دمٌ على اليدين!
المبدأ التوجيهي الإسرائيلي، الذي تعزّز نتيجة الضغط الشعبي والسياسي، هو عدم إطلاق سراح سجناء فلسطينيين "ملطّخة أيديهم بالدماء".
يفترض أن صفقة "إسرائيل" التالية مع المقاومة، ستبدأ مما انتهت عنده صفقة شاليط، وانطلاقاً من "الثمن" الذي تقدّر أنها تستطيع الحصول عليه،
تستند النقطة المرجعية لما تحصله المقاومة من صفقة أسرى لتقدير الأثمان التي دفعتها "إسرائيل" في الصفقات السابقة، وربما أكثر بكثير مما دفعته في صفقة شاليط الأخيرة.
تدرك "إسرائيل" أنها تُضطرّ، مرةً تلو أخرى، للخضوع، بشكل واضح، والتنازل عن المبادئ التي أعلنتها في بداية مفاوضات صفقة التبادل، ومنها عدم إطلاق سراح أسرى "مع دم على اليدين".
* * *
تستخدم العبرية مصطلح (دم عل هيديام) "دمٌ على اليدين" لوصف "من قتل أشخاصاً في هجوم، وشارك في عمل إرهابي مميت"، وهو تعريفٌ يتمّ بموجبه تصنيف الأسرى الفلسطينيين بحسب خطورة أعمالهم. تطوّر مفهوم "دم على اليدين" في تموز/يوليو 2003، كجزء من المبادرة الإسرائيلية الأولى لإطلاق سراح أسرى فلسطينيين كلفتة تجاه الرئيس محمود عباس "أبو مازن".
منذ ذلك الحين وضِعت هذه المعايير، وكانت كلّ المبادرات التي تلتها تستند إلى مبدأ "الدم على اليدين"، وهو معيارٌ ابتدعه "الشاباك"، جهاز المخابرات الإسرائيلية العامة، وليس معياراً قانونياً.
ففي "إسرائيل" لا يوجد قانون يحدّد الإجراءات المتبعة للموافقة على إطلاق سراح أسرى فلسطينيين في أيّ صفقة تبادل، بل هو إجراء يستند إلى ممارسة تمت في مرات سابقة وترسّخت في الوعي الإسرائيلي العام. والمبدأ التوجيهي، الذي تعزّز نتيجة للضغط الشعبي والسياسي، هو عدم إطلاق سراح سجناء فلسطينيين "ملطّخة أيديهم بالدماء".
بين الأعوام 1948-1975، أجرت "دولة إسرائيل" عدداً من صفقات تبادل الأسرى مع الدول العربية (مصر، سوريا، الأردن ولبنان)، أطلقت فيها سراح عدة آلاف من السجناء الذين تمّ أسرهم في الحروب المختلفة.
وهذا مردّه حقيقة أنّ "إسرائيل" أسَرَت خلال الحروب، أسرى عرَباً أكثر من جنود "الجيش" الإسرائيلي الذين تمّ أسرهم لدى الطرف الأخر، لذلك أطلقت "إسرائيل" سراح أسرى جنود أكثر بكثير مما تلقّت في عمليات التبادل، وفي بعض الحالات أُطلِق عدد قليل مقابل عدة آلاف.
في 25 حزيران/يونيو 2006، أسرت حماس الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من منطقة كرم أبو سالم، واقتيد إلى قطاع غزة وظل في قبضة المقاومة لأكثر من خمس سنوات. وبعد مفاوضات طويلة ومعقّدة للغاية استمرت عدة سنوات أُطلق سراح جلعاد شاليط في النهاية في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2011، مقابل 1046 سجيناً فلسطينياً ومنهم "قتلة يهود وأيديهم ملطّخة بالدماء"، وفق التعبير الإسرائيلي، وعلى رأسهم يحيى السنوار الذي تضعه "إسرائيل" اليوم على رأس قائمة المطلوبين لديها وتنسب إليه التخطيط لأحداث طوفان الأقصى.
عقب اختطاف جلعاد شاليط شكّلَ وزير حرب الاحتلال إيهود باراك لجنة برئاسة القاضي المتقاعد شمغار لوضع معايير واضحة للسلوك الإسرائيلي في حالة وقوع جنود أو مستوطنين في الأسر. في حزيران/يونيو 2009 قدّمت اللجنة استنتاجاتها، ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا لم يجرِ نقاش واحد في حكومة الاحتلال حول استنتاجات اللجنة وظلت توصياتها حبيسة الأدراج.
