لجريدة عمان:
2024-10-01@21:30:58 GMT

خطأ نبوءة توماس فريمان بعودة الثنائية القطبية

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

في مقالة رأي طويلة بصحيفة نيويورك تايمز، يعلن الخبير توماس فريدمان عن «صراع جيوسياسي هائل بين شبكتين متعارضتين من الدول والفاعلين غير الحكوميين، كل منهما تريد الهيمنة لقيمها ومصالحها على عالم ما بعد الحرب الباردة» (نيويورك تايمز، 26 يناير 2024، صفحة A26). وليس هذا بالتصور السخيف. فالهيمنة أحادية القطب جوهريا التي حظيت بها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة تتعرض ولا شك للقصف، فيما بدأت تشكيلات من القوى والنفوذ في التكون.

لكن وصف فريدمان للصراع الناشئ لا يعدو خليطا غير ناضج من النظرية والأخلاقية الأولية. إذ يبدو أشبه بمعلق رياضي على مباراة بين الأشرار والأبطال من المصارعين أو الملاكمين.

مرحبا بكم في صراع القرن! في الركن الأقصى من الحلبة (شبكة المقاومة)، وتشكيلها يتكون من بلاد من قبيل إيران وروسيا ومنظمات من قبيل حماس وحزب الله، وهي شبكة «مكرسة للحفاظ على أنظمة منغلقة استبدادية يدفن الماضي فيها المستقبل» (يمكن الآن أن يعلو صفيركم). وفي ركن الحلبة القريب يوجد، لا، ليس روكي بالبوا، وإنما (شبكة الاحتواء) «التي تحاول صياغة أنظمة أكثر انفتاحا وترابطا وتعددية يدفن المستقبل فيها الماضي».

خمِّنوا إلى أي شبكة تنتمي الولايات المتحدة وبلاد الناتو وإسرائيل وأوكرانيا! نحن في بلاد «المتعلمنين، التعدديين، المنطلقين بدافع من السوق»، نحن موجة المستقبل، وعلى حد تعبير فريدمان، نحن موطن «مؤتمرات الأعمال، ومؤسسات الأخبار، والنخب، وصناديق التحوط، وحاضنات التكنولوجيا، وطرق التجارة الرئيسية». شارع وول ستريت هو الشارع الرئيسي عندنا. نحن الذين ننسج معا الأشياء كما ينبغي أن يفعل أنصار عولمة التكنولوجيا المتقدمة، فلا يقتصر جزاؤنا على القوة والشرعية.

أما أشرار المقاومة في المقابلة فيريدون الرجوع بنا إلى عفن الماضي وتنافس القوى العظمى والثقافات الرجعية. لا يحسنون شيئا عدا «الهدم والتخريب». فما الذي يقاومونه على وجه التحديد؟ لا يستطيع فريدمان أو لا يريد أن يقول. خلاصة ما يصل إليه هو أن أعضاء هذه الشبكة «لا يبدون مقدرة على إقامة حكومة أو مجتمع يود شخص أن يهاجر إليه، ناهيكم عن أن يحاكيه»، بينما يمتلك الاحتوائيون في المقابل «القدرة على إعادة تعريف هياكل القوة وخلق نماذج جديدة للاستقرار الإقليمي».

عجبا! سيجد الذين يبلغون من العمر ما يكفي لأن يتذكروا الحرب الباردة أنهم يألفون تمام الألفة هذا الضرب من تحليل الأخيار في مقابل الأشرار (إن جاز أن يوصف بالتحليل أصلا). نحن «العالم الأحر»، الأقوياء أصحاب الفضيلة، كنا فريق السياسة الحرة، والمشاريع الحرة، وساحات القتال الحرة. وهم المتآمرون الشيوعيون ما كانوا يناصرون إلا اللاحرية. كنا نحن المستقبل التقدمي، بل أن سدنة الحرب الباردة من أمثال فرانك فوكوياما كانوا يعلِّمون الطلبة أنه لن يوجد بعدنا تاريخ. هم كانوا الماضي الهمجي المنتمي إلى ما قبل التاريخ.

