لجريدة عمان:
2025-03-14@18:49:32 GMT

صندوق باندورا

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

صندوق باندورا

في روايتها السابقة «سقوط حرّ» (منشورات «نوفل» 2019، بيروت)، ثمة مقطع تكتبه الروائية السورية عبير اسبر، قد يصلح ليكون مدخلا إلى قراءة روايتها الجديدة «ورثة الصمت» (الناشر عينه، 2024)؛ تقول الكاتبة عن لسان الراوية: «بعد هروبي من دبيّ، وهروبي من بيروت، وهروبي من الفقر... ظننت أنّي رميت تاريخ المدن وتاريخي الشخصي ورائي، ظننت أنّي أستطيع نسيان من أكون والبدء من صفر حقيقي، أو من تحت الصفر، ظننت أن مدن الشرق، شموسها، فسادها، حروبها، رعبها، أصبحت ورائي وها أنا أغادر إلى أبعد نقطة مأهولة على سطح هذا الكوكب، لعلّي أنسى».

..

وما هذه النقطة المأهولة، الأبعد على سطح الكوكب، التي تشير إليها، هنا، سوى كندا. فالروائية أيضا، غادرت بلادها مع أولى سنوات الأزمة في سوريا، لتهاجر «نهائيا»، بعد أن مرّت ببيروت ودبي، لتختار أخيرا، تلك النقطة القصيّة للسكن والإقامة وبالطبع... الكتابة (الروايتان الأخيرتان مكتوبتان في كندا)، وربما للنسيان، نسيان حياة ماضية، تصفها لنا مليئة بالرعب والموت والتعب (بعيدا عن أي لحظات جميلة، حقيقية، كأنها لم تعرف ذلك مطلقا، في العمق).

وإذا كانت رواية «سقوط حرّ» تصف لنا شخصيات في صراع مع قدرها، في مدينة دمشق، ما قبل الأزمة وخلالها، تأتي الرواية الجديدة «ورثة الصمت» لتصف أيضا صراعات شخصيات - قد تتشابك فيما بينها عبر مصائرها وعبر قِيم مع شخصيات الرواية الأولى - لكن هذه المرة في مدينة حمص. وكأنها بذلك تريد القول والإشارة إلى أن كلّ الأمكنة في سوريا أصبحت متشابهة في الموت. لكن المفارقة، أن ما أعلنته الكاتبة عن النسيان، لم يكن إلا هذا الوهم الكبير، الذي لم تستطع القيام به: فكل ما تفعله في الروايتين هو العودة إلى الذاكرة وإعادة صوغ لحظاتها، لتقدم لنا صورة عن عائلة داغر بتشظيها المستمر، بهجراتها الدائمة، وبمحاولة العودة إلى المدينة الأساسية التي انطلقت منها: دمشق أو حمص المدينة كما منطقة وادي النصارى فيها بشكل خاص. واللافت أن الكاتبة تُوَقع الرواية الأخيرة باسم عبير داغر اسبر، وكأنها بذلك تحيلنا إلى جانب من سيرة ذاتية، أو لأقل إلى جانب من كتابة تنطلق فيما يُعرف اليوم في الأدب باسم «التخييل الذاتي». لكن الأهم ليس هنا، ليس في البحث عن تشابه بين حياة الراوية والروائية، فالرواية، تذهب إلى ما هو أعمق بكثير: تذهب بالدرجة الأولى إلى مفهومَيّ الذاكرة والنسيان، وارتباطهما بالمكان؛ والمكان يفضي بدوره إلى مفهوم آخر: الهجرة والإقامة. وكأننا اليوم، في بعض الروايات المكتوبة بالعربية، نعود لنستعيد هذه الثيمة الأخيرة، ثيمة الهجرة، التي وجدناها في بعض أولى الروايات المكتوبة بلغة الضاد. وإذا كنّا نجد ذلك فلأن السؤال الذي يُطرح: ما الذي فعلناه طيلة قرن (على الأقل) من بناء مجتمعاتنا الوطنية، سوى التفكير بالهجرة لا بالإقامة في بلداننا؟

