عربي21:
2024-12-22@18:55:59 GMT

هل مرّ بتاريخ العرب ما هو أكثر رداءة من هذه الحقبة؟!

تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT

لا توجد حدود فاصلة بين العجز والتواطؤ في الموقف العربي من حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فالمادة المشتركة بينهما هي الرداءة؛ والتواطؤ أصله ومبتدؤه العجز، أي العجز المطبق من كلّ وجه، ممّا ينفي الذات القادرة، لانتفاء مقدمات القدرة من الإحساس الأخلاقي والوعي بالواجب والإرادة المتحفّزة.

وهذه هي الرداءة، فالرداءة والحالة هذه فساد يلغي القيمة للكيانية العربية الراهنة، وهو ما تتكشف عنه الوقائع المتداخلة، من العجز، أو الامتناع، عن إغاثة ما يقترب من 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزّة، بكيس طحين أو لتر حليب، في حين يُمدّ ممرّ بريّ إغاثيّ للكيان الإسرائيلي، تشترك فيه دول الإمارات والبحرين والسعودية والأردن ومصر بحسب مصادر صحفية إسرائيلية، وهو ما ذكرناه في مقالة سابقة هي (التعزيز العربي "للصمود الإسرائيلي"!)، وهو ما أكدته بالصوت والصورة لاحقا؛ القناة 13 الإسرائيلية التي رافق مراسلوها رحلة من شحنات الإمداد ابتداء من الإمارات وصولا للكيان الإسرائيلي، (هل يُمكن أن يحظى صحفي فلسطيني بفرصة التصوير المتتابع بين ثلاثة بلاد عربية في تغطية حدث سياسي؟!).

لا يترك الإسرائيلي فرصة للصمت غطاء على الدعم العربيّ له. يمكن قول الكثير في تفسير الإصرار الإسرائيلي على كشف كلّ ما يجري بينه وبين شركائه العرب، لكن ما يهمّ الآن هو هذا الإذلال الذي يمارسه على هؤلاء الشركاء، ففي مرافعته، مثلا، في محكمة العدل الدولية ردّا على دعوى جنوب أفريقيا ضدّه باقترافه الإبادة الجماعية في حقّ الفلسطينيين في غزّة، قال الإسرائيلي إنّ مصر هي من يغلق المعبر أمام المساعدات للفلسطينيين في غزّة؛ لا هو. ردّ الرئيس المصري على ذلك بقوله: "أنا هروح من ربّنا فين لو أنا السبب لو أنا مقدرش أدخل لقمة عيش لغزّة؟"، ثمّ شرح أن الإجراءات من الجانب الآخر (إسرائيل) هي التي تؤخّر وصول المساعدات للفلسطينيين في ضغط إسرائيليّ متعمّد يهدف إلى استعادة "الرهائن" (هكذا سمّاهم) الإسرائيليين من غزّة.

فلنتخيل كيف يصير إعلام أيّ دولة عربية في حالة من الهياج لو قال فلسطيني عاديّ كلمة من الشارع ينتقد فيها نظامها السياسي! ولنضع ذلك الهياج في مقابل الردود العربية على الإذلال الإسرائيلي، والذي يتبدّى في مواقف رسمية، كموقف أحزاب الصهيونية الدينية الذي يعدّ الأردن جزءا من "إسرائيل"، والذي تقترحه أوساط إسرائيلية وطنا بديلا للفلسطينيين.. ولنتذكر وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش حينما خطب في آذار/ مارس الماضي من باريس من على منصّة عليها خارطة "إسرائيل" تضمّ الأردن إلى فلسطين المحتلّة. في المقابل، اليوم تُزال في الأردن يافطة مطعم يحمل اسم "7 أكتبر". علينا كذلك ألا نغفل عن كون الفكر السياسي لمنظمة "أرغون" التي لا تكتفي بفلسطين حدودا لـ"إسرائيل" ما زال حاضرا في السياسة الإسرائيلية، فكيف إذا كان محمولا على عقائد خلاصية باتت بالغة النفوذ اليوم في السياسة الإسرائيلية؟ ما هي ملامح قلق الدول العربية المُهدّدة بتلك التصوّرات العدائية الإسرائيلية؟ لا شيء!

