لا تزال معركة طوفان الأقصى والحرب على قطاع غزة تشغل بال المفكرين والمحللين والباحثين في العالم أجمع، فهي لم تعد معركة عسكرية محدودة أو مجرد عدوان إسرائيلي همجي وغير إنساني على الشعب الفلسطيني، بل تحولت إلى أسطورة من أساطير المقاومة والصمود الشعبي، وحدث إنساني عالمي يحمل كل الأبعاد الفكرية والحضارية والإنسانية وسيكون له تداعيات كبرى في المرحلة المقبلة.

وهو يشبه إلى حد ما التطورات التي شهدتها منطقتنا منذ بدايات القرن العشرين؛ من سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، إلى صدور وعد بلفور وقيام الكيان الكيان الصهيوني، مرورا بقيام الثورة المصرية عام 1952 وعدوان عام 1956، وصولا إلى حرب 1967 والتداعيات العسكرية والفكرية والسياسية التي نتجت عنها، إلى الحرب على لبنان عام 1982 مرورا بكل مراحل الصراع مع الكيان الصهيوني إلى اليوم.

ولكن هذه المعركة الكبرى والتي لا تزال تداعياتها مستمرة في كل الساحات وعلى الصعيد العالمي؛ أحدثت اليوم صدمة إيجابية على مستوى الفكر العربي والإسلامي حيث نسفت الكثير من المقولات والأوهام التي سادت سابقا وتحدثت عن عجز الفكر الديني أو عجز الإنسان العربي عن تحقيق النصر، أو عن القدرة على مواجهة التكنولوجيا الإسرائيلية المدعومة أمريكيا.

وها هم المقاومون في فلسطين ومعهم المقاومون في اليمن والعراق ولبنان وأحرار العالم يقاومون هذه العدوان الإسرائيلي- الأمريكي- البريطاني الوحشي، ويقدّمون أعظم صور الصمود والمقاومة والمواجهة، ويدفعون العالم كله لإعادة التفكير بكيفية الرد على الظلم وعملية الإبادة التي ينفذها الكيان الصهيوني في قطاع غزة.

لكن إضافة إلى البعد العسكري في هذه المواجهة فإن الأبعاد الفكرية والاجتماعية والإنسانية بدأت تأخذ مجالها على صعيد البحث والنقاش في مختلف الأوساط العلمية والفكرية في العالم العربي والإسلامي وعلى الصعيد الدولي، وكل يوم نشهد نقاشات وحوارات معمّقة حول دلالات ما يجري، وكيفية ملء الفراغ الحاصل بسبب فشل المنظومة الغربية الحالية في مواجهة الظلم القائم وكل أشكال الإساءة لمنظومات حقوق الإنسان والأفكار الغربية الليبرالية التي سادت طيلة العقود الماضية.

ومن ضمن اللقاءات الحوارية لبحث تداعيات ما يجري وكيفية ملء الفراغ الحاصل على صعيد المشروع الفكري البديل؛ تنشط العديد من مراكز الأبحاث والدراسات العربية والإسلامية للنقاش حول ما يجري، وما هي الأطروحة البديلة التي يمكن أن تقدّم إلى جانب الحلول السياسية التي تطرح في هذا المرحلة لإنهاء القتال والتوصل إلى اتفاق شامل للصراع مع العدو الإسرائيلي.

وقد عقد مؤخرا لقاء حواري في بيروت بدعوة من مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ضم حوالي عشرين شخصية فكرية وأكاديمية ودينية وعلمية، وذلك لمناقشة التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر اليوم في ظل التطورات التي يشهدها العالم على الصعد السياسية والفكرية والاجتماعية والعلمية. وقُدمت في اللقاء مداخلات متنوعة من الحاضرين، وتركزت هذه المداخلات على بعض القضايا الأساسية التي تحتاج إلى حوارات مفصلة؛ ومن أبرز هذه القضايا:

أولا: الأزمة التي يشهدها الغرب اليوم، وهل هي أزمة سياسية أو فكرية أو اجتماعية؟ وهل نشهد نهاية للمشروع الغربي بتجلياته المختلفة أو أنها أزمة عابرة يمكن أن يتم تجاوزها؟ وجرى التأكيد على أن هناك حاجة لتعميق الحوار حول هذا الموضوع، وتحديد طبيعة هذه الأزمة وعلاقات العرب والمسلمين بالغرب اليوم.

