لجريدة عمان:
2025-01-01@00:58:33 GMT

صندوق باندورا

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

صندوق باندورا

في روايتها السابقة «سقوط حرّ» (منشورات «نوفل» 2019، بيروت)، ثمة مقطع تكتبه الروائية السورية عبير اسبر، قد يصلح ليكون مدخلا إلى قراءة روايتها الجديدة «ورثة الصمت» (الناشر عينه، 2024)؛ تقول الكاتبة عن لسان الراوية: «بعد هروبي من دبيّ، وهروبي من بيروت، وهروبي من الفقر... ظننت أنّي رميت تاريخ المدن وتاريخي الشخصي ورائي، ظننت أنّي أستطيع نسيان من أكون والبدء من صفر حقيقي، أو من تحت الصفر، ظننت أن مدن الشرق، شموسها، فسادها، حروبها، رعبها، أصبحت ورائي وها أنا أغادر إلى أبعد نقطة مأهولة على سطح هذا الكوكب، لعلّي أنسى».

..

وما هذه النقطة المأهولة، الأبعد على سطح الكوكب، التي تشير إليها، هنا، سوى كندا. فالروائية أيضا، غادرت بلادها مع أولى سنوات الأزمة في سوريا، لتهاجر «نهائيا»، بعد أن مرّت ببيروت ودبي، لتختار أخيرا، تلك النقطة القصيّة للسكن والإقامة وبالطبع... الكتابة (الروايتان الأخيرتان مكتوبتان في كندا)، وربما للنسيان، نسيان حياة ماضية، تصفها لنا مليئة بالرعب والموت والتعب (بعيدا عن أي لحظات جميلة، حقيقية، كأنها لم تعرف ذلك مطلقا، في العمق).

وإذا كانت رواية «سقوط حرّ» تصف لنا شخصيات في صراع مع قدرها، في مدينة دمشق، ما قبل الأزمة وخلالها، تأتي الرواية الجديدة «ورثة الصمت» لتصف أيضا صراعات شخصيات - قد تتشابك فيما بينها عبر مصائرها وعبر قِيم مع شخصيات الرواية الأولى - لكن هذه المرة في مدينة حمص. وكأنها بذلك تريد القول والإشارة إلى أن كلّ الأمكنة في سوريا أصبحت متشابهة في الموت. لكن المفارقة، أن ما أعلنته الكاتبة عن النسيان، لم يكن إلا هذا الوهم الكبير، الذي لم تستطع القيام به: فكل ما تفعله في الروايتين هو العودة إلى الذاكرة وإعادة صوغ لحظاتها، لتقدم لنا صورة عن عائلة داغر بتشظيها المستمر، بهجراتها الدائمة، وبمحاولة العودة إلى المدينة الأساسية التي انطلقت منها: دمشق أو حمص المدينة كما منطقة وادي النصارى فيها بشكل خاص. واللافت أن الكاتبة تُوَقع الرواية الأخيرة باسم عبير داغر اسبر، وكأنها بذلك تحيلنا إلى جانب من سيرة ذاتية، أو لأقل إلى جانب من كتابة تنطلق فيما يُعرف اليوم في الأدب باسم «التخييل الذاتي». لكن الأهم ليس هنا، ليس في البحث عن تشابه بين حياة الراوية والروائية، فالرواية، تذهب إلى ما هو أعمق بكثير: تذهب بالدرجة الأولى إلى مفهومَيّ الذاكرة والنسيان، وارتباطهما بالمكان؛ والمكان يفضي بدوره إلى مفهوم آخر: الهجرة والإقامة. وكأننا اليوم، في بعض الروايات المكتوبة بالعربية، نعود لنستعيد هذه الثيمة الأخيرة، ثيمة الهجرة، التي وجدناها في بعض أولى الروايات المكتوبة بلغة الضاد. وإذا كنّا نجد ذلك فلأن السؤال الذي يُطرح: ما الذي فعلناه طيلة قرن (على الأقل) من بناء مجتمعاتنا الوطنية، سوى التفكير بالهجرة لا بالإقامة في بلداننا؟

