لجريدة عمان:
2025-03-13@00:38:01 GMT

صندوق باندورا

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

صندوق باندورا

في روايتها السابقة «سقوط حرّ» (منشورات «نوفل» 2019، بيروت)، ثمة مقطع تكتبه الروائية السورية عبير اسبر، قد يصلح ليكون مدخلا إلى قراءة روايتها الجديدة «ورثة الصمت» (الناشر عينه، 2024)؛ تقول الكاتبة عن لسان الراوية: «بعد هروبي من دبيّ، وهروبي من بيروت، وهروبي من الفقر... ظننت أنّي رميت تاريخ المدن وتاريخي الشخصي ورائي، ظننت أنّي أستطيع نسيان من أكون والبدء من صفر حقيقي، أو من تحت الصفر، ظننت أن مدن الشرق، شموسها، فسادها، حروبها، رعبها، أصبحت ورائي وها أنا أغادر إلى أبعد نقطة مأهولة على سطح هذا الكوكب، لعلّي أنسى».

..

وما هذه النقطة المأهولة، الأبعد على سطح الكوكب، التي تشير إليها، هنا، سوى كندا. فالروائية أيضا، غادرت بلادها مع أولى سنوات الأزمة في سوريا، لتهاجر «نهائيا»، بعد أن مرّت ببيروت ودبي، لتختار أخيرا، تلك النقطة القصيّة للسكن والإقامة وبالطبع... الكتابة (الروايتان الأخيرتان مكتوبتان في كندا)، وربما للنسيان، نسيان حياة ماضية، تصفها لنا مليئة بالرعب والموت والتعب (بعيدا عن أي لحظات جميلة، حقيقية، كأنها لم تعرف ذلك مطلقا، في العمق).

وإذا كانت رواية «سقوط حرّ» تصف لنا شخصيات في صراع مع قدرها، في مدينة دمشق، ما قبل الأزمة وخلالها، تأتي الرواية الجديدة «ورثة الصمت» لتصف أيضا صراعات شخصيات - قد تتشابك فيما بينها عبر مصائرها وعبر قِيم مع شخصيات الرواية الأولى - لكن هذه المرة في مدينة حمص. وكأنها بذلك تريد القول والإشارة إلى أن كلّ الأمكنة في سوريا أصبحت متشابهة في الموت. لكن المفارقة، أن ما أعلنته الكاتبة عن النسيان، لم يكن إلا هذا الوهم الكبير، الذي لم تستطع القيام به: فكل ما تفعله في الروايتين هو العودة إلى الذاكرة وإعادة صوغ لحظاتها، لتقدم لنا صورة عن عائلة داغر بتشظيها المستمر، بهجراتها الدائمة، وبمحاولة العودة إلى المدينة الأساسية التي انطلقت منها: دمشق أو حمص المدينة كما منطقة وادي النصارى فيها بشكل خاص. واللافت أن الكاتبة تُوَقع الرواية الأخيرة باسم عبير داغر اسبر، وكأنها بذلك تحيلنا إلى جانب من سيرة ذاتية، أو لأقل إلى جانب من كتابة تنطلق فيما يُعرف اليوم في الأدب باسم «التخييل الذاتي». لكن الأهم ليس هنا، ليس في البحث عن تشابه بين حياة الراوية والروائية، فالرواية، تذهب إلى ما هو أعمق بكثير: تذهب بالدرجة الأولى إلى مفهومَيّ الذاكرة والنسيان، وارتباطهما بالمكان؛ والمكان يفضي بدوره إلى مفهوم آخر: الهجرة والإقامة. وكأننا اليوم، في بعض الروايات المكتوبة بالعربية، نعود لنستعيد هذه الثيمة الأخيرة، ثيمة الهجرة، التي وجدناها في بعض أولى الروايات المكتوبة بلغة الضاد. وإذا كنّا نجد ذلك فلأن السؤال الذي يُطرح: ما الذي فعلناه طيلة قرن (على الأقل) من بناء مجتمعاتنا الوطنية، سوى التفكير بالهجرة لا بالإقامة في بلداننا؟