فلنفحص هذه المرّة هذا الموقف العربي بالنظر إلى دعايات التمجيد الذاتي للدول العربية من أقصى غربها إلى أقصى شرقها، أو كما في المقولة الكلاسيكية العربية "من المحيط إلى الخليج"، كيف يمكن لأحد في هذه المساحة الفسيحة بمئات ملايينها أن ينام طاويا على احترام نفسه، وهو يسمع خطابات التمجيد الذاتي لدولته التي تقارف الشوفينية الهزلية، بينما هذا هو واقع الحال من قلّة الحيلة في أحسن الأحوال؟! وكأن خطابات التمجيد الذاتي لا تنعكس في الواقع إلا في مظاهر التشاتم العربي البيني حينما تقع أزمة بين دولة عربية وأخرى. وكما بات معروفا فإنّ هذه الشتائم تزداد قبحا وبغيا حينما يُقذف بها الفلسطيني، بل إنّ لدينا حالة عربية غريبة من فتح الأقنية وإطلاق الذباب الإلكتروني لسبّ الفلسطينيين لأسباب غير مفهومة وطوال الوقت بلا مناسبة محددة! لكن هكذا تظهر العظمة العربية على جلود الفلسطينيين الضعفاء!

ما سبق صورة عن الرداءة العربية الراهنة، التي يجادل البعض عنها بالقول إنّها ليست الأسوأ بالمقارنة مع ما بلغته الحالة العربية الإسلامية في أزمنة ماضية، كما في عهود الحروب الصليبية، حينما انهارت السلطة السياسية الجامعة للمسلمين في المشرق، لتتناثر في إمارات المدن، التي تورّط بعضها في تحالفات خيانية مكشوفة مع الصليبيين الأوروبيين الغزاة!

تنعقد هذه المقارنة بحسن نيّة، للقول إنّ النهوض وتجاوز الواقع المزري ممكن، طالما كان ممكنا في ظرف أسوأ. ونحن لا نجادل في هذا الإمكان، ولكن في هذا التصوّر المفتقد للوعي التاريخي والمتورّط في مغالطة انتقائية ورغبوية، فالواقع لا يُفهم بالرغبات، وتجاوزه لا يكون بالأوهام.

يمكن تفسير تلك الأوهام عن تفضيل راهننا على مراحل بائسة في تاريخنا، بوجود الخيانة في تاريخنا، وبكون التمزق السياسي التاريخي بلغ حدود تحويل المدن إلى إمارات وممالك؛ أي دولة عربية اليوم أكبر من أيّ منها، وهذا تصوّر شديد القصور، لا يلحظ أولا أنّ إمارات المدن لم تقم على عقائد قومية تفصل جوهريّا بين بلدان المسلمين، بمعنى أنّه لم تتكون عقائد سياسية تفصل ابن حلب عن ابن دمشق، وابن دمشق عن ابن الموصل، وهكذا.. فالانتماء المكاني انتماء طبيعي، كما نقول هذا حجازي وذاك مقدسي، لكنه أبدا لم يتبلور في عقائد سياسية تشيّد عليها معازل نفسية وسياسية وتُحدّد على أساسها الحقوق والواجبات.

