«عجبي على قوم إذا قالوا للباكي كف عن البكاء، ولا يقولوا للضارب كف عن الضرب».. عبارة كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، إلا أنها تراودني كثيرا في هذه الأيام، ربما لأنها تعكس ما نشهده في مجتمعنا الإنساني المعاصر، فقد تناقضت المعاني وتبدلت مفاهيم القيم الإنسانية لتكون لا إنسانية، وتحول كل شيء إلى عكسه، وأصبحنا نتعامل مع الأحداث بعكس ما يجب أن يكون (أي بالمقلوب)، بل يمكن القول إن «شريعة الغاب» أصبحت أفضل بكثير مما نحن «البشر» عليه الآن.
ففي الغابات لا يمكن لحيوان أن يفترس آخر إلا إذا كان جائعا، أو في حالة الاعتداء عليه، أما في مجتمعنا الإنساني فعلى العكس تماما، فنجد الدول والشعوب الغنية المقتدرة تلتهم الشعوب الفقيرة المستضعفة، وبدلا من مد يد العون لها وإغاثتها من الجوع والمرض، فإنها تسعى إلى نهب ثرواتها أو احتلالها (في حين أن القيمة التسويقية لفريق كرة قدم أو ربما سعر لاعب واحد قد يغطي العوز مما تحتاجه تلك الدولة الفقيرة).
وفي الغابات أيضا مستحيل أن نرى حيوان ذكر يتزوج بذكر، أو أنثي بأنثى. أما في عالم الإنسان المعاصر فقد أصبحت المثلية من مظاهر الحرية الشخصية، ومن يخالف ذلك يكون هو الشاذ فكريًا، وهو ما أصبح محل خلاف مع دول تدعي التحضر، وكأن التمسك بالقيم الأخلاقية والتعاليم الدينية لم تعد حرية شخصية.
وفي وقت انشغالنا بحريات الشواذ، أغفلنا حقوق باقي البشر للعيش كبشر، وقس على ذلك ما يتم من تشويه للإنسانية وازدواجية للمعايير، فأصبح -مثلا- من يتحدث بسوء عن إسرائيل أو مجرد ينتقدها هو بالتأكيد مجرم «معادي للسامية» ويقع تحت طائلة القانون (مع إغفال أن العرب هم أيضا ساميون)، بينما يكون الباب مفتوحا على مصراعيه للتطاول على الدين الإسلامي الحنيف وعلى رسوله الكريم ﷺ، تحت مزاعم «حرية التعبير».
بل إن الصهاينة الذين يتشدقون دائما بما يطلقون عليه «الهولوكوست» أو المحارق التي أشعلها «هتلر» لحرقهم في الحرب العالمية الثانية، قد أباحوا لنفسهم ارتكاب ما هو أفظع منها ضد الشعب الفلسطيني، حتى أننا إذا قارننا بين هذا وذاك، يكون «هتلر» بالنسبة لهم مجرد «تلميذ». وهذا ما يؤكد صدق وعمق ما كان يعنيه هتلر، عندما قال: «لقد كان بإمكاني حرق كل يهود العالم، ولكني تركت بعضهم لتعرفوا لماذا كنت أحرقهم؟»، وها نحن نري بأم أعيننا ما كان يعنيه الرجل.
