في روايتها السابقة «سقوط حرّ» (منشورات «نوفل» 2019، بيروت)، ثمة مقطع تكتبه الروائية السورية عبير اسبر، قد يصلح ليكون مدخلا إلى قراءة روايتها الجديدة «ورثة الصمت» (الناشر عينه، 2024)؛ تقول الكاتبة عن لسان الراوية: «بعد هروبي من دبيّ، وهروبي من بيروت، وهروبي من الفقر... ظننت أنّي رميت تاريخ المدن وتاريخي الشخصي ورائي، ظننت أنّي أستطيع نسيان من أكون والبدء من صفر حقيقي، أو من تحت الصفر، ظننت أن مدن الشرق، شموسها، فسادها، حروبها، رعبها، أصبحت ورائي وها أنا أغادر إلى أبعد نقطة مأهولة على سطح هذا الكوكب، لعلّي أنسى».
وما هذه النقطة المأهولة، الأبعد على سطح الكوكب، التي تشير إليها، هنا، سوى كندا. فالروائية أيضا، غادرت بلادها مع أولى سنوات الأزمة في سوريا، لتهاجر «نهائيا»، بعد أن مرّت ببيروت ودبي، لتختار أخيرا، تلك النقطة القصيّة للسكن والإقامة وبالطبع... الكتابة (الروايتان الأخيرتان مكتوبتان في كندا)، وربما للنسيان، نسيان حياة ماضية، تصفها لنا مليئة بالرعب والموت والتعب (بعيدا عن أي لحظات جميلة، حقيقية، كأنها لم تعرف ذلك مطلقا، في العمق).
وإذا كانت رواية «سقوط حرّ» تصف لنا شخصيات في صراع مع قدرها، في مدينة دمشق، ما قبل الأزمة وخلالها، تأتي الرواية الجديدة «ورثة الصمت» لتصف أيضا صراعات شخصيات - قد تتشابك فيما بينها عبر مصائرها وعبر قِيم مع شخصيات الرواية الأولى - لكن هذه المرة في مدينة حمص. وكأنها بذلك تريد القول والإشارة إلى أن كلّ الأمكنة في سوريا أصبحت متشابهة في الموت. لكن المفارقة، أن ما أعلنته الكاتبة عن النسيان، لم يكن إلا هذا الوهم الكبير، الذي لم تستطع القيام به: فكل ما تفعله في الروايتين هو العودة إلى الذاكرة وإعادة صوغ لحظاتها، لتقدم لنا صورة عن عائلة داغر بتشظيها المستمر، بهجراتها الدائمة، وبمحاولة العودة إلى المدينة الأساسية التي انطلقت منها: دمشق أو حمص المدينة كما منطقة وادي النصارى فيها بشكل خاص. واللافت أن الكاتبة تُوَقع الرواية الأخيرة باسم عبير داغر اسبر، وكأنها بذلك تحيلنا إلى جانب من سيرة ذاتية، أو لأقل إلى جانب من كتابة تنطلق فيما يُعرف اليوم في الأدب باسم «التخييل الذاتي». لكن الأهم ليس هنا، ليس في البحث عن تشابه بين حياة الراوية والروائية، فالرواية، تذهب إلى ما هو أعمق بكثير: تذهب بالدرجة الأولى إلى مفهومَيّ الذاكرة والنسيان، وارتباطهما بالمكان؛ والمكان يفضي بدوره إلى مفهوم آخر: الهجرة والإقامة. وكأننا اليوم، في بعض الروايات المكتوبة بالعربية، نعود لنستعيد هذه الثيمة الأخيرة، ثيمة الهجرة، التي وجدناها في بعض أولى الروايات المكتوبة بلغة الضاد. وإذا كنّا نجد ذلك فلأن السؤال الذي يُطرح: ما الذي فعلناه طيلة قرن (على الأقل) من بناء مجتمعاتنا الوطنية، سوى التفكير بالهجرة لا بالإقامة في بلداننا؟
لكن هل نحن نغادر فعلا؟ هل نهاجر؟ هنا تكمن الإشكالية الكبرى عند العديد من المهاجرين، وقد يكون من المفيد أيضا التمييز بين حيّز الهجرة والمنفى. فالمنفي «بداهة» قد لا يستطيع العودة إلى وطنه، على العكس من المهاجر، الذي يمكن له ذلك. من هنا، نجد أن شخصيات «ورثة الصمت» ليست سوى هذه الطيور المهاجرة، التي تعود إلى وطنها على الأقل مثلما يقرر سامي قدسي أن يفعل في النهاية مع ابنته التي كانت حاولت الانتحار في كندا، قبل أن يقنعها برحلة العودة هذه. صحيح أنها عودة إلى مدينة مدمرة، وإلى مدينة أصبحت خارج إطار السلطة الرسمية، لكنها عودة حيوية إذا جاز التعبير، إذ كما يقول: «كي نلم لحمنا الضائع في بشاعة الأمكنة، سننقذ نسل عائلتنا من أحكام الكراهية وعفن الحاضر»... هل سوف يستطيع ذلك؟ وبخاصة أنه سيبحث عن «حسن» (أخ ابنته) الذي انتمى للمقاتلين؟ هل هذا هو المستقبل؟ ليس علينا التكهن بذلك، فالكاتبة تقدم لنا الجواب في السطور الأخيرة التي تكتبها: «... سأمر ببيتك وسأطرق على بابك لأحمل جسدك الضئيل مع باقي الحقائب، سأطرق وأطرق لأيام ولليالٍ. / ولن تفتحي».