لكن هل نحن نغادر فعلا؟ هل نهاجر؟ هنا تكمن الإشكالية الكبرى عند العديد من المهاجرين، وقد يكون من المفيد أيضا التمييز بين حيّز الهجرة والمنفى. فالمنفي «بداهة» قد لا يستطيع العودة إلى وطنه، على العكس من المهاجر، الذي يمكن له ذلك. من هنا، نجد أن شخصيات «ورثة الصمت» ليست سوى هذه الطيور المهاجرة، التي تعود إلى وطنها على الأقل مثلما يقرر سامي قدسي أن يفعل في النهاية مع ابنته التي كانت حاولت الانتحار في كندا، قبل أن يقنعها برحلة العودة هذه. صحيح أنها عودة إلى مدينة مدمرة، وإلى مدينة أصبحت خارج إطار السلطة الرسمية، لكنها عودة حيوية إذا جاز التعبير، إذ كما يقول: «كي نلم لحمنا الضائع في بشاعة الأمكنة، سننقذ نسل عائلتنا من أحكام الكراهية وعفن الحاضر»... هل سوف يستطيع ذلك؟ وبخاصة أنه سيبحث عن «حسن» (أخ ابنته) الذي انتمى للمقاتلين؟ هل هذا هو المستقبل؟ ليس علينا التكهن بذلك، فالكاتبة تقدم لنا الجواب في السطور الأخيرة التي تكتبها: «... سأمر ببيتك وسأطرق على بابك لأحمل جسدك الضئيل مع باقي الحقائب، سأطرق وأطرق لأيام ولليالٍ. / ولن تفتحي».

إشكالية المهاجر أنه لا ينسى، بل يعيش في الماضي دوما. كلّ ما يفعله ليس سوى محاولة لردم هذه الهوة التي تفصله عن ذكرياته، بالذكرى، أي باستعادة كل ما هو قديم، وكأن الحاضر -غير الموجود بعمق تقريبا- ليس سوى محطة عابرة، ستعيدنا إلى ذاك الزمن الذي جئنا منه. كل الرواية، هي هذه المحاولة لاستعادة تفاصيل ذاك الزمن، والبناء عليه، محاولة لمساءلته أيضا والنبش في خفاياه لعلنا نجد إجابة عمّا قادنا إلى ذلك كله. من هنا، قد لا نجد أجوبة على التساؤلات التي يطرحها النص الروائي، بل نجد أسئلة متلاحقة، تتفرع منها أسئلة لا تنتهي. ربما لأن ميزة الأدب الحقيقي، هو قدرته على طرح الأسئلة، لا في تقديم أجوبة. حين يجد جوابًا، لا يعود أدبا بالطبع.

ترتكز رواية «ورثة الصمت» على خلفية ملحمية، بمعنى أنها تجعلنا نقرأها كصراع بين «آلهة» وبين مصائر أشخاص لا يعرفون سوى التيه. عديدة هي المراجع، أو لنقل الجُمل، التي تستعيدها الكاتبة، من الملاحم والأساطير الإغريقية التي تقودنا إلى مثل هذه القراءة. والحال كذلك، أجدني أيضا منساقا إلى تشبيه الكتاب بــ«صندوق باندورا» المذكور في قصيدة أعمال هسيود. تقول الأسطورة، أن فضول باندورا قادها إلى فتح هذا الصندوق الذي وُضع بحماية زوجها، وما إن فعلت حتى انطلقت اللعنات الجسدية والعاطفية على الإنسانية. فقد كان يحتوي على كل الشرور (التي خرجت منه)، كما على كل سحر التلميحات الأكثر لفتًا للانتباه وفي الوقت عينه الأكثر حساسية. إذ ليس هناك ما هو أكثر سحرا من أصل معاناتنا هذه. بمعنى آخر صندوق باندورا هو أيضا حكاية مخترعة للتنبؤ بأصل الشر ومن أين يأتي. ما أن تفتح «ورثة الصمت» حتى تفيض هذه اللعنات المختلفة.

