ashuily.com
فكرة أن العالم مستقبلا سيصبح متعدد الأقطاب هي فكرة غير قابلة للحدوث أو كما وصفها مرة أحد السياسيين بأنها فكرة خرافية غير قابلة للتطبيق ولا يمكن تصورها إلا في عقل من لا يعي حركة التاريخ الذي طالما كان دوما يرزح تحت وطأة القطب الواحد أو في بعض الاستثناءات التاريخية تحت سيادة الثنائية القطبية.
القطبية التي أعني بها هنا هيمنة قطب واحد ودولة واحدة على المشهد الدولي فتكون هي المسيطرة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وتقنيًا على مقدرات العالم بأكمله، ويكون التحكم بكثير من الأمور تحت سيطرة تلك الدولة، وذلك القطب وما عدا ذلك القطب يبقى الهامش البسيط المتاح لباقي الدول أن تلعب فيه شريطة ألا يتعارض مع مصالح القطب الأوحد. في كثير من الأحيان قد يدخل على خط القطبية هذا قطب آخر أو بعض الأقطاب فتنازع القطب الأوحد الصدارة والسيادة لكن في نهاية المطاف يحسم أمر القطبية لصالح أحدهما ليعود العالم إلى سياسة القطب الواحد، كما هي سنة من سنن الكون.
من سجلات التاريخ وأضابيره تبرز إمبراطوريات قديمة بائدة كاليونانية والرومانية والصينية والإسلامية والعثمانية ولاحقا الامبراطوريات الأوروبية في بريطانيا وإسبانيا وروسيا كانت بمثابة القطب الواحد المهيمن على العالم ومقدراته فكانت تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي ساعدتها على بسط هيمنتها على كثير من دول العالم القديم، وحديثا برزت الامبراطورية الأمريكية بعد أن قامت بالتعريف عن نفسها بأنها شرطي العالم وأنها القوة الأعظم في تاريخ الإمبراطوريات خصوصًا بعد أن استفردت بزعامة العالم عقب هزيمتها للقطب الروسي الذي كان في فترة من التاريخ يعتبر ندا للسطوة الأمريكية.
الشمال والجنوب الشرق والغرب فلسفة تقوم عليها القطبية المتعددة التي يفترض بها أن تسود العالم برمته وكثيرا ما تبرز هذه النداءات في المحافل الدولية التي تجمع العالم تحت قبتها كالأمم المتحدة مثلا التي نادى أمينها العام أنطونيو جوتيريش مرة بأن «تعدد الأقطاب يعد الطريقة المثلى لإصلاح مبدأ التعددية وتجديد توازن العالم»، غير أن مثل هذه النداءات الأممية وغيرها لا تلقى إلا أذنا صماء عند صانعي السياسة القطبية ممن لا يحلو لمسامعهم هذا الكلام خصوصًا عندما يصدر من منظمة أممية. وحتى وإن صدرت نداءات مماثلة من دول وحكومات ومنظمات تحاول مناطحة العملاق القطبي فإنها سرعان ما يتم وأدها وكبح جماحها.
في عصرنا الحديث وقبل ما يزيد عن الثلاثة عقود حاولت بعض الأقطاب منافسة القطب الواحد لكنها فشلت في مسعاها وحتى اليوم تحاول بعض الدول مثل: روسيا والصين والهند منازعة القطب الواحد على السيادة بإنشاء بعض التجمعات الإقليمية والدولية مثل منتدى «بريكس» الذي يضم في عضويته البرازيل ورسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، حتى «الإعلان المشترك بشأن عالم متعدد الأقطاب وإقامة نظام دولي جديد» والموقع بين روسيا والصين لم يفلح كثيرًا في وضع الصين أو روسيا أو البرازيل أو الهند كند بارز مقارع للقطب الأمريكي المهيمن على الساحة الحديثة، ربما بسبب ما يمتاز به القطب الأمريكي من سطوة وهيمنة على المقدرات العسكرية والتقنية والإعلامية لم تستطع أي دولة منفردة أو مجتمعة من تحقيق اختراق له حتى اللحظة.
أعود إلى فكرة أن القطبية لا تزال هي السائدة في عالم اليوم، ويمكنني هنا إسقاط الإعلام ووسائله الحديثة كمثال على الهيمنة الغربية على هذا القطاع فكما أنني لا أزال أتذكر بعض المقررات الدراسية منذ ما يربو على العقدين من الزمان تحذر من هيمنة القطب الواحد إعلاميا، وتبحث في إيجاد بعض السبل والمخارج لتضييق الفجوة المعلوماتية بين الشرق والغرب وتقليل تدفق الأخبار والمعلومات من الغرب إلى الشرق، إلا أن هذه الفجوة يبدو أنها تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم خصوصًا مع هيمنة الغرب وتحديدًا الأمريكي على وسائل الإعلام والاتصال الحديثة.
