سودانايل:
2025-03-18@10:51:12 GMT

وثائق حرب السودان (3): وثائق حرب ليبيا: ستة دروس

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

واشنطن، محمد علي صالح
كانت الحلقة الأولى فى هذه الوثائق البيانات المتناقضة التي أصدرها كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. خلال سبعة شهور، منذ بداية الحرب في شهر ابريل، حتى شهر نوفمبر. وستستمر هذه البيانات في حلقات قادمة.
وكانت الحلقة الثانية وثائق حرب الصومال، والدروس التي يمكن ان يستفيد منها السودانيون:
عشرون سنة حكومة عسكرية.

عشر سنوات فوضى، بدون حكومة. عشر سنوات حكومة مدنية ضعيفة. والعشرة سنوات الاخيرة حكومة مدنية قوية، بعد انتخابات حرة ونزيهة (رغم حركات إسلامية مسلحة).
بالنسبة لليبيا: أربعون سنة حكومة عسكرية (القذافى). ثلاث سنوات فوضى. والعشرة سنوات الاخيرة حكومتان بجيشين: في الشرق (بنغازى)، والغرب (طرابلس).
------------------
الدرس الاول: تسليح الناس:
بعد فشل الجيش السودانى في وقف زحف الدعم السريع، امر بتوزيع الاسلحة على الناس لحماية أنفسهم. وهكذا بدأت "المقاومة الشعبية".
رحب خبراء وصحفيون سودانيون بتسليح عامة الناس، لكن، حذر آخرون من خطورة ذلك، لأكثر من سبب:
1. لايوجد قانون يقنن طريقة توزيع الاسلحة.
2. لا يملك كثير من الناس خبرة استعمال الاسلحة.
3. لا توجد ضمانات لاعادة جمع الاسلحة.
هذه مقتطفات عن الموضوع فى ليبيا، من تقرير مؤسسة "راند" في كاليفورنيا: "ليبيا بعد القذافى" (2014):
"مع قتل القذافى، صار السلاح في كل مكان في ليبيا. طبعا، لم توزعه حكومة القذافى، لكن أكثره جاء من قطر ... يعتقد ان قطر أرسلت أكثر من 20,000 طنا من الاسلحة. منها بنادق اتوماتيكية، وصواريخ محمولة مضادة للدبابات، وقنابل عنقودية مضادة للجنود ...
"حسب ارقام الامم المتحدة، مع قتل القذافى، كان في ليبيا ما بين ربع مليون ومليون قطعة سلاح، كلها في أيدي أفراد وجماعات. وحسب أرقام "ام 16" (الاستخبارات البريطانية) كان العدد مليون طن، أكثر من كل ما عند الجيش البريطانى ...
"هذا بالاضافة الى اكثر من 20,000 صاروخ "مانباد" (صواريخ الكتف المضادة للطائرات) كان القذافى اشتراها من روسيا. ولا يعرف ما حدث لها ...
"لان حدود ليبيا طويلة ومفتوحة، صارت كل هذه الاسلحة، وما سيضاف اليها، تهدد ليس فقط شعب ليبيا، ولكن، ايضا، شعوب دول مجاورة. وذلك لأن حدود ليبيا الجنوبية (مع تشاد والسودان والنيجر) يبلغ طولها الفا كيلومتر...
"كثير من هذه الاسلحة في ايدي قبائل، سواء التى سلحها القذافى، او التى مولتها قطر. ويزيد هذا احتمالات خروجها خارج حدود ليبيا. الأن، بعد قتل القذافى بسنوات كثيرة، لا تقدر اى حكومة فى ليبيا على شيئين:
اولا، حماية الحدود.
ثانيا، جمع الاسلحة، والتى تظل تزيد ..."
--------------
الدرس الثانى: تدخل قطر:
هذه مقتطفات من تقرير معهد "بروكنغز" في واشنطن (29-8-2011):
"حصل المتمردون في ليبيا على تأييد كبير من دول حلف "الناتو". لكن، لا يتحدث كثير من الناس عن مساعدات قطر، شبه جزيرة صغيرة، أصغر من ولاية كونيتيكات، وغنية بالبترول والغاز ...
"أرسلت قطر طائرات "ميراج" عسكرية، ودربت متمردين ليبيين تدريبات عسكرية. وصرفت ملايين الدولارات ...