هذا ما ترغب فيه الروائية: إحالتنا إلى السبب. وقد نختلف كثيرا في وجهة النظر هذه، بمعنى أنني أعترف بكوني على طرف نقيض مع ما ترمي إليه الكاتبة، لكنني لا أختلف معها على هذه الإنسانية التي لم نعرف لغاية الآن كيف نتدبرها، ولا على الأدب المكتوب بجمالية فارعة، (فما زلت عند رأيي، يجب أن نقرأ الأدب لا المواقف)، لكن الأصعب من ذلك كله هو أن نتخيل التالي: أن تكون الرواية المكتوبة بالعربية اليوم هي رواية الحروب المتنقلة والدمار الذي يصيبنا، من بلد إلى آخر.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الربيع الذي ما يزال شامخا

فُتن "بشار الأسد" بأنه ظل الرئيس العربي الوحيد الذي نجا من طوفان المظالم الشعبي الذي انفجر في نهايات 2010م واستمر في 2011م وما يليها؛ فقد أطاح "الربيع العربي" بأربعة رؤساء جمهورية عرب دفعة واحدة، واستطاع دولاب الدول المسمى ظلما بـ"العميق" فيما "الفاسد" أفضل لفظ جدير به؛ في تونس ومصر واليمن وليبيا الاستعصاء والتماسك حتى بعد اجتثاث رؤوسها، وكانت مصيبة الأسد الابن أنه "صدّق" أنه متماسك مع نظامه؛ ولم ينظر أبعد من أصبع قدميه. و"تناثر" السوريون الثائرون في العالم كزجاجة عطر تبحث عن مَنْ يجمع أريجها؛ فلم يستشعر "بشار" ولو أقل اليسير من وخز الضمير، ولما أوشك نظامه على التداعي به في 2015م افتدى نفسه ونظامه بالسماح للروس باحتلال جزء عزيز من بلاده ليحلق طيرانهم منه ليحميه ويقتل ويبيد شعبه؛ ولاحقا صار المسئول الروسي يدخل القاعدة العسكرية التابعة لبلاده في سوريا علنا؛ فـيجذب "الأسد الصغير المفترض" لئلا "يساويه"!

وافق "بشار" على النفوذ الأمريكي والإيراني بعد الروسي في بلاد المفترض أنه يحكمها على طريقة "المركب بتغرق يا معلم"؛ فيرد الأخير باطمئنان على صبيه: "يكفي أنك ما تزال تقول لي يا معلم"؛ لكن "المعلم الشبل المزيف" ظن أنه باقٍ لأبد الدهور، وورث الاستبداد عن أبيه الذي أطاح بأكثر من عشرين ألف ثائر ضده في حماة عام 1982م؛ واستمر بعدها في الحكم ما يقارب العقدين دون أن يهتز له جفن أو "تتمغص بطن له"؛ لكن "حنكة إجرام" المعلم الكبير افتقدها "الوحش الصغير" فتمادى بطيش في التورط بالدماء، وظن أن الكرسي والغرب وروسيا وإيران يدومون له!

وبدلا من تفهّم موقفه تعود بشار "الهرطقة" بما لا يفهم -هو نفسه- أو يعقل أحد غيره، فمن أنّ التعليم في بلاده خرّج له مليون إرهابي؛ إلى أن الحل للخروج من الأزمة أن يسامح القتيل القاتل ويلقي الجميع السلاح -فيما هو مستمر في قتل شعبه بلا هوادة حتى أثناء التصريح الأخير- وأن الدين لا ينفصل عن السياسة لأنه لا ينفصل عن المجتمع، وكأنه "يعترف" في تصرفاته بالدين أو السياسة بشكل عملي؛ وهو الذي رعى البراميل المتفجرة التي تلقى على رؤوس أهل بلده؛ والشبيحة الذين يغتصبون النساء وينتهكون حياة الذين بقوا من الرجال.

