الذكاء الاصطناعي ضدّ غباء البشر
تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT
منذ عودتي من اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس هذا العام، سُئِلت مرارا وتكرارا عن أكبر ما خرجت به من نتائج هناك. بين القضايا التي نوقشت على نطاق واسع هذا العام كان الذكاء الاصطناعي ــ وخاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي («GenAI»). مع تبني نماذج اللغات الضخمة مؤخرا (مثل النموذج الذي يقوم عليه ChatGPT)، تنشأ آمال عريضة -ويعلو الضجيج- حول ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية والنمو الاقتصادي في المستقبل.
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نضع في الحسبان أن عالمنا يهيمن عليه الغباء البشري بدرجة أكبر كثيرا من خضوعه للذكاء الاصطناعي. ويؤكد انتشار التهديدات الجسيمة -والتي يشكل كل منها عنصرا في «الأزمة المتعددة» الأوسع- أن سياستنا مختلة بدرجة كبيرة، وأن سياساتنا مضللة إلى الحد الذي يجعلها عاجزة عن معالجة حتى المخاطر الأشد فداحة ووضوحا التي تهدد مستقبلنا، والتي تشمل تغير المناخ، الذي سيخلف تكاليف اقتصادية ضخمة؛ والدول الفاشلة، التي ستجعل الموجات من لاجئي المناخ أكبر؛ والجوائح المرضية الخبيثة المتكررة التي قد تكون أشد ضررا على المستوى الاقتصادي من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19).
ما يزيد الطين بلة أن منافسات جيوسياسية خطيرة تتطور لتتحول إلى حروب باردة جديدة ــ كتلك بين الولايات المتحدة والصين ــ أو حروب ساخنة محتملة الانفجار، كتلك الدائرة في أوكرانيا والشرق الأوسط. وفي مختلف أنحاء العالم، تسبب اتساع فجوات التفاوت في الدخل والثروة، المدفوع جزئيا بالعولمة المفرطة والتكنولوجيات الموفرة للعمالة، في إشعال شرارة ردة فعل عكسية ضد الديمقراطية الليبرالية، وخلق الفرص للحركات السياسية الشعبوية والاستبدادية والعنيفة.
كما تهدد مستويات غير مستدامة من الديون الخاصة والعامة بالتعجيل باندلاع أزمات الديون والأزمات المالية، وربما نشهد عودة التضخم وصدمات العرض الكلي السلبية المسببة للركود التضخمي.
ويسير الاتجاه الأعرض على مستوى العالم نحو سياسات الحماية، وإلغاء العولمة، وفك الارتباط، ومحاولات الاستغناء عن الدولار. علاوة على ذلك، نجد أن ذات تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي الجديدة الشجاعة التي قد تسهم في النمو ورفاهة البشر تنطوي أيضا على إمكانات مدمرة عظمى. فهي تُستَخدَم بالفعل للدفع بالمعلومات المضللة، والتزييف العميق، والتلاعب بالانتخابات إلى مستويات مفرطة، فضلا عن إثارة المخاوف بشأن البطالة التكنولوجية الدائمة، بل وحتى فجوات التفاوت الأشد اتساعا. ولا يقل عن ذلك شؤما صعود الأسلحة الذاتية التشغيل والحرب السيبرانية المعززة بالذكاء الاصطناعي.
في انبهارهم ببريق الذكاء الاصطناعي، لم يركز الحاضرون في دافوس على أغلب هذه التهديدات الجسيمة. ولم يكن هذا مفاجئًا. فمن خلال خبرتي، تشكل الروح السائدة في المنتدى الاقتصادي العالمي مؤشرا مضادا للاتجاه الذي يسلكه العالم حقا. الواقع أن صناع السياسات وقادة الأعمال متواجدون هناك لبيع كتبهم وتبادل العبارات المبتذلة. إنهم يمثلون الحكمة التقليدية السائدة، التي تستند غالبًا إلى رؤية عبر نافذة خلفية للتطورات العالمية وتطورات الاقتصاد الكلي.