إشكالية المهاجر أنه لا ينسى، بل يعيش في الماضي دوما. كلّ ما يفعله ليس سوى محاولة لردم هذه الهوة التي تفصله عن ذكرياته، بالذكرى، أي باستعادة كل ما هو قديم، وكأن الحاضر -غير الموجود بعمق تقريبا- ليس سوى محطة عابرة، ستعيدنا إلى ذاك الزمن الذي جئنا منه. كل الرواية، هي هذه المحاولة لاستعادة تفاصيل ذاك الزمن، والبناء عليه، محاولة لمساءلته أيضا والنبش في خفاياه لعلنا نجد إجابة عمّا قادنا إلى ذلك كله. من هنا، قد لا نجد أجوبة على التساؤلات التي يطرحها النص الروائي، بل نجد أسئلة متلاحقة، تتفرع منها أسئلة لا تنتهي. ربما لأن ميزة الأدب الحقيقي، هو قدرته على طرح الأسئلة، لا في تقديم أجوبة. حين يجد جوابًا، لا يعود أدبا بالطبع.
ترتكز رواية «ورثة الصمت» على خلفية ملحمية، بمعنى أنها تجعلنا نقرأها كصراع بين «آلهة» وبين مصائر أشخاص لا يعرفون سوى التيه. عديدة هي المراجع، أو لنقل الجُمل، التي تستعيدها الكاتبة، من الملاحم والأساطير الإغريقية التي تقودنا إلى مثل هذه القراءة. والحال كذلك، أجدني أيضا منساقا إلى تشبيه الكتاب بــ«صندوق باندورا» المذكور في قصيدة أعمال هسيود. تقول الأسطورة، أن فضول باندورا قادها إلى فتح هذا الصندوق الذي وُضع بحماية زوجها، وما إن فعلت حتى انطلقت اللعنات الجسدية والعاطفية على الإنسانية. فقد كان يحتوي على كل الشرور (التي خرجت منه)، كما على كل سحر التلميحات الأكثر لفتًا للانتباه وفي الوقت عينه الأكثر حساسية. إذ ليس هناك ما هو أكثر سحرا من أصل معاناتنا هذه. بمعنى آخر صندوق باندورا هو أيضا حكاية مخترعة للتنبؤ بأصل الشر ومن أين يأتي. ما أن تفتح «ورثة الصمت» حتى تفيض هذه اللعنات المختلفة.
هذا ما ترغب فيه الروائية: إحالتنا إلى السبب. وقد نختلف كثيرا في وجهة النظر هذه، بمعنى أنني أعترف بكوني على طرف نقيض مع ما ترمي إليه الكاتبة، لكنني لا أختلف معها على هذه الإنسانية التي لم نعرف لغاية الآن كيف نتدبرها، ولا على الأدب المكتوب بجمالية فارعة، (فما زلت عند رأيي، يجب أن نقرأ الأدب لا المواقف)، لكن الأصعب من ذلك كله هو أن نتخيل التالي: أن تكون الرواية المكتوبة بالعربية اليوم هي رواية الحروب المتنقلة والدمار الذي يصيبنا، من بلد إلى آخر.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما هو صاروخ "فاتح 110" الذي قصف به حزب الله تل أبيب؟
بيروت - صفا
أعلن حزب الله اللبناني، أنه قصف يوم الأربعاء، قاعدة "تسرفين" قرب مطار"بن غوريون" جنوب تل أبيب، مستخدما صاروخ "فاتح 110"، وهذه المرة الأولى التي يستخدم فيها حزب الله هذا النوع من الصواريخ منذ انطلاق الحرب.
وقال حزب الله في بيان: " استهدف مجاهدونا قاعدة تسرفين (التي تحتوي على كليات تدريب عسكرية) بالقرب من مطار بن غوريون جنوب تل أبيب بصليةٍ من الصواريخ النوعية".
وأوضح في مشاهد نشرها مساء اليوم، أن قطر الصاروخ يبلغ 616 ملم، وطوله 8.8 م، فيما يبلغ وزنه 3450 كيلو غرام، ووزن الرأس الحربي 500 كيلو غرام، بينم ايصل مداه لـ 300 كم.
وأشار إلى أن صاروخ "فاتح 110" هو صاروخ أرض أرض نقطوي، يستخدم في قصف الأهداف الحيوية بدقة تصل إلى 10م.
وفي وقت سابق اليوم، أعلن جيش الاحتلال وفق ترجمة وكالة "صفا"، عن سقوط صاروخ داخل مطار بن غوريون شرقي تل أبيب.