أول معالم قصور المقارنة هو الغفلة عن طبيعة الدولة الحديثة، وعن تجلياتها تحديدا في السياق العربي، وهو ما يجعل هذه الدولة بحدودها الأوسع أسوأ من إمارات المدن، المتحوّلة والعابرة، وغير المنفكّة عن السلطان المعنوي الجامع للمسلمين (الخلافة ولو اسميّة كانت)، وذلك بالإضافة إلى عوامل التماسك الاجتماعي الممثلة بقوّة الدين في المجال العامّ، والدور الحاسم للمؤسسات الدينية الاجتماعية، في ذلك الوقت، في تعزيز وحدة المجتمعات الإسلامية في المشرق، كما في شأن المذاهب الفقهية والطرق الصوفية، والتي ساهمت تاليا، ولا سيما في الفترة المملوكية، بدور أكبر في تعزيز المجتمع من خلال نظام الوقف، وإنشاء المدارس، ونقاط الجذب والتجمع، حتى من خلال التكايا والخانقاوات والأربطة، لتثبيت الوجود العربي الإسلامي في البلاد المهدّدة، وفي قلبها بيت المقدس، في مواجهة المخاطر القادمة من خلف المتوسط.

ليست القضية فحسب في طبيعة الاجتماع السياسي، المختلف جوهريّا بين هذه اللحظة وتلك اللحظة، والذي من صور اختلافه اليوم قوّة الجهاز الأمني الرهيبة، وإطباق الدولة على المجتمع، وبنحو غير موجود في الماضي، ولكن يُضاف إلى ذلك اليوم انعدام المشروع السياسي الذي تكون له تمثّلات سلطوية في الواقع، ويمكن الاستناد إليه في إصلاح الحال العربي أو مدافعة الغزوة الاستعمارية الغربية عن بلادنا والتي منها الواقعة الصهيونية.

هذا المجال العربي كلّه من المحيط إلى الخليج، لن تجد فيه ما يمكن أن يذكّر بالسلاجقة أو الزنكيين أو الأيوبيين أو حتى المماليك، بوصفهم سلطات سياسية، (نعم، نعلم أنّ هؤلاء كان فيهم خونة أيضا). لقد كان دائما في مقابل أمراء المدن المتحركين بالأنانيات التافهة والغرائز الرخيصة أمراء آخرون لديهم مشاريع أكبر ساهمت في تشكيل قواعد اجتماعية أنهت الوجود الصليبي من بلادنا، كما لم تكن الخيانات تبعيات مطلقة وارتباطات عضوية بقدر ما كانت أهواء منحطة، بخلاف الحال اليوم فالهوى المنحطّ بعض من التبعية المطلقة والارتباط العضوي بالقوى الغربية المهيمنة!

لا يقل عن ذلك أهمّية الوعي بالاختلاف الحضاري بين هذه اللحظة وتلك اللحظات، فبالرغم من انفلات العقد السياسي للمسلمين في تلك الحقبة، فقد امتازوا بالتفوق الحضاري على همج الغزوات الصليبية الأوروبيين، الذين كانوا أقلّ من أن يمثّلوا تحدّيا حضاريّا للمسلمين أو خطرا فكريّا عليهم، وهو بخلاف الحال القائم الآن، واللحظة العلمية التقنية وقتها لم تكن لتخلق فجوة عسكرية يصعب جسرها بين العرب المسلمين والغزاة الأوروبيين بخلاف الواقع الآن.

هل علينا أن نعرض كلّ التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتجذّرة الآن، للقول إنّ هذه هي اللحظة العربية الأكثر رداءة والأشدّ فسادا في تاريخ العرب والمسلمين؟!

لا نقول ذلك تيئيسا من إمكان التغيير، ولكن لأنّ الواقع لا ينبغي أن يُغطى بالأوهام، وكشفه من سبيل تجاوزه.

twitter.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإسرائيلية الفلسطينيين إسرائيل فلسطين غزة العالم العربي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد مقالات رياضة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة الإسرائیلی وهو ما

إقرأ أيضاً:

الثكنة الأخيرة

بعض العسكريين لا مثيل لهم في التاريخ المدني والإنساني. الجنرال شارل ديغول في فرنسا، الجنرال دوايت آيزنهاور في الولايات المتحدة، الجنرال فؤاد شهاب في لبنان، الفريق سوار الذهب في السودان. ثمة كثيرون أيضاً، في طيات التاريخ أو في سطوعه.