كما نذكر بأن قضية فلسطين قد بدأت بخلط الحقائق لتكون عكسها، عندما استخدم القس الإنجليزي «ألكسندر كيث»، في كتابه «أرض إسرائيل حسب العهد مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب» عام 1943م، شعار «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». وهنا كانت البداية الحقيقية للمفاهيم المقلوبة، فقد كانت الأرض لها شعب يقيم بها منذ آلاف السنين وهو الشعب الفلسطيني، أما اليهود فأبدا لم يكونوا شعبا، بل كانوا ينتمون إلى بلدان مختلفة لا يجمعهم الا الدين. ثم جاءت الحالة الثانية عام 1917 في وعد «بلفور» بشأن تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، الذي أصبح معروفا بـ «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، فكان ذلك استمرارا للممارسات والمفاهيم الضالة. وهكذا استمر الحال حتى تم تقسيم فلسطين بالقرار 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة 1947م، وهنا كانت المغالطة الثالثة، حيث إن عنوان القرار يقر بتقسيم أرض أسمها «فلسطين» لها تاريخ ولها شعب، فماذا عنهم؟ وكيف تغتصب أراضيهم؟
ورغم أن القرار يقضي بتقسيم أراضي فلسطين إلى (دولة عربية بمساحة 42، 3%، ودولة يهودية بمساحة 57، 7%، لتكون منطقة القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية)، ورغم رفض العرب لهذا القرار في ذلك الوقت، فأنه مازال قائما حتى الآن ولم يصدر ما يلغيه. وهنا نشير إلى ثلاث تناقضات مهمة:
بالقرار مخالفة واضحة لمفهوم الدولة الوارد بالقانون الدولي والعلوم السياسية، حيث تم إقامة دولة على أساس ديني لتكون هي الوحيدة من نوعها في العالم، كما تم الاعتراف بدولة لم تلتزم بالحدود المعينة لها في ذات القرار؟ (والحدود من أهم مقومات الدولة).
لماذا نجادل في هذا الموضوع، ونطالب بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، ولماذا نطالب بذلك؟ وهي فعلا كذلك طبقا لنص القرار 181، بدليل قيام الدولة اليهودية (إسرائيل).
لماذا لا نطالب بعقد دورة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة العضوية بالأمم المتحدة (وليست مجرد مراقب)، وليوافق من شاء ويرفض من شاء (فهكذا قامت إسرائيل)، خصوصا وإن قضية فلسطين أصبحت تتمتع بتأييد غالبية دول العالم (ما يؤكده موافقة 153 دولة لصالح قرار وقف إطلاق النار في غزة في ديسمبر 2023م، مقابل معارضة 10 دول فقط)، وقبل ذلك (التصويت بأغلبية 128 دولة لرفض مشروع ترامب بجعل القدس عاصمة لإسرائيل، مقابل معارضة 9 فقط).
ومنذ قيام دولة الكيان الصهيوني حتى وقتنا هذا، فكل الأحداث تسير بالعكس وفقا لمغالطات ومعايير مزدوجة. وهذا ما تجلى بوضوح بعد أحداث طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م، وإعلان جرائم الحرب على غزة بعدها، والتي نوجز أهم تناقضاتها فيما يلي:
يفترض أن للولايات المتحدة تقود العالم إلى الأمن والاستقرار باعتبارها القوة الأعظم، فكيف تكون عظيمة وهي أساس ومصدر الخراب والحروب والصراعات الدولية.
وكيف تدعوا بعدم توسعة نطاق الحرب على غزة، وهي التي تضرب في اليمن وسوريا والعراق، وتغض البصر عن استفزازات إسرائيل لجنوب لبنان وجرائمها في الضفة الغربية. في حين أن الحل بسيط جدا وهو «إيقاف الحرب على غزة». أم إن الهدف هو استمرار الحرب في غزة فقط.
وأين هي الديموقراطية الأمريكية، عندما تستخدم حق الفيتو لمنع وقف الحرب على غزة، ضد موافقة كل أعضاء مجلس الأمن، وعلى غير رغبة 153 دولة في العالم.
وكيف تطالب إسرائيل باحترام القانون الدولي، وتفادي قتل الأبرياء، وهي التي ترسل أساطيلها الحربية والأسلحة والذخائر الفتاكة لتستخدمها إسرائيل في هذه الحرب.
ولماذا الكيل بمكيالين عندما تتعامل الولايات المتحدة وحلفاؤها مع الملف الفلسطيني بخلاف تعاملهم مع الملف الأوكراني.