لكن هل نحن نغادر فعلا؟ هل نهاجر؟ هنا تكمن الإشكالية الكبرى عند العديد من المهاجرين، وقد يكون من المفيد أيضا التمييز بين حيّز الهجرة والمنفى. فالمنفي «بداهة» قد لا يستطيع العودة إلى وطنه، على العكس من المهاجر، الذي يمكن له ذلك. من هنا، نجد أن شخصيات «ورثة الصمت» ليست سوى هذه الطيور المهاجرة، التي تعود إلى وطنها على الأقل مثلما يقرر سامي قدسي أن يفعل في النهاية مع ابنته التي كانت حاولت الانتحار في كندا، قبل أن يقنعها برحلة العودة هذه. صحيح أنها عودة إلى مدينة مدمرة، وإلى مدينة أصبحت خارج إطار السلطة الرسمية، لكنها عودة حيوية إذا جاز التعبير، إذ كما يقول: «كي نلم لحمنا الضائع في بشاعة الأمكنة، سننقذ نسل عائلتنا من أحكام الكراهية وعفن الحاضر»... هل سوف يستطيع ذلك؟ وبخاصة أنه سيبحث عن «حسن» (أخ ابنته) الذي انتمى للمقاتلين؟ هل هذا هو المستقبل؟ ليس علينا التكهن بذلك، فالكاتبة تقدم لنا الجواب في السطور الأخيرة التي تكتبها: «... سأمر ببيتك وسأطرق على بابك لأحمل جسدك الضئيل مع باقي الحقائب، سأطرق وأطرق لأيام ولليالٍ. / ولن تفتحي».

إشكالية المهاجر أنه لا ينسى، بل يعيش في الماضي دوما. كلّ ما يفعله ليس سوى محاولة لردم هذه الهوة التي تفصله عن ذكرياته، بالذكرى، أي باستعادة كل ما هو قديم، وكأن الحاضر -غير الموجود بعمق تقريبا- ليس سوى محطة عابرة، ستعيدنا إلى ذاك الزمن الذي جئنا منه. كل الرواية، هي هذه المحاولة لاستعادة تفاصيل ذاك الزمن، والبناء عليه، محاولة لمساءلته أيضا والنبش في خفاياه لعلنا نجد إجابة عمّا قادنا إلى ذلك كله. من هنا، قد لا نجد أجوبة على التساؤلات التي يطرحها النص الروائي، بل نجد أسئلة متلاحقة، تتفرع منها أسئلة لا تنتهي. ربما لأن ميزة الأدب الحقيقي، هو قدرته على طرح الأسئلة، لا في تقديم أجوبة. حين يجد جوابًا، لا يعود أدبا بالطبع.

ترتكز رواية «ورثة الصمت» على خلفية ملحمية، بمعنى أنها تجعلنا نقرأها كصراع بين «آلهة» وبين مصائر أشخاص لا يعرفون سوى التيه. عديدة هي المراجع، أو لنقل الجُمل، التي تستعيدها الكاتبة، من الملاحم والأساطير الإغريقية التي تقودنا إلى مثل هذه القراءة. والحال كذلك، أجدني أيضا منساقا إلى تشبيه الكتاب بــ«صندوق باندورا» المذكور في قصيدة أعمال هسيود. تقول الأسطورة، أن فضول باندورا قادها إلى فتح هذا الصندوق الذي وُضع بحماية زوجها، وما إن فعلت حتى انطلقت اللعنات الجسدية والعاطفية على الإنسانية. فقد كان يحتوي على كل الشرور (التي خرجت منه)، كما على كل سحر التلميحات الأكثر لفتًا للانتباه وفي الوقت عينه الأكثر حساسية. إذ ليس هناك ما هو أكثر سحرا من أصل معاناتنا هذه. بمعنى آخر صندوق باندورا هو أيضا حكاية مخترعة للتنبؤ بأصل الشر ومن أين يأتي. ما أن تفتح «ورثة الصمت» حتى تفيض هذه اللعنات المختلفة.

هذا ما ترغب فيه الروائية: إحالتنا إلى السبب. وقد نختلف كثيرا في وجهة النظر هذه، بمعنى أنني أعترف بكوني على طرف نقيض مع ما ترمي إليه الكاتبة، لكنني لا أختلف معها على هذه الإنسانية التي لم نعرف لغاية الآن كيف نتدبرها، ولا على الأدب المكتوب بجمالية فارعة، (فما زلت عند رأيي، يجب أن نقرأ الأدب لا المواقف)، لكن الأصعب من ذلك كله هو أن نتخيل التالي: أن تكون الرواية المكتوبة بالعربية اليوم هي رواية الحروب المتنقلة والدمار الذي يصيبنا، من بلد إلى آخر.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

فيلادلفيا.. محور الموت الذي يمنع أهالي رفح من العودة

غزة- منذ نزوحها قسرا قبل 10 شهور، لم تتمكن الفلسطينية هدية أبو عبيد من العودة لمدينتها رفح، حيث لا تزال إسرائيل تسيطر على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الممتد بين قطاع غزة ومصر.