ثانيا: المشروع الإسلامي الحضاري البديل، فقد أشار بعض المشاركين إلى أهمية طرح مشروع إسلامي بديل يكون قادرا على مخاطبة العالم وكافة مكوناته الفكرية والدينية والإنسانية، ويتضمن إجابات على التحديات الجديدة التي يواجهها الإنسان المعاصر، وخصوصا قضايا المرأة وحقوق الإنسان والحريات وبناء الدولة وتقديم النموذج الاقتصادي والاجتماعي البديل.

ثالثا: الأزمات الداخلية التي يواجهها العالم الإسلامي اليوم، وخصوصا الخلافات المذهبية أو الفكرية أو القومية، والتي يمكن أن تشكل عائقا أمام تقديم المشروع البديل وضرورة تجاوز هذه الخلافات وتقديم رؤية جديدة للمشاكل المذهبية.

رابعا: ضرورة الاستفادة من كل التجارب الإسلامية النهضوية التي برزت في السنوات الأخيرة، ومنها تجربة ماليزيا برئاسة مهاتير محمد والتجربة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية وتجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية العلمية والفكرية والاقتصادية، والمشروع الذي يطرحه قائد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي وخصوصا في المجالات الفكرية مع الحاجة للتكامل بين كافة المشاريع في العالم العربي والإسلامي.

خامسا: أهمية التركيز على دور المفكرين والمثقفين والأكاديميين في الدول العربية والإسلامية، وعدم اختزال دورهم من قبل الأحزاب والحركات الإسلامية السياسية، وضرورة إتاحة الفرصة للحوار والنقد والتفكير الحر، وتقديم أفكار جديده لمشاكل الإنسان الحديث.

سادسا: أكد العديد من المشاركين أن الدين الإسلامي هو الرسالة الربانية التي تحمل الرؤية البديلة عن التجارب الأخرى، وأن الأحداث والتطورات في السنوات الأخيرة أكدت أن هذا الدين يمتلك المقومات الفكرية والحضارية، ولا يمكن اختزاله ببعض الطروحات المتطرفة والعنيفة التي برزت في هذه السنوات، وأن هناك حاجة لإعادة استنهاض الفكر الإسلامي وما يطرحه من أفكار أساسية حول الكون والإنسان.

سابعا: جرى التركيز على أهمية استعادة مشروع حوار الحضارات في مقابل صراع الحضارات الذي طرحه بعض المفكرين الغربيين في السنوات الأخيرة، لأن حوار الحضارات هو المدخل للتعاون بين المسلمين وبقية شعوب العالم.

هذه خلاصة لبعض الأفكار التي تُطرح اليوم في المؤتمرات والندوات الحوارية في العديد من العواصم العربية والإسلامية، كما أن التطورات الجارية في العالم وبروز حالة التضامن الحقيقية مع الشعب الفلسطيني على صعيد الجامعات الغربية والعديد من الدول والمنظمات الحقوقية والإنسانية؛ تؤكد أننا اليوم أمام فرصة جديدة لإعادة طرح المشروع الإسلامي الحضاري البديل، وأن دماء الشعب الفلسطيني والمقاومين في كل المنطقة وكل هذه التضحيات التي قدمت لن تذهب هدرا، بل ستساهم إلى جانب غيرها من التضحيات في ولادة عالم جديد، وعودة الشعوب إلى وعيها الحقيقي القائم على العدل والإنسانية والتضامن بين الأحرار والمعذبين ومقهورين؛ كي نشهد فجرا جديدا مهما طال ظلام ليل، فلا بد لليل أن ينجلي ولا للقيد أن ينكسر.

twitter.com/kassirkassem

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطيني المقاومة فلسطين المقاومة تحولات طوفان الاقصي ندوات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی العالم

إقرأ أيضاً:

