طريقي إلى المطار نحو كندا حيث يعيش أبواي وأخواي، وبعد أسبوعين هناك أُبلغت أنهم استطاعوا دفنهم. لم يصدق أبواي وأخواي أن كل العائلة قد رحلت إلى أن تسلموا سجلات الدفن. وفي كندا أجرينا مراسم دفن عن بعد، وبدل الجثث التسع صلينا وراء 9 صور، وفتحنا سرادق عزاء، وجاء مئات الفلسطينيين من تورنتو وعموم كندا لمواساتنا".
وتقول شيرين إن إحاطتهم بهذا الشكل في كندا خفف عنهم الوحدة قليلا، لكنها لم ترغب بالعودة إلى إسرائيل في البداية، فـ"طلبتُ من زوجي أن يرجع وحده؛ فمن ذا يستطيع العيش بين من قتل أخته وزوجها وأطفالهما السبعة؟!"
لكنها عادت في النهاية، وأعلنت الحداد على شبكات التواصل الاجتماعي، ووثقته بالصوت والصورة. "نصحوني بالتستر على الأمر ومحو ما نشرته خشية اعتقالي مثل كثيرين غيري، لكنني لم أعبأ، ولمَ أبالي وقد أُزهقت 9 أرواح؟!".
وما كانت شيرين لترضى بمجرد حداد معلن، بل قطعت شوطا إضافيا؛ راسلتْ دائرة الموارد البشرية في إدارة الخدمات الصحية حيث تعمل، وأبلغتهم ببالغ استنكارها لتجاهلهم رسالة التعازي التي يتلقاها الموظف عادة عند فقد قريب، فقد "كانت تلك الرسالة طريقتي ليلتئم جرحي، فأنا بشر أشتكي وأتنهد، حتى كفلسطينية يُقصفُ أهلها". وظلت الرسالة بلا رد!
قناع ليوم عاديوهناك أيضا عبير (اسم مستعار) المعلمة في مدينة اللد التي قُتلت خالتها في غزة، واختارت ألا تخبر أمها المريضة بالخبر، فـ"فلا نملك من الأمر شيئا؛ لا تواصل ولا جنازة ولا سرادق عزاء. فلمَ سأخبرها إن كانت ستبقى وحيدة مع ألمها، سأخبرها عندما تنتهي الحرب". وتركت أمها مع حدادها على غزة كلها.
تقول عبير "كل يوم أرتدي قناع الحياة العادية وأذهب إلى العمل، أعرف أن ذلك يضر صحتي، وأن هذا الإنكار والهروب من الواقع ستدركني آثاره لكنني لست صلبة كفاية الآن لتحمل المزيد من الألم".
وحسب اختصاصية علم النفس العيادي والباحثة في مجال الثُكل الدكتورة هند إسماعيل، فإن تحضير الميت للدفن ومراسم الجنازة وما يتبعهما من سرادق عزاء وغير ذلك من طقوس أساسية لمواجهة كارثة الموت؛ من الحقوق الأساسية لأهل الميت، "لكن فلسطينيي إسرائيل سُلبوا هذا الحق الأساسي، وحقّ توديع الأب والأم والأخ والأخت، وما زال الجرح لم يلتئم، والألم سيعود ليطفو بصورة أو بأخرى في المستقبل القريب أو البعيد".
وتسمي هند إسماعيل هذه الظاهرة "الصدمة المؤجلة"، وتقول إن آثارها وخيمة على العقل، وبينها القلق والاكتئاب والشعور بالذنب، وهي تضعف أيضا مناعة الجسم أمام أمراض مثل السكري ونوبات القلب التي قتلت عام 2014 سيدة بلغها خبر مقتل أمها في غزة.
وتضيف اختصاصية علم النفس العيادي "لقد أضيفت طبقة أخرى إلى طبقات الاضطهاد الذي ينال المواطنين العرب ممن يبكون أقاربهم، بل إن هذا الثّكل في المجتمع الإسرائيلي أمر مرغوب ومستحق".
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية ضيف شرف صالون الحداد الثقافي "حول دور الفتوى في تحصين الأفكار"
استضاف صالون الحداد الثقافي عددًا من المفكرين، وعلى رأسهم ضيف الشرف الأستاذ الدكتور نظير محمد عيَّاد مفتي الجمهورية ورئيسُ الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، وألقى فضيلتُه كلمةً عن الفتاوى وتحصين الأفكار.