لا بد من نهاية للقطبية الواحدة، ولكنها ستكون نهاية لقطب بحلول قطب آخر مكانه، لذا فإنه من الصعوبة بمكان أن يحكم العالم ربانان؛ لأن السفينة كما يقول المثل لا يقودها ربانان كذلك هو العالم سيغرق إن تحكم به قطبان.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القطب الواحد
إقرأ أيضاً:
المذاق الأول
هل حمل آدم من الجنّة ذكْرى يرويها لأبنائه وأحفاده الذين لم يرَوْها ووُعِدُوا بها؟ كيف تعامل آدمُ مع الأشياء، ملمَسَها، تذوُّقها، منظرها، مشهدها، وهو نازلٌ من علياء كونِ الاستجابةِ إلى دنْيا كونِ الطلب والسعيِ؟ هل بقي آدمُ يتذكَّرُ من الجنَّة أطايبها، وعَسلها وطيْرَها، وحورَها، وأنهارها الخلاّبة، واستكانةَ الفكر، وهجْعَةَ الضمير، وطيب هوائها واعتدال مزاجها، ونظام كوْنها، وتحقُّق الرغبات المستحيلة فـيها؟ لقد كان آدمُ الحكَّاء الأوَّل وقاصّ البدايات، فإن عاقبه اللّه عزَّ وجلّ بالذاكرة الحيَّة، المحتفظة بالأشياء، فحتمًا سيحوِّل ذكرياته فـي حياة الجنّة إلى حكايات يتجمّع حولها أبناؤه وأحفاده، يسمعون قصص العالم العلويّ، ويتمتّعون بوصْف مذاق الأشياء وحسن مشاهدها، ولكن بأيَّة لغة سيُسمعهم آدم حكاياته؟ وهو الذي ما زال يتلمَّسُ الأشياء، هل كان آدمُ يعرفُ لغةً ما؟ لسانُ آدم تنازعتْهُ الأهواءُ، وكُلٌّ يدَّعيه وينسبه إليه، الفراعنة اجتهدوا فـي ذلك، وعمل المسيحيّون على ردّ لغة آدم إلى أصلٍ هو العبريّة، وهو معتَقَد القدّيس أغسطينوس، وكذا العرب فقد عملوا على الإقرار بأنّ الكلام الأوَّل، واللّسان الأوَّل هو العربيَّة، وبغضِّ النظر عن هذا وذاك، وعن أوليَّة اللّغة التي أجراها آدم فـي التواصل مع حوّاء، وهما يتراويان حكايات الجنّة، وما كان فـيها، ويتعاتبان من أمْر الحيَّة التي أوقعتهما فـي الغلط، ويستعيدان شريط الذكريات، وفـي تواصلهما مع أبنائهما والعمل على تقريب صورة الجنّة التي فارقاها لهم، فإنّ الأكيد أنّ آدم تكلَّم بلغةٍ ما، وقصَّ بما علَّمه اللّه من قدرةٍ على تسمية الأشياء، فآدم يحمل فـي ذاكرته صورةً عاشها عن جنَّة الخلود، وعن العالم العلويّ، وله صلاتٌ بالملائكة وبالجن وبالشيطان، وهو حاملٌ فـي ذهنه عالمًا مختلفًا عن كوْن الأرْض، يدعوه إلى حكايته وإلى وَصْفه، والعمل على تمثيله لبشرٍ من ذرِّيته لا يحملون المرجعيَّة ذاتها ولا الصُوَر المتذَكَّرة نفسها. آدم وحوَّاءُ، هما مخزن حكايات البدايات الأولى، وحَمَلة قصَّة البدْء، فلم يكن من اليسير على ثنائيِّ البدايات الأولى أن ينزلا إلى الأرض، وأن يعْمَلا على توفـيرِ حاجياتهما التي كانت تتحقّق بفعل «كُن»، أصبح الأكْل مدعاة إلى الجهدِ والبذْلِ والتدبُّر والاحتيال أحيانًا، ولولاَ أنَّ جبريل قد وهبهما بذْرةً من الجنّة، حبّات حنطة معدودات، زرعَاها وأجهدَا النفس والبدن فـي رعايتها وتحصيلها، لماتَا جُوعًا، وهما غير قادرين على الرعيِ كما الحيوان، وقد ذاقَا من أطايب الجنّة ما يُذهل العقول. انتقل آدم وحوَّاء من عالم النعيم والاسترخاء إلى عالم النكد والعمل، إلى عالم الفعل وردّ الفعل.