"من الناحية السياسية، كانت قطر من الدول التى ضغطت على جامعة الدول العربية لتبرير التدخل العسكري في ليبيا. وبرر هذا الاعلان تدخل دول حلف "الناتو" لضرب قوات القذافى، حتى أسقطته ...
"هكذا، حدث في حرب ليبيا ما لم يحدث في حرب العراق. أعطت جامعة الدول العربية الأذن للدول الغربية للتدخل عسكريا ..."
وهذه مقتطفات اخرى عن تدخل قطر من تقرير "اكسفورد اكاديميك" (4-4-2016):
"تدخلت قطر في ليبيا وفى سوريا، وأرسلت مساعدات مالية وعسكرية الى المتمردين في كل من الدولتين. وبينما نجحت قطر في اسقاط القذافى (الذى كان يشتم حكامها، وحكام دول الخليج الاخرى)، فشلت قطر في اسقاط الرئيس السورى بشار الأسد ...
"حدث عكس ذلك. استولى تنظيم "داعش" فى سوريا على كثير من اسلحة قطر. ولم يهدد حكومة سوريا فقط، بل، ايضا، حكومة قطر نفسها، وحكومات دول الخليج الاخرى ..."
وهذه مقتطفات عن تدخل قطر من تقرير معهد "كارنيغي" فى واشنطن: "قطر وربيع العرب" (24-9-2014):
"خلال سنوات ربيع العرب، ايدت قطر، التي كانت تربطها علاقة قوية مع تنظيم الإخوان المسلمين، المظاهرات ضد حكم العساكر في مصر، وسوريا، وليبيا. وذلك بسبب العداء التاريخي بين الإسلاميين والعساكر. ولعب تلفزيون "الجزيرة" دورا كبيرا في ذلك ...
"بعد تولي الأمير تميم بن حمد آل ثانى الحكم من أبيه الذي كان يعطف على الاخوان المسلمين (2013)، واجه ضغوطا من السعودية والامارات لتخفيف التحالف مع الاسلاميين. وايضا، من امريكا. والتى تقدر وساطات قطر في مواضيع مع دول، مثل افغانستان و ايران. لكنها قالت ان تحالف قطر مع الاسلاميين يشوه سمعة قطر ...
"خلال الحرب الاهلية الثانية فى ليبيا (بدأت سنة 2014، ومستمره)، قللت قطر تدخلها في ليبيا، وركزت على تأييد حكومة الوفاق (فى طرابلس)، التى تعترف بها الأمم المتحدة. لكن، لم تقطع قطر علاقتها مع الحركات الاسلامية ... "
----------------
الدرس الثالث : خلافات الخليجيين:
رغم ان قطر لعبت الدور الرئيسي في التدخل في ليبيا، تدخلت دول خليجية اخرى، مثل الإمارات والسعودية. وهكذا تأثرت دول كثيرة بخلافات الخليجيين.
تدخلت الخليجيون في ليبيا مرتين:
1. فى الحرب الأهلية الأولى (بدات سنة 2011): ايد الخليجيون الاسلاميين في ليبيا لإسقاط القذافي. (اذا توجد حسنة واحدة عند القذافى، كان شجاعا في الهجوم على حكم العائلات في الخليج. وفي شتمهم). وضغط الخليجيون على جامعة الدول العربية (وهم يصرفون عليها) لإعلان الحرب ضد القذافي. وشجعوا حلف "الناتو" لضرب حكومة القذافى حتى اسقطته، وقتلته.
2. في الحرب الاهلية الثانية (بدأت سنة 2014، ومستمرة): انقسم الخليجيون:
في جانب، وقفت قطر مع حكومة الوفاق (فى طرابلس)، والتي تؤيدها حركات اسلامية محسوبة على قطر.
وفى الجانب الآخر، وقفت السعودية والامارات مع حكومة برلمان ليبيا (فى بنغازي). وهى حكومة تعادى الاسلاميين، ويقود جيشها الجنرال الامريكي الليبى خليفة حفتر.
هذه مقتطفات من تقرير "كارنيغي" السابق الذكر:
"تؤيد قطر حكومة الوفاق (فى طرابلس) لان الامم المتحدة تعترف بها، ولان بها عدد من الاسلاميين، ولان الحركات الاسلامية في طرابلس تحميها. لكن، لا تريد قطر ان يهزم الاسلاميون الجيش الوطني (بقيادة حفتر) لانها تعرف انه قوى، وتقف وراءه مصر، والسعودية، والإمارات ...