تفكيك الفكر المتطرف محاضرة بالجامعة المصرية للثقافة الإسلامية بكازاخستان

ألقى الدكتور أسامة فخري الجندي رئيس الإدارة المركزية لشئون المساجد والقرآن الكريم، نيابة عن الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف، محاضرة علمية بعنوان: "مكونات الفكر المتطرف وما يقابلها في الفكر المنير"، وذلك لطلاب جامعة نور مبارك بكازاخستان، خلال مشاركته البناءة في فعاليات المؤتمر الدولي وعنوانه: "الإسلام في آسيا الوسطى وكازاخستان: الجذور التاريخية والتحولات المعاصرة"، 
واستهل الدكتور أسامة الجندي محاضرته بنقل تحيات الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، إلى طلاب الجامعة وهيئتها التدريسية والقائمين على شئونها، مشيدًا بما يبذلونه من جهود علمية جادة، ومؤكدًا في الوقت ذاته أن ظاهرة التطرف لم تكن طارئة على واقع البشرية، بل تمتد بجذورها العنيفة إلى أزمان بعيدة، حيث تكررت صورها في مختلف الحقب التاريخية، وتعددت أشكالها وتنوعت أساليبها، مما أوجب على المجتمعات الواعية أن تقف أمامها وقفات جادة، تكشف عن منابعها، وتدرس أسبابها، وتواجه شبهاتها المضللة.
وشدد فخري على أن ظاهرة التطرف ليست مرتبطة بدين دون آخر، ولا بعصر دون غيره، وإنما هي حالة فكرية شاذة قد تظهر تحت أي راية أو دعوى، مشيرًا إلى أن أولي العلم والمعرفة في كل زمان قد تصدوا لها بما يملكون من أدوات العلم والتحليل، حيث عملوا على تفكيك بنيتها الفكرية، وكشف زيف حججها، واقتراح الحلول المناسبة لاحتوائها وتقويض آثارها المدمرة.
ودعا سيادته إلى ضرورة تكاتف مؤسسات المجتمع كافة لمواجهة هذا الفكر المنحرف، موضحًا أن المسئولية في هذا السياق ليست مقصورة على العلماء والدعاة فقط، بل هي مسئولية جماعية تبدأ من الأسرة وتمتد إلى المدرسة، وتشمل المنابر الدينية في المساجد والكنائس، وتمر عبر وسائل الإعلام ومناهج التعليم، مشددًا على أهمية غرس الوعي السليم في نفوس الناشئة، وتحصين عقولهم من الأفكار الدخيلة، وتفعيل أدوار التربية والتوجيه في كافة المجالات.

وزير الأوقاف لمستشار رئيس أوزبكستان: نعتز بدولتكم وتاريخها العلمي ومكانتها الرفيعةالأوقاف تنشر نص موضوع خطبة الجمعة غدا بعنوان "ونَغْرِسُ فَيَأْكُلُ مَنْ بَعْدَنا"


وأكد الدكتور الجندي أن مواجهة الفكر المتطرف لا تكون إلا بنشر الفكر المستنير، الذي يقوم على الفهم الصحيح للنصوص، واحترام تعدد الرأي، وتنوع الفهم، والتأكيد على القيم المشتركة بين البشر، داعيًا إلى ترسيخ ثقافة الحوار والانفتاح، وتكريس المفاهيم التي تعلي من شأن الإنسان وتبني في داخله روح التسامح والتعايش، مشيرًا إلى أن معركة الوعي هي المعركة الحقيقية التي ينبغي أن نخوضها بكل إخلاص واستعداد، حمايةً للعقول، وصيانةً للأوطان، واستثمارًا لطاقات الشباب في البناء لا الهدم.
وقد شهدت المحاضرة تفاعلاً إيجابيًّا لافتًا من طلاب الجامعة، الذين أبدوا اهتمامًا بالغًا بما طُرح من أفكار، وحرصوا على توجيه الأسئلة والاستفسارات المتعلقة بكيفية التفريق بين الفكر السليم والمنهج المنحرف، معْرِبين عن تقديرهم العميق لما لمسوه من وضوح في الطرح، وثراء في المضمون، ووعي عميق بقضايا العصر.

طباعة شارك شئون المساجد كازاخستان الجامعة المصرية الفكر المتطرف

مقالات مشابهة

  • القيادات الإسلامية البريطانية: منهج رابطة العالم الإسلامي يُمثّل نموذجًا إسلاميًّا معاصرًا بالغ الأهمية والتميّز يتعيّنُ استلهامُه وتدريسُه للأجيال
  • تفكيك الفكر المتطرف محاضرة بالجامعة المصرية للثقافة الإسلامية بكازاخستان
  • قبائل ريف البيضاء تعلن النفير العام وتؤكد: معركة اليوم معركة كرامة ومصير
  • أصوات فكرية تطرح أسئلة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي
  • تركيا.. المعارضة تكشف مرشحها الرئاسي البديل إذا استمر اعتقال إمام أوغلو
  • تلازم الإجرام الفكري والإرهاب الفعلي
  • رابطة العالم الإسلامي تُدين جريمة طعن مسلم داخل مسجد بفرنسا
  • ما هي الشبكة الكهربائية الأوروبية المشتركة التي شهدت تعطلاً اليوم؟
  • رابطة العالم الإسلامي تُدين جريمة طعن مسلم داخل مسجد في فرنسا
  • رابطة العالم الإسلامي تُدين جريمة طعن مسلم داخل مسجد في جنوب فرنسا