ومن ثم، فعندما حذرت في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2006 من أن الأزمة المالية العالمية قادمة، انصرف الناس عني باعتباري من المتشائمين. وعندما توقعت في عام 2007 أن تواجه دول عِـدّة في منطقة اليورو قريبًا مشكلات الديون السيادية، اكـفَـهَـرَّ وجه وزير المالية الإيطالي ونَـهَـرَني لفظيا. وفي عام 2016، عندما سألني الجميع ما إذا كان انهيار سوق الأوراق المالية الصينية ينذر بهبوط حاد من شأنه أن يتسبب في تكرار الأزمة المالية العالمية، زعمت -وكنت محقا- أن الصين سوف تواجه هبوطا وعرا لكنه مُوَجّه.
خلال الفترة من 2019 إلى 2021، كان الموضوع المساير للموضة في دافوس فقاعة العملات الرقمية المشفرة التي انهارت ابتداء من عام 2022. ثم تحول التركيز إلى الهيدروجين النظيف والأخضر، وهو بدعة أخرى بدأت تتلاشى بالفعل.
عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي، لا يخلو الأمر من احتمال كبير للغاية أن تعمل التكنولوجيا على تغيير العالم بالفعل في العقود القادمة. لكن تركيز المنتدى الاقتصادي العالمي على الذكاء الاصطناعي التوليدي يبدو في غير محله بالفعل، مع الأخذ في الاعتبار أن تقنيات وصناعات الذكاء الاصطناعي في المستقبل سوف تذهب إلى ما هو أبعد من هذه النماذج.
لنتأمل هنا على سبيل المثال الثورة الجارية في مجال الروبوتات والتشغيل الآلي، والتي سَـتُـفـضي قريبا إلى تطوير روبوتات تحمل سِـمات شبيهة بالبشر وقادرة على التعلم والقيام بمهام متعددة على غرار البشر. أو تخيل ما قد يفعله الذكاء الاصطناعي للتكنولوجيا الحيوية، والطب، وفي نهاية المطاف صحة الإنسان ومدى حياته.
ولا تقل عن ذلك إثارة للاهتمام التطورات التي يشهدها مجال الحوسبة الكمومية، والتي ستندمج في نهاية المطاف مع الذكاء الاصطناعي لإنتاج تطبيقات متقدمة لكتابة الشفرة وتعزيز الأمن السيبراني. ينبغي أيضا تطبيق ذات المنظور البعيد الأمد على المناقشات التي تتناول المناخ.
لقد بات من المرجح على نحو متزايد ألا تُـحَـلّ مشكلة المناخ بالاستعانة بمصادر الطاقة المتجددة ــ التي تنمو ببطء أشد من أن يسمح لها بإحداث تغيير كبير ــ أو التكنولوجيات الباهظة التكلفة مثل احتجاز وعزل الكربون والهيدروجين الأخضر.
بدلا من ذلك، قد نشهد ثورة في مجال الطاقة الاندماجية، شريطة أن نتمكن من بناء مفاعل تجاري في غضون السنوات الخمس عشرة المقبلة. هذا المصدر الوفير للطاقة النظيفة الرخيصة، إلى جانب تحلية المياه غير المكلفة والتكنولوجيا الزراعية، من شأنه أن يسمح لنا بإطعام عشرة مليارات من البشر الذين سيعيشون على كوكب الأرض بحلول نهاية هذا القرن.
على نحو مماثل، لن تتمحور ثورة الخدمات المالية حول سلاسل الكتل اللامركزية أو العملات الرقمية المشفرة. بل ستتميز هذه الثورة بنوع من التكنولوجيا المالية المركزية المدعومة بالذكاء الاصطناعي والتي تعمل بالفعل على تحسين أنظمة الدفع، والإقراض وتخصيص الائتمان، والاكتتاب في التأمين، وإدارة الأصول.
وسوف يقودنا علم المواد إلى ثورة في المكونات الجديدة، وتصنيع الطباعة الثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيات النانو، والبيولوجيا التخليقية. كما سيساعدنا استكشاف الفضاء واستغلاله في إنقاذ الكوكب وإيجاد طرق لإنشاء أنماط حياة خارج الكوكب.