تجاوز "بشار" فتنة نفسه -التي يعاني تداعياتها الآن- لفتنة السوريين منذ عام 2000م حتى ممن تجاوزوا الخمسين، وزادت فتنته بعد 2011م، سخروا من حراكهم، وألحد وكفر بالله شباب غض في مقتبل العمر تذكروا بمرارة صراخهم بالآلاف: "يا الله.. يا الله ما لنا غيرك يا الله"، ولم يكونوا يعلمون أن غد الأوغاد قادم ولو بعد نحو 14 عاما، وأن أعمار الثورات لا يقاس بعشرات الأشهر؛ وكأن "بشار" لا يقرأ التاريخ، فلا يعرف أن النظام العالمي لفظ من قبله "شاه إيران"، و"السادات"، و"صدام حسين"، "تشاوشيسكو" وغيرهم الكثير فلطالما افتقد الطغاة للهدف منهم كان مكانهم سلة مهملات التاريخ!

ومن جانب آخر، أذكر أننا حينما كنا ندرس التاريخ في نهاية المرحلة الابتدائية كنا نستعجل الوصول لنهاية ثورة "أحمد عرابي" -رحمه الله- فاختصر المعلم الطريق علينا قائلا: "ستفشل هذه، وتأتي من بعدها ثورة 1919م، وهي أكثر عراقة واستفادة من أخطاء سابقتها لكنها ستفشل -أيضا- ثم في النهاية ستأتي ثورة 1952م لتنجح"؛ وبعيدا عن الجزم بفشل ثورتي 1882م، و1919م، وكون 1952م ثورة إلا أن من أوائل دروس التاريخ التي تشربها جيلي أن الثورات تبدأ، فتحلق، تنخفض أو ترتفع، لكنها لا تموت، ويكفي أن انتفاضة عام 1977م المصرية كانت إرهاصا بثورة قوية ضد الظلم، وأن الرئيس الراحل "أنور السادات" حسب أنه وأدها؛ فكان أن انفجرت في 2011م بوجه المخلوع مبارك لمّا استمر على نهج سابقه بل "أبدع" أكثر في عدم احترام المصريين، وكذلك كانت الثورة السورية مشتعلة أسفل تربة القهر منذ "حماة 1982م".

إن كل يائس من نجاح الحراك الثوري في مصر وليبيا واليمن غير مدرك بأن الأقدار ترتب لنجاحات أخرى مقبلة، وأنها لو تأخرت فليس معنى هذا عدم مجيئها بل إنها ستكون صدمة عميقة للطغاة وفرحة أعمق للمعذبين!

مقالات مشابهة

  • صحف عالمية تغادر منصة إكس.. ما الذي حدث؟
  • الحصادي: مدينة درنة تستقبل عام 2025 بالتفاؤل والأمل
  • ماذا ينتظر مصر مع صندوق النقد الدولي في عام 2025؟
  • ما الذي يعطل تمرير قانون النفط والغاز الى الان ؟
  • النائب صليبا: الحرب لا تقتل فقط البشر إنما أيضاً المحيط الذي نعيش فيه
  • أسئلة إسرائيلية عن المتعاون الذي نفذ هجوم هرتسليا
  • العقرب والعنكبوت.. علماء: الحيوانات أيضاً تهادي بعضها في المناسبات
  • الربيع الذي ما يزال شامخا
  • حصاد 2024.. ما الذي بحث المصريون عنه عبر جوجل في 2024؟
  • الربيع أيضا مؤامرة (دبرتها الأرصاد الجوية)