وأين حقوق الأطفال والنساء والشيوخ الذين يقتلون ويحرمون من كل سبل المعيشة في غزة، أين هؤلاء الذين صدعونا بحقوق الإنسان والحيوان وحتى حقوق الشواذ، وأين كانوا عندما تم وصم الفلسطينيون بأنهم «حيوانات بشرية»؟ أين أخلاقيات وقيم الغرب؟
وفي الوقت الذي يزعمون فيه أنهم يعملون على إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، نجدهم ينقطعون عن تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا». وفي الوقت الذي تُمنع فيه شاحنات المساعدات الإنسانية من دخول غزة، نجد قوافل المدد تذهب إلى إسرائيل برا وبحرا وجوا، من هنا وهناك.
والعجيب في الأمر أن يكون الكيان المحتل لأرض الغير هو صاحب الأرض ويدعي الدفاع عن النفس، بينما يكون أصحاب الأرض الأصليين نازحين أو محاصرين، وحتى إذا قاوموا الاحتلال يتم وصمهم بالإرهاب.. .هل هذا معقول؟
وبينما يلتزم كل دول العالم بالقوانين والمواثيق الدولية، نجد إسرائيل فوقها، بل وفوق قرارات محكمة العدل الدولية. وتجدر الإشارة إلى من قام برفع دعوي ضد إسرائيل في هذه المحكمة هي دولة جنوب أفريقيا وليس دولة عربية أو إسلامية.
أليس غريبا أن يضحي «نتنياهو» بكل شيء حتى بأسراه وقواته في غزة من أجل صالحه، والأغرب أن يضحي "بايدن" بكل شيء حتى بمكانته الرئاسية من أجل عيون «الننوس».
وهل يصح أن يتم عقد قمة عربية اسلامية استثنائية طارئة (عاجلة) يوم 11 نوفمبر 2023 لبحث العدوان الإسرائيلي على غزة، بعد مضي أكثر من شهر استشهد خلاله نحو (11) ألف فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء؟ وهل يكفي أن تكون قراراتها مجرد تنديد وشجب دون اتخاذ إجراءات فاعلة؟ وماذا يعني قرار مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته، بينما المشاركين في هذه القمة 57 دولة عربية وإسلامية أي ما يقارب نصف هذا المجتمع الدولي. وربما هذا ما أدى إلى تنامي مظاهر الغضب الشعبي في الدول غير العربية عنها في الدول العربية التي أصبح بعضها مشغولا بالاحتفالات والمهرجانات.
وعلى الرغم من كل هذه الظروف القاسية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، إلا أننا نجده يضرب أروع الأمثلة في الصبر والصمود والتمسك بأرضه وهويته، ومهما كانت المصائب لا تسمع منهم إلا «الحمد لله».
عزيزي القارئ، في ظل هذه التناقضات والمعايير المزدوجة، وهذه الجرائم التي يرتكبها الإنسان ضد أخيه الإنسان، وفي خضم هذه الفظائع غير المسبوقة التي أدت إلى تدهور قيم الإنسان وقيمته.. .في ظل هذا كله لا يسعني إلا ان أضم صوتي إلى صوت المطرب الجميل مدحت صالح عندما يقول:
«أنا عايز أعيش في كوكب تاني.. .فيه الإنسان، لسّه إنسان».. وعجبي!!
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: إسرائيل الهولوكوست حماس فلسطين الحرب على غزة فی هذه فی غزة
إقرأ أيضاً:
حسن الجوار… مبدأ وسياسة
تقول المقولة العربية الشهيرة (على قدر الجار يكون ثمن الدار) ، جاءت هذه المقولة نسبة لحرص العرب منذ العصر الجاهلي على احترام الجار وعدم إيذائه والتزام الخلق الكريم معه ، وتقديم يد العون والمساعدة إذا احتاج لها؛ وزاد الأمر احتراما ومودة بعد ظهور الإسلام وجاء حق الجار فيه بتعظيم وإجلال كبير ، وحثت عليه الديانات السماوية كلها.