بين العام 1975 ولغاية أسر جلعاد شاليط شهدت "إسرائيل" عدداً كبيراً من عمليات الأسر الأخرى "لعسكريّين ومدنيين" إسرائيليين، مما اضطرها إلى إجراء مفاوضات وصفقات تبادل إضافية مع ما تسميها "التنظيمات الإرهابية" بهدف الإفراج عن أسراها.
قدّرت "إسرائيل" أنه من المحتمل أن صفقات الأسرى التي تمّت مع الدول العربية، بعد كل الحروب، عزّزت سلوك "المنظمات الإرهابية" وفتحت شهيتها لخطف وأسر جنود ومقايضتهم بأسرى فلسطينيين وعرب.
خاصة وأنها أدت إلى نشوء معادلة غير متماثلة، على حساب "دولة إسرائيل" في كل عمليات التبادل التي حدثت، وأوجدت نسبة "جندي إسرائيلي واحد مقابل عشرات أو حتى مئات الجنود العرب".
هذا الوضع المعقّد الذي وصلت إليه "دولة" الاحتلال في مواجهة تنظيمات المقاومة أصبح مثاراً للجدل إلى حد كبير، سواء بين الجمهور الإسرائيلي أو بين القيادة والنخب الأمنية والسياسية.
وقد خلق تناقضاً حاداً بين القيم القومية الدينية حول أهمية إعادة الأسرى وفدائهم، أو إحضار القتلى لدفنهم في "إسرائيل" من جهة، والخوف من تأكّل قدرة الدولة على الردع نتيجة المساومة الناشئة عن صفقات التبادل من جهة أخرى، وربما الأسوأ من ذلك، تأكّل مكانة "إسرائيل" الأمنية الاستراتيجية وموقعها على الساحة الدولية.
تَعتَبِر "إسرائيل" أن فداء الأسرى هو قيمة دينية وطنية يوليها جمهورها أهمية كبيرة، إلى جانب أهمية مراعاة التحفّظات على الأثمان التي تدفعها مقابلهم، وهو ما عزّز القلق من أن "القيمة المرتفعة" للأسرى اليهود ستشجّع على اختطافهم. لذلك تبنّت "إسرائيل" موقفاً رسمياً ودينياً حذر من التداعيات واسعة النطاق فيما يتعلّق بالسلامة العامّة والردع الأمني "لدولة إسرائيل"، لأنه "من الخطأ إيذاء جمهور بأكمله من أجل الاستجابة لسلامة فرد أو بضعة أفراد".
أثارت الأثمان الباهظة التي بدأت تدفعها "دولة إسرائيل" مقابل عودة أسراها انتقادات شعبية شديدة، تطوّرت إلى جدل داخلي أساسي حول "طبيعة الثمن الذي يجب دفعُه مقابل عودة المختطف الإسرائيلي من قبضة التنظيم الارهابي!".
هناك من يدّعي أن الثمن الباهظ الذي تدفعه "دولة إسرائيل" يُلحق ضرراً كبيراً بالأمن القومي ويؤدّي إلى تأكّل الردع بشكل كبير. وعلى الجانب الآخر هناك من يدّعي أنه "يجب أن نفعل كلّ شيء من أجل إعادة كلّ جندي أو مواطن إسرائيلي، حياً أو ميتاً!"، ولكن من دون تعريفٍ واضح لا لبس فيه لمعنى وحدود "كل شيء"!
أولئك الذين يؤيّدون الحجة الثانية، يبنون موقفهم على خلفية الصدمة الوطنية الإسرائيلية التي تطوّرت على مرّ السنين بسبب عدم عودة الطيار الإسرائيلي رون أراد، وهم يزعمون أنه "إذا ذهب جنودنا إلى المعركة من دون أن يعرفوا أنّ دولة إسرائيل ستفعل كل شيء من أجل إعادتهم، سيؤدي ذلك إلى الإضرار بدوافعهم القتالية، وبالتالي الإضرار بالقدرة القتالية لمقاتلي الجيش الإسرائيلي والأمن القومي بشكل عام".