لكن هل نحن نغادر فعلا؟ هل نهاجر؟ هنا تكمن الإشكالية الكبرى عند العديد من المهاجرين، وقد يكون من المفيد أيضا التمييز بين حيّز الهجرة والمنفى. فالمنفي «بداهة» قد لا يستطيع العودة إلى وطنه، على العكس من المهاجر، الذي يمكن له ذلك. من هنا، نجد أن شخصيات «ورثة الصمت» ليست سوى هذه الطيور المهاجرة، التي تعود إلى وطنها على الأقل مثلما يقرر سامي قدسي أن يفعل في النهاية مع ابنته التي كانت حاولت الانتحار في كندا، قبل أن يقنعها برحلة العودة هذه. صحيح أنها عودة إلى مدينة مدمرة، وإلى مدينة أصبحت خارج إطار السلطة الرسمية، لكنها عودة حيوية إذا جاز التعبير، إذ كما يقول: «كي نلم لحمنا الضائع في بشاعة الأمكنة، سننقذ نسل عائلتنا من أحكام الكراهية وعفن الحاضر»... هل سوف يستطيع ذلك؟ وبخاصة أنه سيبحث عن «حسن» (أخ ابنته) الذي انتمى للمقاتلين؟ هل هذا هو المستقبل؟ ليس علينا التكهن بذلك، فالكاتبة تقدم لنا الجواب في السطور الأخيرة التي تكتبها: «... سأمر ببيتك وسأطرق على بابك لأحمل جسدك الضئيل مع باقي الحقائب، سأطرق وأطرق لأيام ولليالٍ. / ولن تفتحي».

إشكالية المهاجر أنه لا ينسى، بل يعيش في الماضي دوما. كلّ ما يفعله ليس سوى محاولة لردم هذه الهوة التي تفصله عن ذكرياته، بالذكرى، أي باستعادة كل ما هو قديم، وكأن الحاضر -غير الموجود بعمق تقريبا- ليس سوى محطة عابرة، ستعيدنا إلى ذاك الزمن الذي جئنا منه. كل الرواية، هي هذه المحاولة لاستعادة تفاصيل ذاك الزمن، والبناء عليه، محاولة لمساءلته أيضا والنبش في خفاياه لعلنا نجد إجابة عمّا قادنا إلى ذلك كله. من هنا، قد لا نجد أجوبة على التساؤلات التي يطرحها النص الروائي، بل نجد أسئلة متلاحقة، تتفرع منها أسئلة لا تنتهي. ربما لأن ميزة الأدب الحقيقي، هو قدرته على طرح الأسئلة، لا في تقديم أجوبة. حين يجد جوابًا، لا يعود أدبا بالطبع.

ترتكز رواية «ورثة الصمت» على خلفية ملحمية، بمعنى أنها تجعلنا نقرأها كصراع بين «آلهة» وبين مصائر أشخاص لا يعرفون سوى التيه. عديدة هي المراجع، أو لنقل الجُمل، التي تستعيدها الكاتبة، من الملاحم والأساطير الإغريقية التي تقودنا إلى مثل هذه القراءة. والحال كذلك، أجدني أيضا منساقا إلى تشبيه الكتاب بــ«صندوق باندورا» المذكور في قصيدة أعمال هسيود. تقول الأسطورة، أن فضول باندورا قادها إلى فتح هذا الصندوق الذي وُضع بحماية زوجها، وما إن فعلت حتى انطلقت اللعنات الجسدية والعاطفية على الإنسانية. فقد كان يحتوي على كل الشرور (التي خرجت منه)، كما على كل سحر التلميحات الأكثر لفتًا للانتباه وفي الوقت عينه الأكثر حساسية. إذ ليس هناك ما هو أكثر سحرا من أصل معاناتنا هذه. بمعنى آخر صندوق باندورا هو أيضا حكاية مخترعة للتنبؤ بأصل الشر ومن أين يأتي. ما أن تفتح «ورثة الصمت» حتى تفيض هذه اللعنات المختلفة.

هذا ما ترغب فيه الروائية: إحالتنا إلى السبب. وقد نختلف كثيرا في وجهة النظر هذه، بمعنى أنني أعترف بكوني على طرف نقيض مع ما ترمي إليه الكاتبة، لكنني لا أختلف معها على هذه الإنسانية التي لم نعرف لغاية الآن كيف نتدبرها، ولا على الأدب المكتوب بجمالية فارعة، (فما زلت عند رأيي، يجب أن نقرأ الأدب لا المواقف)، لكن الأصعب من ذلك كله هو أن نتخيل التالي: أن تكون الرواية المكتوبة بالعربية اليوم هي رواية الحروب المتنقلة والدمار الذي يصيبنا، من بلد إلى آخر.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

«مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها

«مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها

قصة التعليم بين جيلين

إيمان حمزة بلدو

.نحاول هنا رد الفضل الى أهله… والى الدور الذي قام ويقوم به المعلم الجليل والمربي الفاضل الاستاذ حمد النيل فضل المولى عبد الرحمن قرشي.. معلم مادة الجغرافيا في مدرسة “جميلة” المتوسطة.. في مدينة الأبيض… إبان العهد الذي يبعد سنوات ضوئية عن سودان اليوم. كتب الاستاذ حمد النيل رداً على مقالي: “الثامن من مارس والجالسات على أرصفة العدالة في السودان” فاهاجت كتابته الذكرى واستدعت أحقيته في الوفاء والعرفان، ولو بالقليل مما يستحق. له أجزل الشكر والامتنان.