الموقف ليس ضد العسكر في المطلق. الموقف هو من بعض العسكريين الذين لا يعرفون شيئاً عن الحياة المدنية، ولا يقبلون شيئاً سوى أوامر الثكنات.

قارن بين السودان الذي تركه سوار الذهب لأهله، وما ترك عمر البشير. قارن بين سوريا الاستقلال، وسوريا ما بعدها من ثورات وانقلابات ورؤساء يرسلون إلى السجن إلى الأبد. كم رئيساً في سوريا أدخل سجن الظلم والتوافه ومواضيع الإنشاء المدرسية المجترة.

لم يقدم كثير من عسكر العرب لشعوبهم أي شيء آخر. مثلهم مثل طغاة أميركا الجنوبية الذين ملأت بهم الـ«سي آي إيه» جمهوريات الموز. رجال بلا أي كفاءة سوى البطش وجنون العظمة.

ويجب أن نتذكر أن الديكتاتور الكوبي باتيستا كان رقيباً أول عندما وصل إلى الحكم في هافانا. لم يصل حتى إلى رتبة ملازم. وهي الرتبة التي كان عليها معمر القذافي عندما استولى على ليبيا لأربعين عاماً.

الغريب أن السمة المشتركة بين عسكر العرب، أنهم تركوا بلدانهم بلا جيوش. القذافي فكك الجيش الليبي خشية الانقلاب عليه، والفريق بشار الأسد رأى خلفه الضباط يخلعون البزة العسكرية كأنها تهمة على صاحبها.

لا ضرورة للتذكير بأن الجيش السوري كان في أسوأ حالات الجيوش. لو أبقى الأخ القائد على الجيش الذي خرج منه، لكان أبقى للجماهيرية إطاراً وطنياً يربطها، غير النظرة العالمية الثالثة.

معظم عسكر العرب بدأوا ضباطاً وانتهوا آلهة. كل واحد منهم كان يتمتع بمواهب خارقة وهالة قداسة. طلاب المدارس في سوريا كان عليهم الانحناء لدى سماع النشيد الوطني، أو ذكر اسم السيد الرئيس. لم تقم في العالم، في التاريخ، أعداد التماثيل التي أقيمت للرفيقين اللدودين حافظ الأسد وصدام حسين.

وكان التمثال أول ما يسقط. وإذ تتأمل الناس حولها وفي أحوالها، لا تجد شيئاً آخر سوى التمثال «المهجور». لا سدود، لا مشاريع، لا خزائن. مجرد أسماء تذكارية لثكنات كتب عليها فلسطين - وإلى اللقاء في القدس.

الشرق الأوسط

مقالات مشابهة

  • حمدان بن محمد: "القيادات العربية الشابة" أكبر شبكة متخصصة لتمكين الشباب العربي الواعد
  • الاثنين.. انطلاق الدورة الثانية لملتقى مراكز الفكر العربي بالجامعة العربية
  • أمطار وثلوج على بعض الدول العربية.. طقس الخليج والمغرب العربي
  • الثكنة الأخيرة
  • بعثة الأمم المتحدة تزور مواقع الآليات التشغيلية التي استهدفها العدوان الإسرائيلي بميناء الحديدة
  • زيارة أممية لمواقع الآليات التشغيلية التي استهدفها العدوان الإسرائيلي بميناء الحديدة
  • الصراع العربي- الإسرائيلي والاقتصادات العالمية (3-3)
  • غيرترود بِيل.. الجاسوسة التي سلّمت العرب للإنجليز
  • أهم أنواع الخط العربي التي تزين أرجاء المسجد الحرام
  • أهم حدثين بتاريخ ١٩ ديسمبر