هذه المواقف المتناقضة خلقت نقاشاً داخلياً عاصفاً للغاية لم يتمّ حلّه حتى اللحظة، خاصة وأن "إسرائيل" لم تقم بفحص تجريبي أو حتى تقديرٍ للأثمان التي هي مستعدة لدفعها مقابل إطلاق سراح أسرى من سجونها، بعد كل صفقات التبادل التي تمت في الماضي، حيث نُفّذِت كل صفقة بشكل منفصل، ومن دون أي صِلة جوهرية بما سبقها من صفقات. ولم تتمكّن "إسرائيل" لغاية اليوم من بلورة "استراتيجية أمان" لهذه المعضلة التي تعيشها، بحيث لا يكون من الممكن مناقشة أو حتى الخوض في جدال حول الثمن الذي ستدفعه "الدولة" بالفعل.
وبالتالي لا مخرج، في الواقع، أو لا حلّ للنقاش العقيم حول الطريقة التي على "إسرائيل" أن تتّبعها للخروج من مأزقها. من الواضح أن الجدل العام حول هذه القضية يصبّ في مصلحة المقاومة ويلعب إلى جانبها، فقد حوّل الحدث التفاوضي من حدث أمني ـــــ سياسي تكتيكي، إلى حدث وطني استراتيجي له نفوذه الكبير جداً داخل "اللعبة" السياسية الإسرائيلية، وصعّب الأثمان التي تترتّب عليه.
فمن ناحية، من الواضح أنه لا يوجد "ثمن سوقي" لكل جندي أو مدني إسرائيلي أسير، ومن ناحية أخرى، فإن "دولة إسرائيل" لم تحدّد مبادئ توجيهية في إطار إجراء المفاوضات مع فصائل المقاومة من أجل عودة أسراها أحياءً أو أمواتاً. ولذلك فإن الجدل العام المؤثّر للغاية حول هذه القضية يصبح في الواقع جدلاً عقيماً لا مخرج منه، لأنه لا ينطلق من نقطة مرجعية واحدة واضحة.
إنّ الواقع أكثر تعقيداً، وهناك اعتبارات كثيرة ومتنوّعة، فالإسرائيليون حساسون للغاية من الناحية الأمنية، ومثقلون ومعقّدون، وبالتالي سيتمّ إجراء الصفقة في سياق الاعتبار الذي ثبّتته "إسرائيل" مع خصومها تاريخياً، والقائم على أساس فرضية أن معادلة الثمن والقيمة لا ينبغي أن تكون متساوية، ولا يمكنها الحصول على صفقات متوازنة للغاية.
تدرك "إسرائيل" أنها تُضطرّ، مرةً تلو الأخرى، إلى الخضوع، وأحياناً بشكل واضح جداً، والتنازل عن المبادئ التي أعلنتها في بداية مفاوضات صفقة التبادل، ومنها عدم إطلاق سراح أسرى "مع دم على اليدين"، التي ابتدعتها في محاولة لرسم حاجز لما هو مسموح وممنوع تجاوزه في صفقات التبادل المختلفة.
من الواضح كذلك، أن المقاومة اليوم تعرف كيفية إدارة هذه المفاوضات بطريقة صعبة مع مقدرتها على الحصول على "عائد أعلى" من الصفقات التي سبقتها، وربما تحصل في نهايتها على كل ما طلبته منذ البداية تقريباً.
ومن هنا يمكننا الافتراض أن الصفقة التالية التي ستعقدها "إسرائيل" مع المقاومة هذه المرة، على الأقل، ستبدأ بدرجة أو بأخرى من المكان الذي انتهت عنده صفقة شاليط، وانطلاقاً من "الثمن" الذي تقدّر أنها تستطيع الحصول عليه، خاصة عندما تستند النقطة المرجعية لهذا التقدير إلى الأثمان التي دفعتها "إسرائيل" في الصفقات السابقة، وربما أكثر بكثير مما دفعته في صفقة شاليط الأخيرة.
*د. محمد هلسة كاتب وباحث في الشؤون الإسرائيلية
المصدر | الميادين نتالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: إسرائيل غزة المقاومة الأسرى الإسرائيليين الأسرى الفلسطينيون طوفان الأقصى الحرب على غزة فلسطين إطلاق سراح أسرى عدم إطلاق سراح الأثمان التی دولة إسرائیل صفقة شالیط أنها ت من أجل
إقرأ أيضاً:
ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.
انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.
إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.
وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.
إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.
وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".
إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.
وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.
في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.
وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".
وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".
تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).
خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.
ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.
x.com/hasanabuhanya