واذا نظرنا سريعا للتأريخ الإنساني في الحضارات السابقة ، نجد مبدأ حسن الجوار معروفاً في الحضارات الإنسانية القديمة في بلاد الرافدين حيث لا يجوز إيذاء الدول المجاورة إلا إذا بدأت هي بالعدوان، وذكر احترام الجوار في الحضارة الفرعونية وكتبت على جدران المعابد الفرعونية القديمة قواعد الجوار ، من احترام وعدم العدوان على المدن الآمنة ، وكذلك كان الأمر في قانون حمورابي الذي دعا إلى وضع تدابير للجوار الآمن مع ما يحيط بهم من ممالك حرصاً على استقرار الشعوب.
وقد ظهر مبدأ حسن الجوار في بدايته كنهج يدعو للتسامح والسعي لإنشاء علاقات طيبة بين الممالك أو المدن أو الشعوب المتجاورة جغرافيا ، وبقي عرفاً يحترمه الجميع لفترة طويلة لم يحددها فقهاء القانون الدولي.
و مع ظهور الدولة بشكلها الحديث في منتصف القرن السابع عشر ، وبعد توقيع معاهدة (وستفاليا 1648م) التي تعرف بمعاهدة مونستر والتي وقعت في 24 أكتوبر 1648م بألمانيا وأنهت حرب الثلاثين عاما في أوروبا (1618-1648) وأرست عددا من المبادئ ، أهمها مبدأ حرية المعتقد الذي ظهر لأول مرة في تأريخ أوروبا ، إذ لا يجوز للشعب أن يختار الديانة أو المعتقد وإنما كان الأمر قاصرا على الملوك فقط ، و من هنا جاءت مقولة (الناس على دين ملوكهم) ، وظهر أيضاً مبدأ حسن الجوار بين الولايات الألمانية في ذلك الوقت ، وكذلك مبدأ السيادة ، الذي أعطى لكل ولاية الانفراد التام بقراراتها دون تدخلات خارجية وكذلك الإعتراف بأحقية كل دولة بالسيادة على أراضيها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها.
وترجع أهمية هذه المعاهدة إلى نجاحها في إرساء المبادئ اللازمة للعلاقات الدولية ، وكانت معاهدة وستفاليا أول معاهدة دبلوماسية يعرفها العالم في العصر الحديث.
اعتبر بعض علماء القانون الدولي مبدأ حسن الجوار مبدأ قانونياً ينحدر من أصل سياسي اجتماعي ارتبط بظهور الدولة، وتعرض لمنعطفات بالغة الأهمية في مسار الالتزام به ، وتأثر فيما بعد بدرجة كبيرة بمجال الاتصالات وتبادل المعلومات وتشابك المنافع والمصالح تبعا للتطور الحديث في العالم .
هدف هذا المبدأ الى تنظيم العلاقات بين الدول وتحديد الواجبات والحقوق فيما بينها ، وقد انصب اهتمام القانون الدولي على استخدامه لمنع الاحتكاكات المصادمة بين الدول والتي قد ينتج عنها حروب.
أصبح مبدأ حسن الجوار سياسة دولية حينما صرح الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت وهو سياسي ديمقراطي شغل منصب الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة في الفترة ( 1933 – 1945 )م ، وهو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي فاز أربع مرات في انتخابات الرئاسة الأميركية، وظهر مبدأ حسن الجوار كسياسة خارجية في خطابه عام 1933م حينما سعى إلى لإبعاد القوة العسكرية الأميركية عن منطقة أمريكا اللاتينية ، من أجل خلق علاقات ودية بين الولايات المتحدة ودول أمريكا الوسطى ، وأكد في خطابه “سأكرس هذه الأمة لسياسة حسن الجوار في مجال السياسة العالمية” ، نتج عن ذلك إنهاء احتلال قوات المشاة البحرية الأميركية لهاييتي 1934م ، وإلى إلغاء تعديل معاهدة (بلات) 1903م مع كوبا و التي تعطي للولايات المتحدة الأمريكية الحق في التدخل للحفاظ على الاستقرار الداخلي في العام 1934م ، وكذلك التعويض للمكسيك عن تأميم أصول النفط ذات الأموال الأجنبية 1938م ، وقيام أمريكا بدفع أموال لدولة بنما نتيجة لاستغلال قناة بنما ، عززت هذه السياسة فكرة ان الولايات المتحدة الأمريكية ستكون (جارة جيدة) وكان دافع روزفلت وقتها خلق فرص اقتصادية جديدة في شكل اتفاقيات ثنائية متبادلة ترفع الاقتصاد الأمريكي ، وتعيد النفوذ الأمريكي في دول أمريكا اللاتينية بشكل جديد ومختلف ، وأنشأ رزوفلت لذلك (مكتب منسق شؤون البلدان الأميركية) في أغسطس 1940م ، بغرض الدعاية لسياسة أمريكا الجديدة في حسن الجوار ، الشاهد هنا ان سياسة حسن الجوار مكنت أمريكا من إنشاء تحالف غربي ضد قوات المحور في الحرب العالمية الثانية.