الحق أن هذه التكنولوجيات وغيرها كثير من الممكن أن تغير العالم نحو الأفضل، ولكن فقط إذا تمكنا من إدارة آثارها الجانبية السلبية، وفقط إذا استُـخـدِمَـت لحل كل التهديدات الجسيمة التي نواجهها. لا يملك المرء إلا أن يأمل أن يتغلب الذكاء الاصطناعي يوما ما على غباء البشر. لكنه لن يحظى بالفرصة أبدا إذا دمرنا أنفسنا أولا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المنتدى الاقتصادی العالمی الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
اختبار «جوجل» الجديد ومواجهة أدوات الذكاء الاصطناعي
تواجه شركة «جوجل» مالكة أكبر وأشهر محرك بحث على شبكة الويب تحديا جديدا قد يعجل بنهاية سيطرتها على سوق محركات البحث في العالم. التحدي الجديد ليس قانونيا كما كان الحال منذ شهور وما زال مستمرا سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها ويسعى إلى تفتيت تلك الإمبراطورية الرقمية العملاقة، ولكنه تحد من داخل الصناعة نفسها. الأسبوع الماضي أعلنت شركة «اوبن ايه آي» للذكاء الاصطناعي عن إصلاح شامل لبرنامجها الشهير «شات جي بي تي» الذي تم إطلاقه في العام 2022، وبلغ عدد مستخدميه وفقا لوكالة رويترز نحو 200 مليون مستخدم نشط أسبوعيا، يمكّن روبوت المحادثة من البحث في الويب وتقديم إجابات بناءً على ما يجده على الشبكة، وهو ما يجعله في منافسة مباشرة مع «جوجل»، محرك البحث العملاق والأكثر استخداما في العالم. ويمكن أن تمثل هذه الخطوة بداية النهاية لمحركات البحث التقليدية وظهور محركات بحث جديدة تمزج بين وظائف البحث على الويب، وبين تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما قد يمثل فتحا جديدا في عالم الإعلام الرقمي. صحيح أن المنافسة مع «جوجل تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة، خاصة إذا علمنا أن محرك بحث «جوجل» هو الأكثر شعبية في العالم ويستخدمه حوالي 4.3 مليار مستخدم حول العالم ويتم إجراء أكثر من سبعين ألف عملية بحث عليه في كل ثانية، وهو ما يعادل حوالي 5.4 مليار عملية بحث يوميا، ومع ذلك فان إقدام «اوبن آي» على هذه الخطوة تمثل بداية قد تتلوها محاولات أخرى من شركات أخرى لمواجهة طغيان جوجل على سوق محركات البحث على الويب، ونقطة انطلاق لتطوير محركات بحث بديلة للعثور على المعلومات من الويب واستهلاكها. وتتمثل قيمة التحول الأخير في «اوبن آي» في كونه سوف يمكن المشتركون في «شات جي بي تي» من الحصول على المعلومات الأحدث أثناء الرد على استفساراتهم من خلال البحث في شبكة الويب عن المعلومات الجديدة وتلخيصها وعدم الوقوف عند حد البيانات القديمة كما كان الأمر سابقا. ابتداءً من الخميس الماضي، أصبح بمقدور المشتركين في «شات جي بي تي» تفعيل خاصية جديدة تتيح لأداة الذكاء الاصطناعي الرد على الاستفسارات من خلال البحث في الويب عن أحدث المعلومات وتلخيص ما تجده، وليس فقط تقديم إجابات بناءً على البيانات القديمة السابق تغذية روبوت المحادثة بها. وتعتمد وظيفة البحث الجديدة في «شات جي بي تي» على محرك البحث «بنج» التابع لشركة ميكروسوفت والذي صدرت نسخة جديدة منه في العام الماضي يحتوي على تقنية الذكاء الاصطناعي المستخدمة في «شات جي بي تي»، وصاحبة ثاني أكبر محرك بحث على الويب، والداعم الرئيس لـشركة «أوبن آي»، كما تعتمد أيضًا على أرشيفات كبار الناشرين الذين تم توقيع صفقات معهم وأهمهم مجموعة «نيوزكوربريشن الناشر لصحيفة «وول ستريت جورنال» ووكالة «الاسوشيتدبرس» أو «الصحافة المتحدة. ولعل هذا ما يجعل برنامج شركة الذكاء الاصطناعي أكثر