سؤال التأصيل من أوهن الأسئلة في إثارة مسألة الرواية الخليجيّة، ذلك أنّ معالم هذه الرواية تتشكّل بطريقة سريعة، وكثافة الإنتاج الروائيّ يُعسّر متابعتها، وتبيّن خطوطها العريضة، ومع الأسف فإنّ مسالك نقد الرواية الخليجيّة هي مسالك متداخلة وتفتقر إلى أرضيّة معرفيّة صلبة يُمكن أن تُشكّل مرجعا، فنحن نحتاج إلى أسئلة حقيقيّة لا يُمكن طرحُها إلاّ إن توفّرت دراسات أكاديميّة جادّة، لا يسوسُها المدح ولا التحقير، وإنّما إعمال النظر التاريخيّ في وصْل الرواية الخليجيّة بمقامات إنتاجها وببُناها الفنيّة.
الملاحظة الأولى التي وجب أن نُبْديها أن القارئ يجب أن يجد حكايتَهُ في الرواية التي يقرأ، يجب أن يجد صدى لمتخيَّله ومعتقده ولوَقْع حياته اليوميّة، تمثّلا أو معاينةً. لقد تمكّن عبدالرحمن منيف أن يكون مثالا للرواية الخليجيّة وإن لم يكن في حياته خليجيّا محضا، لقد تمثّل إرث أرض الخليج، وحكى الطبع والتطبّع، وقصّ تحوّل المجتمع، ونفذ بخياله الحكائيّ إلى تبصّر القادم، رأى حروبا، وأقواما تحلّ بأرضٍ تسودها عادات وتقاليد واعتقاد في النسب والعرق يؤثّر في طبيعة الحياة، وفي المنظور للكون، سؤال إلى أيّ مدى تُعبّر الرواية الخليجيّة بثرائها وتنوّعها عن واقع الخليج، الكائن والممكن، هو سؤالٌ حقيقيّ يمسّ جوهر العمل الروائيّ.
والسؤال عن صلة الرواية بواقعها ليس مرتبطا بكون الرواية يجب أن تُساير واقعها الخارجيّ الذي فيه تكوّنت، بل في قدرة الرواية على تمثّل المتخيّل الفردي والجمعي لكون الحكاية ولفضائها، والحالُ أنّا واجدون نزرا يسيرا من كُتّاب الرواية في الخليج ممّن هم قادرون على تشرّب الواقع الذهني والمادّي، وعلى امتصاص التراث الجمعي واختصاره في ملبس أو مشرب أو حركة يد، الكثيرون ممّن يضطلعون بالرواية لا يُدرِكون أنّ التفاصيل في الرواية أوكدُ من بنيتها الحدثيّة الكُبرى، وأنّ صناعة الشخصيّات تحتاج جهدا حتّى تقع في نفس القارئ موقع اليقين والتفاعل، فلا تكون هناك نبوة بين القارئ وفضاء الرواية. سؤال واقعيّة الرواية ومرجعيّاتها هو محمل نقديّ وسراط قاطعٌ ومخاتلٌ يحمل في ثناياه فشل الكتابة الروائيّة ونجاحها. أرضُ النفط، التحوّل الاجتماعي، التحوّل المعماري، التجاور بين الشاهقات الناطحات، والوابرات، الدانيات، بين العلوّ في البنيان واختيار الارتحال، بين عالمٍ هو كائنٌ وموجود يُحافظ فيه الإنسانُ الخليجيّ على بساطته، يحنّ إلى التراب يتهدهد فيه، ولا يغترّ بالعاليات الوفيرات الباذخات، وعالمٍ يسوده البذخ ووفرة الجاه، وتسخير الآلات، عالم مصنوعٌ مصطَنع، يُخرج بشرا متحوّلا في خِلْقَته وخُلُقه، التحوّل في التموقع من الكون، في الوعي بمنزلة الأنا الفردي والجمعي، من شرْقٍ يسوده الفقر، وغربٍ هو شبيه في الملّة والدين يسوده أيضا الفقر، وأجنبيّ هو العدوّ دينا الصديق علما ومصدرَ معرفة وتقدّم، إعادةُ نظرٍ في صلة الأنا بالآخر.