بعد ذلك تم النص على مبدأ حسن الجوار في ميثاق الأمم المتحدة 1945م ، بحيث يمنع الاعتداء بكافة أشكاله وأنواعه بين الدول ، بل يحث علي توقيع الاتفاقيات الثنائية بين الدول من أجل تنمية وحماية الحدود بينها وتسهيل التجارة وإجراءات السفر بين مواطني البلدين ومراقبة الحدود لمنع أية تجاوزات مثل تجارة المخدرات أو السلاح أو عمليات تهريب السلع أو تجارة الأعضاء البشرية أو الهجرة غير الشرعية وغيرها من الجرائم ، كذلك العمل على مكافحة الإرهاب ومكافحة التلوث البيئي ، والمساعدة في حالة حدوث الكوارث الطبيعية ، وقد تكون هناك اتفاقيات فاعلة للدفاع المشترك.
ورد مبدأ حسن الجوار صراحة في الاتفاقية الأوروبية لحماية المياه العذبة من التلوث ، والتي صدرت عن مجلس أوروبا 1969م ، ونصت على أنه لا يجوز لأية دولة استغلال مواردها الطبيعية بطريقة يمكن أن تسبب ضرراً كبيراً لدولة مجاورة لها.
ورد ذات المبدأ في موضوع حقوق الدول الواقعة على الأنهار الدولية بغرض عدم المساس بالظروف الطبيعية للنهر إذا ترتب عن ذلك الإضرار بحقوق دولة أخرى.
على الصعيد الأفريقي تناولت الاستراتيجية الافريقية مبدأ حسن الجوار لتعزيز السلم والأمن والاستقرار بين الدول الأفريقية واستخدام الحدود كنقاط اتصال وتقاطع وبوابة عبور بين الدول بما يحقق التعاون والتنسيق وتكامل المنافع بين الدول ، مع التأكيد على مكافحة التهريب والإرهاب والهجرة غير الشرعية والقرصنة والاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية.
عبر التاريخ ظل السودان بوابة مرور لأفريقيا من جهة الشرق يربط بين الشمال والوسط الأفريقي ، وبين العمق الأفريقي والبحر الأحمر فكان طريقا للتجارة ومعبرا للأراضي المقدسة ، وكانت حدود السودان من كل الاتجاهات تنشط في التبادل التجاري نتيجة للتمدد القبلي بين القبائل المشتركة لا سيما التي تمتهن الرعي فكانت أعراف الجوار الآمن كأحكام ملزمة تسيطر على القبائل الحدودية في تعاملاتها فيما بينها.
ثم بعد ذلك ومع تكوين الدولة السودانية بشكلها الحديث التزم وانتهج السودان سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة ، والتعاون من أجل السلام والتنمية في سياسته الخارجية.