ويفرض جيش الاحتلال بقوة النيران وعمليات التوغل المستمرة حدودا غير ثابتة لما توصف بـ"المناطق الحمراء" في رفح، صغرى مدن القطاع، ويستهدف كل من يحاول الاقتراب منها بعمق يصل لنحو كيلومترين اثنين.

وخلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية في غزة وإسرائيل، قتل الاحتلال نحو 50 فلسطينيا أثناء محاولتهم العودة لمنازلهم في رفح.

هدية تعيش حياة بائسة في خيمة النزوح بمدينة خان يونس (الجزيرة) أمل العودة

هذه المخاطر تمنع أبو عبيد (55 عاما)، والغالبية من حوالي 300 ألف نسمة من سكان رفح، من العودة إليها، ولا يزال أكثرهم يقيمون في خيام بمنطقة المواصي غرب مدينة خان يونس.

وتقول أبو عبيد، التي تقيم بخيمة مع أسرتها المكونة من 5 أفراد، للجزيرة نت "كل النازحين رجعوا إلى غزة والشمال ولكل المناطق، إلا نحن سكان رفح"، وتتساءل "فهمونا يا ناس، هل رفح خارج الاتفاق؟".

وتنتشر على حسابات سكان المدينة على منصات التواصل الاجتماعي تساؤلات كثيرة حول واقع رفح، وسط غضب كبير لعدم قدرتهم على العودة إليها.

إعلان

وتعلم هدية أن منزلها في "مخيم يبنا" للاجئين الملاصق للحدود مع مصر قد دُمر كليا، وتقول "الاحتلال مسح المنطقة عن الوجود، ولكني أريد العودة لبيتي والعيش فوق أنقاضه، ليس هناك أجمل من رفح ولا أطيب من أهلها".

واحتضنت رفح، بعد الحرب، أكثر من مليون نازح لجؤوا إليها من مدينة خان يونس ومناطق شمال القطاع، ونزحوا عنها جميعا مع أهلها عشية اجتياح المدينة في 6 مايو/أيار الماضي.

وردا على سؤال حول توقعها بالعودة لرفح؟ قالت أبو عبيد "لا عودة دون انسحاب الاحتلال من الحدود، من حاول العودة قتلوه".

كارثة وقتل

بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، ينطلق الانسحاب التدريجي من محور "فيلادلفيا" بداية من اليوم الـ42 للمرحلة الأولى منه، وتستكمل إسرائيل انسحابها، على طول المحور الممتد 14 كيلومترا بين الحدود المصرية والفلسطينية، بحلول اليوم الـ50 من الاتفاق.

وكانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قد نددت بخرق الاحتلال للاتفاق، وبعدم التزامه بالجدول الزمني للانسحاب من المحور.

وقالت، في بيان لها الاثنين الماضي، "لم يلتزم الاحتلال بالخفض التدريجي لقواته خلال المرحلة الأولى، وبالانسحاب بالموعد المحدد، وكان المفترض اكتمال الانسحاب في اليوم الـ50 للاتفاق، الذي يصادف التاسع من مارس/آذار الجاري".

وتعاني رفح، حسب وصف المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، من "كارثة إنسانية متجددة، إذ حولت الحرب الإسرائيلية معظم أحيائها إلى ركام، ورغم وقف إطلاق النار لا يزال الاحتلال يواصل هجماته العسكرية، ويسيطر على نحو 60% من المدينة، سواء عبر تمركز الآليات أو السيطرة النارية، ويستهدف المدنيين العزل بالقصف وإطلاق النار، ما يوقع يوميا مزيدا من الشهداء والجرحى".

ومنذ سريان الاتفاق، قتلت إسرائيل -وفق توثيق هيئات محلية ودولية- 150 فلسطينيا، وجرحت زهاء 605 آخرين، على مستوى القطاع، بمعدل 3 شهداء يوميا، ثلثهم من سكان رفح.