"تريد قطر ان تستمر ليبيا مقسمة بين اسلاميين (في طرابلس)، وغير اسلاميين (في بنغازى)، بدلا عن هزيمة كاملة للاسلاميين. وهكذا، لا يبدو ان الحرب الاهلية الثانية فى ليبيا ستنتهى قريبا ..."
------------
الدرس الرابع: الاسلاميون:
عارض الإخوان المسلمون القذافى (كما عارضوا جمال عبد الناصر). واعتقل القذافى قادتهم، وأعدم بعضهم (كما فعل عبد الناصر).
وعندما بدأت مظاهرات "ربيع العرب" (2011)، شملت ليبيا. واستغلها الاسلاميون بمساعدة قطر التى كان يوجد فيها عدد من قادة الإخوان المسلمين. واشترك اسلاميون في تعقب القذافى، وفى قتله. ورفعوا علم قطر، الى جانب علم ليبيا، فوق قصر القذافى المهدم.
هذه أسماء بعض قادة الإسلاميين فى ذلك الوقت (من تقرير "كارنيغي" السابق الذكر):
1. نورى ابو سهمين، مؤسس "غرفة الثوار"، ومن الامازيغ البربر.
2. عبد الحكيم بلحاج، من اوائل الذين قادوا حركات مسلحة ضد القذافى، وكان حارب في أفغانستان مع "المجاهدين".
3. أحمد معيتيق، صار رئيس وزراء بعد انتخابات مزورة (2014).
4. محمد الزهاوى، مؤسس جماعة "أنصار الشريعة".
5. الإخوان على الصلابى (الجناح المتدين، ولقب بمفتى الحركات الاسلامية). واسماعيل الصلابي (الجناح الاقتصادى. وصاحب شركة "الصحارى" التي كانت تمول الحركات).
لكن، بعد سنوات قليلة، انقلبت موازين القوى. وذلك لان الاسلاميين استغلوا الفراغ بعد قتل القذافى. وحاولوا تأسيس دولة إسلامية في ليبيا. وظهر اسلاميون متطرفون يريدون إعلان قوانين الشريعة، وحظر حرية النساء. ولفترة سنتين، سيطرت منظمة "داعش" على مناطق على الساحل، وذبحت اعدائها، ونشرت الذبح في فيديوهات في الانترنت.
هذه مقتطفات من تقرير "راند" السابق الذكر:
"خلال الحرب الاهلية الثانية في ليبيا، تستمر قطر في تمويل وتسليح الحركات الاسلامية، رغم أنها تنكر ذلك ...
من بين الحركات الإسلامية التي تمولها وتسلحها قطر:
1. قوات "الزاوية" التى تحرس مطار طرابلس، وأنابيب البترول القريبة.
2 . قوات "فجر ليبيا"، وهي تحالف حركات اسلامية صغيرة.
3. قوات "بنغازى" التى حاربت جيش ليبيا الوطنى (بقيادة حفتر). وعندما انهزمت، لجأت الى طرابلس ..."
---------------
الدرس الخامس: حفتر
لابد ان الجنرال الاميركى الليبى خليفة حفتر، قائد جيش ليبيا (حكومة شرق ليبيا) يقلق البرهان وزملائه العسكريين. ها هو الجنرال ياسر العطا يصف دولة الامارات بانها مثل "عصابة المافيا"، ويحذر حفر من مساعدة حميدتى (30-11-2023)
لكن، قبل 13 سنة، بدأت العلاقة بين حفتر وحميدتي (مع بداية الحرب الاهلية الاولى في ليبيا)، عندما ارسل حميدتي جنودا وأسلحة الى حفتر عن طريق الكفرة.
وعندما بدأت الحرب بين حميدتى والبرهان، رد حفتر الجميل الى حميدتى، وأرسل (ويستمر يرسل) مساعدات كثيرة، عن طريق الكفرة، ايضا.
هذه عناوين تقارير صدرت مؤخرا عن دور حفتر في السودان:
1. مركز "سوفان": "حفتر يستغل الحرب في السودان للانتقام من تأييد البشير للإسلاميين في ليبيا" (23-4-2023).
2. مركز "الدراسات الاستراتيجية": "سيناريو ليبيا في السودان: حكومة في الغرب، وحكومة في الشرق" (14-11-2023).
3. مجموعة "كرايسيز": "الحرب في السودان مأساوية." (9-1-2024).