تحوّلٌ في التفاعل مع التراث، في كسْر الثنائيّة السائدة المتنازعة في المعهود الفكريّ، وهي تقديس التراث أو رفضه، لاستبدال هذا التنازع بتطويع التراث، أو تحديث التراث، أو إحداث السلام بين التراث والحداثة، لنجد الناقة تُجاورُ السيارة الرباعية، والخيمة مزروعة في قصر، والنخلة بجانب البرتقالة، وزيّ للأصالة وأزياء للحداثة، كلّ هذه التحوّلات تحتاج إلى دراسات أنتروبولوجية، تبين أبعادها وآثارها، تُظهِر العقل المدبّر لها والروح النازعة إليها، هذا بابٌ يُخشى الولوج إليه، لكن لا يُمكن أن تتحقّق دراساتٌ للرواية عميقة دون توفير هذه الأرضيّة المعرفيّة. السؤال الثاني، وهو بعضٌ ممّا يتشقّق عن الأوّل، هل هي فعلا روايةٌ خليجيّة، أو هو جمعٌ شكليّ لأقطارٍ متفرّقة لا جامع بينها؟ حقّا هنالك مُشتَرك وافرٌ بين دول الخليج، وهناك نَسبٌ جامعٌ، وهنالك عرقٌ سائدٌ، ولكن في الآن ذاته، هنالك متفرّق حضاريّ وطبيعيّ وبيئيّ وتاريخيّ مُفرِّقٌ وصانعٌ لتنوّع روائيّ خارج عن سرْب الجمع، وهو أمرٌ ينبغي أن يشكّل عنوانا يخصّ «المماثل والمختلف في الرواية الخليجيّة» فالقضايا العرقيّة الموجودة في الكويت من التعامل مع الفئة الممنوعة من حمل الجنسيّة الكويتية غير موجودة بالضرورة في أقطار أخرى من بلاد الخليج، وهي مسألة بعثت عددا من الأعمال الروائيّة التي أثارت الهامش العرقيّ في الخليج، البيئة العُمانية بجبالها وصحاريها وسهولها وبحارها، تمثّل باعثا لاختلاف حقيقيّ، ولتكوّن روايات متفاعلة مع هذه البيئة المتنوّعة، وقس على ذلك ممّا يُمكن أن يمثّل أرضيّة باعثة لحكايات تُستَثمر. أسئلةٌ وجب أن تُطرَح بعمق وصدق ضمن إطار أكاديمي يضع الرواية الخليجيّة في منزلتها التاريخيّة والحضاريّة، وهذا لن يكون أيضا إلاّ إذا كوّنّا مجموعة بحثيّة منفصلة متّصلة، كلّ منها تقوم بدور في دراسة الرواية القطريّة ضمن مسارات واضحة، فمن ذلك يُمكن أن يكون المسار الأوّل خاصّا بمرجعيّات الرواية الخليجيّة، ولتحقيق هذا المسار، وجب تكوين مجموعات بحثيّة تدرس مرجعيّات الرواية السعودية ومرجعيّات الرواية الإماراتيّة ومرجعيّات الرواية الكويتيّة ومرجعيّات الرواية العمانية إلى غير ذلك، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على جملةٍ من المجالات الدراسيّة التي تُرشّح للدراسة ضمن هذه الخُطّة. السؤال الأخير هو السؤال الفنّي في تكوين الرواية، وهو سؤال حمّال أوجه في المشابهة والمخالفة، وفي تخيّر أقوم السبل لإعطاء الحكاية الشكل الذي يُلائمها، فهل أنّ السمة الفنيّة جامعة لكليّة الرواية الخليجيّة؟ وهل أنّ الرواية الخليجيّة تختصّ بركن بنائيّ هو سمتها وعلامتها؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ی مکن أن ت ة الروایة التحو ل ا ی مکن
إقرأ أيضاً:
الجزائر وفرنسا: أسئلة ما بعد العاصفة
طيلة الشهور الماضية خاض الإعلام الجزائري، وتحديدا التلفزيون الحكومي ووكالة الأنباء الجزائرية، حملة تشهير كبرى على فرنسا استثمر فيها وقتا طويلا وجهدا كبيرا وموارد ثمينة. لم يمر يوم تقريبا لم يبث فيه التلفزيون في نشرات الأخبار، مواد إخبارية تهاجم فرنسا بحدّة وتتحدث عن عيوبها. ولم يمر يوم تقريبا لم يخصص التلفزيون برامج نقاشية مع ضيوف تخصصوا في انتقاد فرنسا وحكومتها وتاريخها الاستعماري. وذهبت وكالة الأنباء الجزائرية بعيدا هي الأخرى في مهاجمة فرنسا بتقارير اتُخذت عناوين رئيسية في أغلب وسائل الإعلام الجزائرية.
ولم يُقصّر الإعلام الخاص، مرئي ومكتوب، هو الآخر في مهاجمة فرنسا في تقليد واضح للإعلام الحكومي، ثقةً منه بأن الإعلام الحكومي يتصرف بتوجيهات عليا ولا يأتي بشيء من بنات أفكاره عندما يتعلق الأمر بفرنسا (وقضايا أخرى).
كان التركيز الأكبر في تلك الحملة على الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر وفظاعاته مصنّفا إياها ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لا بأس، فجرائم فرنسا فعلا كذلك وتستحق المحاسبة والقصاص لو كنا في عالم مثالي. تسليط الضوء على الماضي الاستعماري لفرنسا ضرورة وليس ترفا سياسيا أو ثقافيا. وليس سلعة موسمية يُلوَّح بها عند الحاجة وتُسحب عندما تنتفي الحاجة. إنه حق الشعب الجزائري على قادته أن يطالبوا به مهما طال الزمن. في المقابل يحتاج هذا الماضي إلى النظر إليه بشجاعة ومسؤولية في البلدين لأنه أحد أركان العلاقات الثنائية ويُبقيها مسمومة إذا ما تُرك عالقا بلا رغبة في تسويته.