فادي يقيم وزوجته الحامل بخيمة في خان يونس ويخشى العودة إلى رفح (الجزيرة)

من جانبه، يقول المواطن فادي داوود للجزيرة نت إن أقارب وأصدقاء له استشهدوا وأصيبوا أثناء محاولتهم الوصول لـ"حي البرازيل" المتاخم للحدود مع مصر جنوب شرقي رفح، لتفقد ما تبقى من منازلهم في الحي المدمر كليا.

إعلان

ورغم قساوة النزوح، يفضل داوود (31 عاما) المتزوج حديثا، والذي يقيم مع زوجته الحامل بخيمة في خان يونس، البقاء مع أسرته على "المغامرة بالعودة إلى رفح".

ومنذ اندلاع الحرب، نزح داوود 5 مرات، ويقول "الحياة قاسية في الخيمة، خاصة وأن زوجتي حامل بابننا الأول، ونفتقد للخصوصية والاحتياجات الأساسية".

رئيس بلدية رفح أحمد الصوفي أعلن أنها مدينة منكوبة (الجزيرة) مدينة منكوبة

وأعلنت بلدية رفح، أمس الخميس، عن التوقف التام لخدمات فتح الشوارع وترحيل الركام، فيما أصبحت مولدات آبار المياه مهددة بالتوقف الكلي بسبب نفاد الوقود واستمرار إغلاق الاحتلال للمعابر منذ الثاني من مارس/آذار الجاري، وهو ما ينذر بكارثة إنسانية وشيكة تهدد حياة السكان.

وحذر أحمد الصوفي رئيس بلدية رفح من أن المدينة تعيش أوضاعا مأساوية غير مسبوقة، حيث يواجه عشرات الآلاف من السكان خطر العطش وانتشار الأوبئة مع تصاعد أزمة المياه، مع شلل تام للخدمات البلدية الأساسية وتدمير البنية التحتية.

وأكد أن البلدية بذلت كل الجهود الممكنة للحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات رغم الدمار الكبير، إلا أن نفاد السولار يهدد بتوقف تشغيل آبار المياه بالكامل، مما يفاقم معاناة السكان المحاصرين الذين يعتمدون على هذه "المصادر المحدودة" في ظل الحصار الخانق.

وتحولت رفح لمدينة "منكوبة" حسب صافي، بسبب الحرب والتشريد، وتواجه الآن خطرا مضاعفا بحرمانها من أبسط مقومات الحياة، وأكد أن عدم إيجاد حلول عاجلة قد يؤدي إلى كارثة لا يمكن تداركها.

الاحتلال حوّل رفح إلى مدينة منكوبة مدمرة كليا (الجزيرة)

ويتمركز وجود أعداد محدودة من سكان المدينة حاليا بمناطق وأحياء تقع في الجهة الشمالية منها، بعيدة نسبيا عن الحدود الفلسطينية المصرية، غير أنهم يواجهون مخاطر ويكابدون معاناة يومية شديدة لتحصيل المياه وشؤون الحياة الأساسية.

إعلان

ويقول حذيفة عبد الله، الذي عاد مع أسرته قبل نحو شهر للإقامة بمنزله المدمر جزئيا في حي الجنينة شمال رفح، "للأسف يوميا يصلنا الرصاص، اليوم قذيفة مباشرة أصابت المنزل، ولا أحد يتحدث عن وضع رفح وما تتعرض له".

مقالات مشابهة

  • فيلادلفيا.. محور الموت الذي يمنع أهالي رفح من العودة
  • السوداني يعلن قتل الإرهابي عبد الله مكي الذي يشغل منصب والي العراق وسوريا
  • الشيخ كمال الخطيب يكتب .. أنا السجّان الذي عذّبك
  • وزير الإعلام اللبناني: تشكيل لجنة لمتابعة النقاط التي عرضها صندوق النقد الدولي
  • العاشر من رمضان.. النصر الذي هزم المستحيل
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطارا جنوب غرب باكستان
  • أين تنشأ عملات البيتكوين؟ السر الذي لم يُكشف بعد
  • والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..
  • ما هو العمل الذي ندم على تقديمه؟.. الفنان أحمد التهامي يوضح
  • ما الذي يريده ترامب حقاً من الرسوم الجمركية؟