هل استطاعَ آدمُ وصاحبتُه أن ينسيَا عالم الخلود، فإن لم يكن، ولم يتمتَّعا بنعمة النسيان، فإنّ التذكُّر بابُ الحكاية، والمفارقة باعثة على الرواية، والحنين يدعو إلى تمثيل المُفارَق وإعادة إحيائه بأداة الحكاية. الحكايةُ كانت مع الإنسان الأوَّل، مع البدايات الأولى، مع آدم، أمَّا اللّسانُ فلا شأن لنا به، فليكن أعجميًّا أو سرياليًّا أو عبريًّا أو عربيًّا. حكايةُ الجنَّة الضّائعَة وعالم الملائكة وكون الخلود والبقاء سرا من أسرار آدم وحوّاء، وقصَّةٌ، كانَا أوَّل من أخرجها للوجود، حتَّى لا ينسيا مهدهما الأصليّ وكونَهما المرجع، لعلَّ حوّاء كانت تجلسُ فـي ظلمة اللّيل تُحاكي آدم تحت شجرة ما فـي أرض اللّه الواسعة، تصف له -استرجَاعًا- روْضَةً من رياض الجنَّة أو حوريَّةً حسناء سقط نصيفها وتمايلت على ضفافٍ أنهارٍ سائلةٍ، جاريةٍ. أبونا آدمُ هو مهد الحكاية الأولى ومرجع الاسترجاع القصصيّ، أمَّا هو ذاته فقد مثَّل حكايةَ مُعتَقَد تشابهت فـي روايتها الأديان السماويّة، وأجملتها وفصَّلتها حسب مقتضيات المقام الذي تُروَى فـيه. حكايات البدايات المتّصلة لدى كلّ الشعوب -تقريبًا- بالعامل الدينيّ، هي منبتٌ ثريٌّ غنيٌّ يدعو إلى التدبُّر فـي العقل الذي أنتجها وفصَّل سرْدها، آدم لم يكن حكّاءً فحسب، بل كان موضوع حكاية، أنجب من الأبناء ما اختُصِر فـي ثنائيّة الشرِّ والخير، فـي قابيل وهابيل، فـي قيام الحكاية على تنازع القُوّتين الدائمتين، هو التنازع الأوّل حدوثًا وقصصًا فـي كون الأرضِ، البدايةُ حكايةٌ تتأثّث بامرأةٍ هي دومًا عُنصرُ العطالة، وعلّة الشرّ، حوّاء فـي الذهنيَّة القصصيّة الدينيّة هي مدخل الشيطان، وهي وسواس آدم، وأخت هابيل هي سبب التنازع وعلّة التقاتل.
رواياتُ قتل قابيل يُمكن أن تُفتِّح شهيَّة سرد، فعمليَّة القتل وفقًا لابن كثير مختلف فـيها، وقيل: إنَّه إنما قتلَه بصخرة رماها على رأسِه وهو نائمٌ فشدخته. وقيل: بل خنقَه خنقًا شديدًا وعضًّا كما تفعلُ السِّباعُ فمات. نزول آدمُ، ورأسه يُناطح السماء ورجلاه فـي الأرض بسبب مديد طوله، إلى أنّ اختصره اللّه إلى ستّين ذراعًا، رواياتُ تحصيل الملبس والمأكل، والتفاعل مع عالم الأرض، كلّها نوى لحكاياتٍ ممكنة، تنتظرُ من يتناولها من عرب الروائيين. البدايات -كما النهايات- عوالم سرديّة استبق الذهن الشعبيّ الحكّاء تلقُّفها قبل علماء الرواية والحكاية وصاغها فـي حكايات شعبيّة فُرِضَت على الذهن العالم فرْضًا، وسادت وأثرت تراث البشريّة. فهل تُخلق روايةٌ يومًا ما فـي عالم العرب تُحسن استعادة آدم فـي اكتشافه للأشياء الأولى، فـي البدايات، فـي استرجاعه قصّة الجنّة، فـي التعبير عن منظوره للعالم العلوي وللعالم السفليّ؟ هل يُوجِد روائيّ يُعيد لآدم أنفه فـي اكتشاف الروائح فـي صدمة المشاهد الأرضيّة بعد مفارقة أصل الأشياء ومنبع الروائح ومنبت المشاهد، المرأة المثاليّة غاية الجمال، والطبيعة الفضلى ذات الوجه المعجز، والمأكل والمشرب، بعد مفارقة عالم بلا حكايات، بلا صراع، بلا تنازع، بلا بحث عن القوت وعن الملبس، ونزوله عالم الحكاية، حيث لكلّ فعل قصّة، تحصيل اللّباس قصّة، البحث عن الأكل قصّة؟ عالم القصّة متعبٌ هو الأرض.