وفي بقية مقاله يتناول فريدمان الآثار السياسية المترتبة على هذه الصور النمطية. ومن ذلك مثلا أننا (أي الولايات المتحدة) ينبعي أن نمنح الأوكرانيين كل ما يطلبونه لمحاربة الروس وأكثر، وذلك لأنهم يمثلون مصالح شبكة الاحتواء في أوروبا، ونمنحهم ذلك بسعر مخفض. ويجب أن نقنع بيبي نتانياهو بقبول «دويلة» فلسطينية عديمة الأذى حتى يتسنى لإسرائيل ودول الخليج أن يصبحوا «مركزا للثقافة والاستثمار والمؤتمرات والسياحة والتصنيع» يسيطر على الشرق الأوسط ويقوض قوة شبكة المقاومة.

افترضوا لوهلة أن ثنائية قطبية جديدة تنشأ في الشؤون الدولية، حيث روسيا وإيران والصين وحلفاؤها في جانب (برغم أن تعامل فريدمان الشاذ مع الصين ـ وسنناقش هذا بعد لحظة ـ تعكر الصفو) والولايات المتحدة وحلفاؤها في الجانب الآخر. لو أن الأمر كذلك، ما الذي يحرك الصراع؟ علام يدور الصراع؟ وماذا عن اللاعبين الأساسيين غير المنحازين حتى الآن، من قبيل البرازيل وتركيا والهند؟ إن الرد الأخلاقي في الحرب الباردة الجديدة هو التمييز بين ما «لنا» من مؤسسات أرقى ونوايا خيرة وما «لهم» من مؤسسات أدنى ونوايا آثمة، واعتبار عدم الانحياز منافاة للأخلاق. لكن هذا كله لا يمنحنا مدخلا إلى فهم الأفكار والمشاعر والمصالح الحقيقية الفاعلة في كلا الجانبين.

وصمت فريدمان عن هذا الصدد صمت محسوب. فما لا يريد الاعتراف به هو أن المقاومين إنما يقاومون سيطرة الدول الأغنى والأفضل تسليحا في تاريخ العالم، أي الولايات المتحدة وحلفائها في مجموعة السبعة، خلفاء الإمبراطوريات الأوروبية التي استعمرت واستغلت شعوب العالم غير الغربية منذ القرن السادس عشر وما بعده. وفور أن يدرك المرء الطبيعة التاريخية لهذه المقاومة، يفهم أن الصين -التي كانت من قبل أفقر بلاد الأرض والبلد الذي تعرض لأقسى أشكال الاستعمارـ ليست محض عضو في هذه الشبكة وإنما هي زعيمتها.

وهذا بطبيعة الحال هو السبب الذي يجعل نخبة الولايات المتحدة شديدة اللهفة حاليا إلى إقامة «محور» من الشؤون الأوروبية والشرق أوسطية إلى آسيا، وسبب السعي الحثيث إلى إقامة معادل آسيوي للناتو يضم اليابان بعد إعادة تسليحها وكوريا وتايوان.

ومع ذلك لا يعترف الخبير بالصين شريكا في «الصراع السياسي الهائل» الذي يزعم أنه يصفه، وبالطبع لا يعترف بزعامتها عليه. وبدلا من ذلك نراه يصف العملاق الآسيوي بالحياد. فالقادة الصينيون «بقلوبهم، وبجيوبهم في أغلب الحالات، في صف المقاومين» في ما يرى «لكن رؤوسهم في صف الاحتوائيين». وللوهلة الأولى يبدو هذا التصنيف غريبا تام الغرابة. ثم يفكر المرء في الجهود الصينية لإحلال السلام بين الشبكتين المتنافستين، من قبيل مساعي بكين إلى الوساطة بين إيران والمملكة العربية السعودية. غير أن دافع فريدمان يتضح في النهاية، وهو أن الصين مستثناة من شبكة المقاومة؛ لأنها اقتصاديا وتكنولوجيا شديدة التقدم! قد يكون حكمها استبداديا لكنه لا يلائم الصورة النمطية للمجتمع بادي التخلف الراكد اقتصاديا عديم المستقبل الذي يقيمه الخبير من أجل أن ينال من المقاومين.