وقال المفتي عن تحصين الأفكار والفتاوي عددًا من المحاور كان من أبرزها:
- حديث عن قيمة العقل في الإسلام، وأبرز من خلال هذا المحور حديث الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية، تميُّز الخطاب القرآني في تعامله مع العقل؛ مقارنةً بغيره من النصوص الدينية الكبرى، وذكره في سياقات تُعلِي من قدره وقيمته، وتُوجب العمل به، دون أن تكون الإشارة إليه عابرةً أو مُقتضبة، ثم استشهد فضيلته بعدد من الآيات التي توضح إبرازَ المنهج الإسلامي في تشريعاته الارتباطَ الجوهريَّ بين العقل والتكليف.
وتحدث د. نظير عياد عن وظائف العقل في الشريعة الإسلامية مبينًا أن الإسلام قد حدَّد للعقلِ مساراتٍ جوهريةً تُعززُ مناعتَه ضدَّ الانحراف، بدءًا من التفكُّر في الكون، مرورًا بفقه النصوص، ووصولًا إلى تحرير النفس من التبعيات غير العقلانية، وتَبرزُ هنا أهميةُ الفتوى الواعية في ترسيخ هذه الوظائف، عبر منهجيةٍ تجمع بين النص الشرعي وواقع العصر، لتحصين العقل من إفراط التشديد أو تفريط التساهل، وتوجيهه نحو فهمٍ رشيدٍ يحقق مقاصدَ الشريعة.
- وفي المحور الثالث أبرز مفتي الجمهورية حكم الشريعة في تعطيل العقل عن الفكر والتأمُّل في الشرع أو العالم مبينًا أن الحواس تعدُّ أدواتٍ رئيسيةً للإدراك، وقد أودعها الله في الإنسان لحكمةٍ عظيمة، وهي مساعدته على فهم العالم من حوله، واستيعاب الحقائق التي توصله إلى الإيمان واليقين. ومن هنا، فإن تعطيل أي حاسة من الحواس -كالسمع أو البصر- يُعدُّ إفسادًا للحكمة التي خلقها الله من أجلها؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقصٍ في الإدراك وتشويهٍ للوعي. لافتا إلى أنه إذا كان تعطيل الحواس البدنية أمرًا مرفوضًا عقلًا وشرعًا، فإن تعطيل العقل -وهو أرقى أدوات الفهم والإدراك- يكون أشد خطورةً وأعظم ضررًا. فالعقل هو الميزان الذي وهبه الله للإنسان ليفكر به، ويميِّز بين الحق والباطل، ويستدل به على وجود الخالق وقدرته. ومن يُعطل عقله أو يُعرض عن التفكير السليم، فقد أخلَّ بأمانة الله فيه، وضيَّعَ أعظمَ وسيلة للعلم والهداية.
وفي المحور الرابع إلى ذكر نماذج تاريخية، توضِّح كيفية ومدى تأثير الفتوى على العقل والفكر.
- وبيَّن في المحور الخامس تأثير الفتوى في الفكر والعقل الفردي والجماعي وذلك من خلال (فقه) الخوارج كنموذج على ذلك، موضحًا أن الفتوى الدينية تعد جسرًا بين النص الشرعي والواقع الإنساني، لكنها قد تتحول أحيانًا إلى سلاح ذي حدَّيْن: تُرشد إن استندت إلى العقل والعدل، أو تُضلَّ إن خضعت للعاطفة والظن. وقصة الخوارج مع عبيدة بن هلال تقدم نموذجًا حيًّا لتداخُل الفتوى بالعقل الجمعي، وكيف يمكن لرد فعل عاطفي أن يُحدث تحولًا جذريًّا في الفكر والسلوك دون مساءلةٍ عقلانية.
- ثم أخيرًا ذكر مفتي الجمهورية أ.د نظير عياد إلى بيان كيف يمكن للفتوى الدينية أن تُحصِّن الأفكار من الإفراط والتفريط، من التسيُّب والتشدُّد؟ لافتًا إلى أن ذلك يتحقق بعدة أمور من أهمها: التأسيس على مقاصد الشريعة وتجنُّب النظرة التجزيئية، وتوظيف القواعد الفقهية الكلية كضابط منهجي، واعتماد مبدأ سدِّ الذرائع وفتحها، وتفعيل الاجتهاد الجماعي المؤسسي، واشتراط الورع والأهلية في المفتي، ومراعاة العرف واختلاف الزمان والمكان.
وعلى هامش الصالون تم تكريم المفتي أ.د. نظير محمد عيّاد، تقديرًا لدوره وجهوده في نشر صحيح الدين وإعلاء قيم التسامح.
جاء ذلك بحضور كل من: أ.د. فياض عبد المنعم وزير المالية السابق، والشيخ يسري عزام إمام وخطيب مسجد عمرو بن العاص، والشيخ مصطفى عبد السلام إمام مسجد سيدنا الحسين، والشيخ عبد العزيز معروف من مشيخة الأزهر، والأستاذ حسين القاضي من وزارة الأوقاف.