قربا من محرك البحث التقليدي، وقادرة بالفعل على منافسة «جوجل» وغيها من الشركات المنافسة في سوق محركات البحث. لقد حاولت «جوجل» استجابة للمنافسة المتزايدة مع برامج الدردشة الآلية استباق الأحداث ودخول عالم برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي عن طريق تقدم ملخصات يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي للمستخدمين لمحرك بحثها، جنبا إلى جنب مع تقديم نتائج البحث التقليدية، ومع ذلك فإن غالبية المستخدمين ما زالوا ينظرون إلى «جوجل» باعتباره محرك بحث يقودهم إلى مواقع أخرى على الويب، خاصة بعد الفشل الذي منيت به التجربة الأولى التي بدأتها مع بعض المستخدمين داخل الولايات المتحدة في مايو الماضي، وقررت بعد أسبوعين فقط من إطلاقها تقليص استخدام الإجابات التي يولدها الذكاء الاصطناعي بعد أن تهكم المستخدمون على بعض الإجابات الغريبة مثل نصح أحد المستخدمين بوضع الصمغ على البيتزا وتأكيد أن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما كان مسلما، بالإضافة إلى إجابات تتعلق بالصحة وكانت كانت إحدى الإجابات توصي الناس بشرب كميات كبيرة من البول للمساعدة في التخلص من حصوات الكلى. وواجهت التجربة أيضا اعتراضات من الناشرين الذين تستعين «جوجل» بمحتوى مواقعهم وإعادة تقديمه للمستخدمين مباشرة في نتائج البحث لوهم ما يحرم هؤلاء الناشرين من حركة المرور على هذه المواقع وفقدان عائدات الإعلان. في تقديري أن التغيرات التي أدخلتها شركة «اوبن آي» على نسختها المدفوعة من «شات جي بي تي» وتحولها إلى محرك للبحث أيضا تجعل هذا البرنامج أكثر فائدة وأكثر دقة، ويقلل من أخطاء المعلومات في الرد على الأسئلة والاستفسارات إلى حد كبير. ولن يتوقف تأثير هذه الخطوة على اشتعال المنافسة بين شركات الذكاء الاصطناعي وشركات محركات البحث العملاقة فقط وإنما سوف يمتد إلى جميع محاور اقتصاديات الإنترنت، والإعلام الرقمي. وتبقى هناك بعض القضايا العالقة في هذا التحول الذي يمكن أن نصفه «بالتاريخي»، وأهمها القضايا الأخلاقية التي تثيرها برامج الذكاء الاصطناعي والتي قد تتضخم مع تحول هذه البرامج إلى محركات للبحث، وعلى رأسها قضية الملكية الفكرية والسطو على جهود أفراد ومؤسسات أخرى وسرقة المحتوى وانتحاله وهو ما يتهم به الناشرون ومطورو برامج الذكاء الاصطناعي. وقد أقامت بعض المؤسسات الإخبارية دعوى قضائية بالفعل ضد «أوبن آي» تتعلق بانتهاك حقوق النشر. لقد ظلت «جوجل» ولأكثر من عقد من الزمان البوابة الرئيسية إلى شبكة الويب بعد أن تخلصت من عدد كبير من شركات محركات البحث المنافسة من أشهرها محرك بحث نيتسكيب الذي كان يسيطر على سوق متصفحات الويب في تسعينات القرن الماضي وكانت تستحوذ على 90 بالمائة من السوق، ولكنها سرعان ما تراجعت وخرجت من السوق، لحساب متصفح «انترنت اكسبلورر» الذي أطلقته شركة مايكروسوفت، الذي تحول إلى متصفح «ايدج» وتم إطلاقه لأول مرة في عام 2015. فهل يجري عليها ما جرى لشركات محركات البحث الأخرى لصالح شركات وبرامج الذكاء الاصطناعي؟ الواقع إن إجابة هذا السؤال قد تتأخر لسنوات لأننا أمام عملاق يسيطر على نحو 92 بالمائة من سوق متصفحات الويب ولا يمكن هزيمته وإخراجه من السوق بسهولة. ما نعلمه يقينا أن التطورات التكنولوجية المتسارعة لن تتوقف وأن العالم لن يكف عن الإبداع والابتكار في مجال الإعلام الرقمي. كل يوم تقريبا هناك جديد نقف أمامه مندهشين ومتسائلين عن الحدود التي يمكن أن يصل لها التنافس المحموم بين شركات التقنية العملاقة للسيطرة على العالم الرقمي. |