تأثيرات الحرب علي دول الجوار للسودان:
يشترك السودان مع الدول التي تجاوره في العديد من الملفات ذات الاهتمام المشترك نظرا للقرب الجغرافي و تبادل المصالح المشتركة تجارياً وامنياً وقد يترتب على استمرار الحرب في السودان تداعيات سلبية على كل دول الجوار ، ونجد ان أهم النقاط تتمثل في :_
1/المستوى الأمني :
للسودان مصالح مشتركة مع دول الجوار تجعل مسألة استقراره وأمنه صمام أمان لمكافحة الإرهاب الذي قد يجد بيئة خصبة في حالة النزاع المسلح في السودان ، وما يشكله من سيولة أمنية تؤثر على السودان وجواره ، كذلك جرائم الهجرة غير الشرعية لدول أوروبا باعتبار السودان دولة عبور في حالة وجود الاضطرابات الأمنية يسهل تسلل العصابات عبر الحدود لأية دولة أخرى ، كذلك استمرار حالة الإنفلات وعدم الانضباط الأمني يترتب عليها تهديد لمواصلة التجارة العالمية في البحر الأحمر والدول المشاطئة .
2/ الموارد المائية ، يشترك السودان مع عدد من دول الجوار في نهر النيل وهو مصدر استراتيجي للمياه والزراعة والثروة السمكية والسدود وإنتاج الكهرباء وغيرها من المشروعات المرتبطة بالمياه ، مما يجعلها عرضة للضياع نتيجة استمرار الحرب وبالتالي إحداث أضرار بالغة للتنمية المستدامة للسودان ودول الجوار وتعطيل التشاور والاتفاق حول ملف سد النهضة على سبيل المثال .
3/ ترسيم الحدود ، وهي واحدة من القضايا التي لم يتم حلها بين السودان وعدد من دول الجوار ، واستمرار الحرب يجعل هذه الملفات مجمدة لحين انتهاء الحرب .
4/عدم الاستقرار الاقتصادي :
لان السودان شريك اقتصادي لكل دول الجوار وبالتالي توقف العمل التجاري او إغلاق طرق العبور الدولية للتجارة نتيجة الحرب يكون له آثار سلبية علي اقتصاديات بلدان اخرى ، مثل عبور النفط مثلا عبر خط الأنابيب من دولة جنوب السودان الى البحر الأحمر ، وتصدير بعض السلع التجارية من السودان الى إثيوبيا ومصر وارتيريا وتشاد وافريقيا الوسطي .
5/الظروف السياسية :
تؤثر الظروف السياسية سلبا على استقرار الأوضاع في عدد من دول الجوار التي تعاني من هشاشة في الأوضاع السياسية ، وتثير صراعات تهدد أمن الشرق الأفريقي .
6/المساعدات الإنسانية :_
يشكل السودان ممرا لعبور المساعدات الإنسانية لدولة جنوب السودان وتسهيل إيصال المساعدات عبر ميناء بورسودان ، إلا أن تفاقم الحرب واستمرارها قد يضاعف الازمة الإنسانية في دولة جنوب السودان.
7/ اللاجئون:_
بين السودان ودول الجوار روابط اجتماعية متداخلة وامتداد لقبائل وعشائر كثيرة ، مما يجعل قضية لجوء عدد مقدر من السكان لتلك الدول أمرا واقعا نتيجة الحرب وانعدام الأمن والأمان ، مما يشكل ضغطا على موارد تلك الدول ، و ينعكس سلبا علي البنى التحتية واقتصادها.
لذلك فان دول الجوار من مصلحتها إيقاف الحرب في السودان ودورها في ذلك دور استراتيجي محوري يتمثل في عدم تقديم اي دعم للمليشيا المتمردة عبر أراضيها ، وتفعيل مبدأ حسن الجوار مع السودان بصورة ايجابية ، فأن كانت تفصل بين السودان وجواره حدود سياسية معروفة ، الا ان روابط الأخوة والتأريخ المشترك والتداخل القبلي والحدود الممتدة والمصالح المشتركة واللغة والدين هي روابط اقوى بكثير من أي حدود وهي الدافع الأساسي للسعي لحماية السودان وسلامة أراضيه وشعبه بما يحقق السلام له ولجواره.
د. إيناس محمد أحمد
المحقق