ما ينفك استاذنا يذكر الفضل للمعلمين والمدراء الذين عمل معهم ويحتفي بسيرتهم العطرة ويؤرخ لحقبة في التعليم قد يصعب التوثيق لها وتداركها بسبب الحرب وما خلفته من ضياع للوثائق وتهجير للمعلمين داخل البلاد وخارجها.. وربما تكون كتاباته النبراس الذي يهدي في الظلمات… يوقد جذوات الطريق كلما أنطفأ.. يقص علينا احسن القصص. فقد آنستنا كلماته في وحشة دنيانا بعد الحرب وردت الينا بعض الطمأنينة… فلا اهل العزم نادوا علينا… ولا نودوا… وكلما ذكر معلمي مدرسة جميلة “كساها حسناً وحببها.. حتى كانّ اسمها البشرى أو العيد”…

في كردفان.. وفي سالف العصر والأوان… كان للتعليم مدارس متميزة ورواد… وكانت المدارس الداخلية… لبنة الوحدة الوطنية… والوشائج المجتمعية… وكانت المدارس محصنة بالمعامل والمكتبات… وميزانيات للانشطة الطلابية.. وبعيداً عن مدى فاعلية الاستراتيجيات التعليمية ومدى الاستجابة لحاجة الارياف والاصقاع البعيدة.. أو في البادية.. وحيث العيشة الجافية… وليس بعيداً عن الكارثة الماحقة التي حلت بالبلاد قبل ثورة ديسمبر في كافة مجالات الحياة… وعلى التعليم بوجه خاص.. تعطلت لغة الكلام. ولغة الارقام.. ولغات الإشارة.. وعانى الطلاب من وعورة دروب الاستنارة… تكدست قاعات الدراسة وأصبح الفصل بين طبقات المجتمع في مجال التعليم اشبه بالابارتهايد.. للبعض قبلة عند الشروق… وللبعض قبلة ثانية.. لم تصطدم بهموم الحياة.. ولم تدر- لولا الحرب- ما هيه. استشرت مؤسسات التعليم الخاص في مراحل التعليم ما قبل الجامعي وعجزت المدارس الحكومية عن الإجلاس وعن دفع مرتبات المعلمين… فتضاعفت اعداد الاطفال خارج المنظومة التعليمية.. ولم تستوعب الحكومات أهمية التعليم التقني.. ولا عملت على تأهيل المدارس وبنيتها التحتية أو زيادة الميزانية للتعليم أو الصحة حتى يحصل الاطفال على رعاية صحية وعلى تعليم اساسي مجاني لا يفرق بين طبقات المجتمع في سبيل بناء امة يمكنها تحقيق ولو بعض اهداف التنمية المستدامة اسوة بالشعوب التي تعيش معنا نفس الالفية على كوكب الأرض. أما في المراحل الجامعية فقد وصلت الاوضاع الكارثية مداها جراء إلغاء العام الدراسي لاعوام حسوما ما أدى الى ضياع سنوات على الخريجين. وجاءت الحرب وانتشر الحريق.. فاذا الدنيا كما نعرفها واذا الطلاب كل في طريق.. وصدح العالم بالرقم الفلكي: اكثر من تسعة عشر مليون من السودانيين من الأطفال والشباب خارج النظام التعليمي… ومن لم يمت بالجهل مات بغيره.

هل من رؤية يا ترى حول كيف سيؤثر هذا الوضع على جيل باكمله وعلى شعب يأمل أن يكون في مصاف البشرية!

في مدرسة جميلة… بقيادة الاستاذ محمد طه الدقيل.. فريق من المعلمات والمعلمين- ومن بينهم الاستاذ حمد النيل- كان الفريق ينحت الصخر ويبنى من الاحجار قصورا.. آمنوا بادوارهم وبالطالبات.. ولم يهنوا.. وكانوا هم الأعلون… وما قلته في مقالك استاذنا سوى شيئاً شهدناه… عظيم في تجليه. رحيم حين تلقاه… بديع في معانيه اذا ادركت معناه.