لكن هناك عيوبا تخللت حملة الإعلام الجزائري على الماضي الاستعماري الفرنسي. لقد طغى عليها الكم وغاب الكيف، ورغم كثافتها كانت فقيرة. أول هذه العيوب أنها كانت حملة موسمية تقررت كرد فعل على فعل. ثانيها غياب الدقة المهنية، وثالثها ترك الخوض في الموضوع لأناس ليسوا أهلا له فكان أن سيَّسوه أكثر من اللازم.
لذلك لا خشية من القول إن تلك الحملة أخضعت التاريخ الجزائري، بكل ما فيه من حمولة إنسانية وثقافية وأخلاقية، للحسابات السياسية والمواقف الظرفية. يذكّرني هذا بتوظيف الدين في الماضي القريب لأغراض سياسية فكانت النتائج كارثية على الجزائر دولة ومجتمعا. تسييس التاريخ لا يقل خطورة عن تسييس الدين، يضر بالتاريخ ويقود إلى النتائج الخطأ. وكذلك تركُ التاريخ لغير أهله.
في الأزمات السابقة استعملت السلطات الجزائرية وأذرعها الإعلامية الماضي الاستعماري في مهاجمة فرنسا وتهديد مصالحها. ثم سرعان ما اختفت المعايرة والتهديد حالما نجح قادة البلدين في كنس غبار الخلافات تحت السجّاد.
مثلما أملت الحسابات السياسية أن تبدأ تلك الحملة الحالية وبذلك الإيقاع، هناك احتمال أن تُملي الحسابات ذاتها نهاية الحملة أو تخفيف وتيرتها قريبا عندما ينطلق قطار المصالحة بين البلدين.
الآن وقد لاحت بوادر تهدئة إثر المكالمة الهاتفية بين الرئيسين عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون يوم العيد، وزيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر بدعوة رسمية من نظيره الجزائري، هناك أسئلة تفرض نفسها، منها على سبيل المثال: هل سيواصل الإعلام الجزائري (الجزائر بتعبير أدق) مهاجمة فرنسا وماضيها الاستعماري؟ هل يتوقف عن المطالبة بالعدالة والإنصاف للجزائريين ضحايا الاستعمار الفرنسي؟ هل يتوقف عن المطالبة بتعويضات مادية ومعنوية واعتذارات من فرنسا؟ ما مصير الكلام عن قانون يُجرّم الاستعمار الفرنسي؟ هل سنواصل مطالبة الدبلوماسية الفرنسية بإعادة العقارات الفخمة في أعالي الجزائر العاصمة التي امتلكتها أو تستأجرها بالدينار الرمزي؟ ماذا عن الجزائريين الذي تضعهم فرنسا على لائحة الطرد ورفضت الجزائر في الماضي القريب استلامهم؟ ما محل وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو في المعادلة المقبلة؟ وهو الذي يعتبره المسؤولون الجزائريون المسؤول الأول عن التأزم الحالي ويريدون رأسه (حتى وإن لم يعلنوها صراحة).
لقد ذهبت الجزائر، عبر إعلامها، بعيدا في العداء لفرنسا دون حسبان ما يخفيه المستقبل. والحال اليوم أن الاستمرار في تلك الحملة مكلف والتوقف عنها غير مريح. الاستمرار لن يعجب المؤسسة الفرنسية، التي رغم تقبلها كل أنواع الانتقادات، إلا أنها لا زالت تستحي من ماضيها الاستعماري في الجزائر وعملت على تشكيل إجماع على رفض التشكيك فيه أو تصنيفه ظلما وجرائم ضد الإنسانية. أما التوقف عن الحملة فغير مريح أمام الرأي العام الجزائري الذي جرى شحنه ضد فرنسا بلا توقف طيلة الأيام والشهور الماضية.
فرنسا هي الأخرى أمام أسئلة جدية أبرزها: في أيّ ماكرون على الجزائر أن تثق الآن.. الذي زارها مرشحا للرئاسة في 2017 وصرّح في عاصمتها بأن الاستعمار الفرنسي جريمة ضد الإنسانية؟ أم الذي زارها مبتهجا في صيف 2022 ومرفوقا بوفد أمني ضخم؟ أم الذي تشعر بأنه طعنها في الظهر باعترافه بسيادة المغرب على الصحراء الغربية؟ أم الذي اتهمها بالتخلي عن شرفها لأنها سجنت بوعلام صنصال؟ أم الذي بعد ذلك دعا إلى التهدئة وتجاوز ما يعكر صفو علاقات البلدين؟
رغم كل شيء، هناك جانب مضيء في التطورات الأخيرة هو أن تستغل الجزائر وفرنسا الانفتاح الذي يحدث لطرح كل الملفات العالقة على الطاولة وتسوية ما أمكن منها. لكن المشكلة أن أغلب الملفات ثقيلة وملغومة بشكل يشجع العاصمتين على وضعها على الرف لأن طرقها يعني، ببساطة، فتح الباب لأزمة جديدة.
(القدس العربي)