«رؤوسهم مع الاحتوائيين» حقا! ولكن ما من شك يذكر في أن الصينيين سوف يستمرون في تحدي سيادة الولايات المتحدة وحلفائها على كل الجبهات تقريبا، باستعمال برامج من قبيل «مبادرة الحزام والطريق» ومنظمات من قبيل منظمة شنغهاي للتعاون وتحالف البريكسفي تحقيق أهدافهم وأهداف المقاومين. وقد نجد نفعا حقيقيا في الصورتين النمطيتين الاستعماريتين الجديدتين اللتين يطرحهما فريدمان للاحتوائيين التقدميين والمقاومين المتخلفين في تحديد أهدافهما. فالقوى الإمبريالية زعمت دائما السيادة الثقافية والسياسية على رعاياها، ولطالما كانت أكثر «تقدما» من أوجه معينة. فالثروة العظيمة والأمن المادي يعطيان السادة مساحة للمناورة، والمخاطرة، والابتكار تفوق المساحة الممنوحة لخدمهم المفقرين المعرضين للخطر. لكن في حال تعامي المرء عن الانقسام الأساسي بين «كلاب القمة» و«كلاب القاع» (بتعبير يوهان جالتونج)، تغيب عنه تماما النقطة التي تلتقي فيها القوة و«التنمية».

لا يريد المقاومون احتواءهم في نظام السادة العالمي. إنما يريدون القوة لتقرير مصيرهم. ومثلما كتب فرانز فانون في «المعذبون في الأرض» فإن أبناء البلد لا يريدون مكانة المستوطنين، إنما «يريدون مكانه». كذلك كتب فانون منتقدا عجز أبناء البلد الأوليجاركيين والسياسيين المرتبطين بالشبكات الاستعمارية والاستعمارية الجديدة عن تمثيل قيم شعبهم ومصالحه الحقيقية. ولقد حان الوقت لأن تنتهي السيادة العالمية الغربية، لكننا لم نر بعد هل سيكون النظام الجديد الذي يقول به المقاومون سيكون أكثر من محض نسخة محدثة من الحكم الإمبريالي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الحرب الباردة من قبیل

إقرأ أيضاً:

الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة ستنسق الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية مع إسرائيل

الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة ستنسق الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية مع إسرائيل

مقالات مشابهة

  • الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة ستنسق الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية مع إسرائيل
  • الولايات المتحدة تعترض عددا من الصواريخ الإيرانية الموجهة لإسرائيل
  • الأنبا توماس يستقبل الزائر العام للرهبنة الفرنسيسكانية
  • حصيلة قتلى إعصار هيلين في الولايات المتحدة ترتفع لـ93 شخصاً
  • الوزير صباغ: لا يمكن فصل جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي وعدوانها المستمر على سورية عن الدور التخريبي الذي انتهجته بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث واصلت تلك الدول انتهاك سيادة سورية ووحدة وسلامة أراضيها عبر استمرار وجود قوات
  • البيجر ودور الولايات المتحدة
  • الإعلام الإسرائيلي: الغارات على الحديدة تمت بالتنسيق مع الولايات المتحدة
  • وزير الخارجية يبحث تعزيز العلاقات الثنائية مع نظيره الفنزويلي
  • وزير الخارجية يستعرض مع نظيره الفنزويلي العلاقات الثنائية بين البلدين
  • لافروف: إسرائيل تريد جر الولايات المتحدة للحرب