كانت الحصص الصباحية.. وكانت المعامل مجهزة تحوى المحاليل والمركبات الكيميائية.. تنقلنا الى آفاق العلم والتجارب. وكانت الجمعيات الادبية واكتشاف المواهب وأهمها الشعر والقصة والرسم والتمثيل. وكانت حصة الجغرافيا نقلتنا فيها بين المدارات والصحارى والسهول وجبال الاطلس. والروكي والانديز وجبل التاكا وجبال الاماتونج.. تاخذنا عبر افلاك ومجرات. وتخوم.. ونسعد حين يحط بنا الخيال “فوق للقوس والسماك الأعزل”… بعيد في نجوم.

ثم كان الاستعداد لحفل نهاية العام الدراسي وكانت مسرحية “مجنون ليلى” اخرجها الاستاذ محمد طه الدقيل… بعد أن امضت الطالبات اسابيع للحفظ وتجويد الأداء وكانت البروفات تتم في الامسيات… والمواصلات توفرها المدرسة إذ أن مكتب التعليم بالابيض كان راعياً وكان مسؤولاً عن رعيته، آنذاك.

وصار اليوم الختامي في ذلك العام والمسرحية ذات المضامين الانسانية حديث المدينة… لزمن طويل.

لم تذكر دورك- استاذنا- في ذلك الألق والجمال… وآثرت ان تمشي في طريق الإيثار فلا يعرف الفضل الا ذووه… من قبلك كان هناك كثيرون منهم الاستاذ محمود- وكنت قد ذكرته في غير مقال في معرض الوفاء والإخلاص لرفقاء دربك الرسالي-.. الذي انتقل الى مدرسة جميلة بعد تحويلها.

كتب الاستاذ محمود قصيدة في وداع مدير كلية المعلمات بالابيض الاستاذ المربي الجليل عليه الرحمه بشير التجاني.. وكان بالكلية نهران للمستوى المتوسط.. حميراء وجميلة… كتب القصيدة ولحنها ودرّب الطالبات عليها لإلقائها في احتفالية الوداع:

“أختاه من لحن القصيد نهدي الى الجمع السعيد حلو النشيد… ومودعين ربيعنا و- ربيعنا-… ابقى لنا زرعاً حصيد… زرعاً سقاه بعلمه وبخلقه ورعاه بالرأي السديد… فشعاره العمل الجميل وقدوة للخير والفعل المجيد” الخ.

فصدق عليكم القول. ذلك الرعيل الذي يؤثر الغير ويرد الفضل الى أهله.. وما الزرع الذي تعهدتموه “بالعلم والخلق والراي السديد”… الا زرعاً أخرج شطأه.. فاستغلظ فاستوى على سوقه… وسيؤتى حقه يوم حصاده… باذن الله.

جميلة حياها الحيا وسقى الله حماها ورعى….. كانت حصنا.. وحمىً… وكانت مرتعا.. كم بنينا من حصاها اربعاً وانثنينا فمحونا الاربعا… وخططنا في نقى الرمل…. فحفظ الريح والرمل و.. وفضل المعلم المربي الجليل… أجمل السير…و … وعى…

لن ننسى أياماً مضت. في محرابها و ستظل مدرسة “جميلة… جميلة على متن الحياة… ما بقي في الأرض أمثال المعلم الجليل…” اذكر أيامها ثم انثنى على كبدي من خشية أن تصدعا”.

“قد يهون العمر إلا ساعة… وتهون الأرض… إلا موضعا”.

[email protected]

الوسومإدارة التعليم إيمان حمزة بلدو الأبيض الحرب السودان ثورة ديسمبر شمال كردفان مدرسة جميلة مسرحية مجنون ليلى

مقالات مشابهة

  • العاشر من رمضان.. النصر الذي هزم المستحيل
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطاراً جنوب غرب باكستان
  • الإمارات تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قطارا جنوب غرب باكستان
  • أين تنشأ عملات البيتكوين؟ السر الذي لم يُكشف بعد
  • والدي الذي لم يلدني.. او قصة حياتي..
  • ما هو العمل الذي ندم على تقديمه؟.. الفنان أحمد التهامي يوضح
  • ما الذي يريده ترامب حقاً من الرسوم الجمركية؟
  • تحتمس الثالث وبناء الدولة المصرية.. القائد الذي صنع إمبراطورية قوية
  • «مدرسة جميلة» ومربي فاضل هو «ابن» سرحتها الذي غنى بها
  • ما قصة القرش الذي حرمَ مشتركاً من راتب التقاعد المبكر؟