4. صحيفة "أوبزيرفر" البريطانية: "حفتر يقدر على اغراق السودان في كابوس مسلح" (23-4-2023).
هذه مقتطفات من تقرير صحيفة "اوبزيرفر":
"يخشى كثير من الخبراء والمراقبين بان حفتر سيغرق السودان في كابوس عسكرى لا يعرف احد نهايته. لكن، لا يفعل حفتر اكثر من رد الجميل لحميدتي ...
"حفتر وحميدتى حليفان عسكريان، وصديقان، وتاجران. يتعاونان في تهريب الذهب والمخدرات، والاسلحة، والبضائع. وانتقل التعاون الى القادة ذوي الرتب المتوسطة في مليشيات كل واحد ...
"صارت علاقة حفتر وحميدتي عائلية. قبل الحرب، زار واحد من أبناء حفتر الخرطوم، وتبرع بمليوني دولار لنادي المريخ، أحد فريقي كرة القدم الكبيرين في السودان الذي يعاني مالياً. ويرتبط النادي بـ حميدتي الذي ساعد في إصلاح ملعبه ..."
-----------------
الدرس السادس: سيناريو ليبيا:
هذه مقتطفات من تقرير أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فى واشنطن، تحت عنوان "تحاشى سيناريو ليبيا في السودان" (14-11-2023). كتبه كاميرون هدسون، خبير فى المركز، وعمل مع مبعوثين امريكيين للسودان، وكان عميلا لوكالة الاستخبارات المركزية (هو يكرر ذلك):
"تزيد سيطرة الدعم السريع على ثلاث من عواصم الولايات الخمس في دارفور على قدرته ليسيطر على جزء كبير من السودان غرب نهر النيل (تقريبا ثلثا مساحة السودان) ... وسيقدر على اعتبارها امتدادا لدول مجاورة، مثل تشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان. وعلى زيادة المجندين من تلك الدول. وعلى زيادة امدادات الاسلحة ...
"في الجانب الآخر، جاءت هزائم جيش السودان في دارفور، والخرطوم. واجزاء من كردفان، واجزاء من الجزيرة، مع انتقال البرهان وحكومته الى بورتسودان، على البحر الأحمر. والتى صارت العاصمة الجديدة للسودان ...
"لهذا، يقول كثير من الناس ان هذا مثل "سيناريو ليبيا"، حيث تحكم حكومتان، شرقية في بنغازى، وغربية في طرابلس. لكن، لان حجم السودان عشرة أضعاف حجم ليبيا، سيكون انهيار السودان اكثر كارثية من انهيار ليبيا ...
"في نفس الوقت، بالاضافة الى تجنيد الدعم السريع جنودا من تشاد، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، سينهمر على السودان طوفان من مكان اخر، من غرب افريقيا، من منطقة الساحل. توجد هناك جماعات اسلامية متطرفة، لابد ان يغريها الفراغ فى السودان بعد انهيار الجيش الوطنى ...
"يأتي الطوفان من اتجاه اخر، من الشمال البعيد، من روسيا التى تستمر ترسل المرتزقة الى دول فى غرب افريقيا، نكاية بتدخل أمريكا وفرنسا فى تلك المناطق. وتستمر روسيا تريد قاعدة عسكرية على البحر الأحمر. حاولت مع حكومات سابقة وفشلت. لكن، الحكومة الحالية ضعيفة ...
"اخيرا، ينشغل العالم بالحرب في اوكرانيا، والحرب فى غزة. لكن، يجب ان يهتم العالم بالنتائج الجيوسياسية الكارثية بسبب انهيار السودان."
=======

MohammadAliSalih@gmail.com
MohammadAliSalih.com
Mohammad Ali Salih/Facebook  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحرکات الاسلامیة سیناریو لیبیا الدعم السریع فی السودان الحرب فی فى لیبیا فی لیبیا کثیر من قطر فی

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وحدة السودان
  • فلتحذر حكومة سلفا..!!
  • برمة ناصر يعلن شروط تشكيل حكومة موازية في السودان
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
  • اختفاء 2000 شخص فى السودان منذ بدء الحرب
  • السودان الجديد وصورة دوران قري (1-2)
  • جوهر المشكلة – الحركة الإسلامية
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • السنوسي: ليبيا بحاجة إلى حكومة موحدة قوية يمكنها التعاون مع المجتمع الدولي لحل مسألة الهجرة
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو