في ذكرى مولد «أم العواجز»| حقيقة مجيء السيدة زينب لمصر.. وتاريخ مسجدها
تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT
يحتفل المصريون اليوم الثلاثاء، بالليلة الختامية بذكرى مولد السيدة زينب، «أم العواجز» كما يحبون أن يطلقون عليها، وهي السيد زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب، والسيدة فاطمة الزهراء، والتي تشرفت مصر بقدومها إليها، بعد أن استجاب لها الله تعالى وأسكنها بلدًا طيبًا وعوضها حبًا ومودة وأهلًا محبين مستبشرين بمقدمها.
ولايزال ذكرى مولدها محفورًا في أذهان المصريين ويحتفلون به كل عام، وهو خير دليل على تسابق أهلها بعقيلة بنى هاشم أول من شرف مصر منهم، فكانت أول الغيث وبعدها وفد بقية أهل البيت، ولا يزال دعاؤها: «نصرتمونا نصركم الله.. وآويتمونا آواكم الله.. وأعنتمونا أعانكم الله.. وجعل لكم من كل مصيبة مخرجًا ومن كل ضيق فرجًا»، محفورًا فى أذهان المصريين منذ ذلك الحين.
لا شك فى أن الكثير من المصادر التاريخية أثبتت أن السيدة زينب الكبرى بعد أن سيرت للشام ثم للمدينة، ثارت فتنة بينها وبين عمرو بن سعيد والي المدينة حينذاك من قبل يزيد بن معاوية، وأصدر أمرًأ بنقلها من المدينة فنقلت منها إلى مصر، ودخلتها على مسلمة بن مخلد والي مصر فى ذلك الوقت، فى أول شعبان سنة ٦١ هجريا، وأقامت بها مدة ١١ شهرا ونحو ١٠ أيام أى توفيت مساء الأحد ١٤ رجب عام ٦٢ هجرية، بموضع كان يقال له الحمراء القصوى، حيث بساتين الزهري، وهو وفقًا لرسائل المقريزى هو المنطقة الواقع بها الضريح الزينبى الآن، إذن فهذا المشهد معروف من قبل القرن الثاني.
وأكد الإمام الرائد الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم، في كتابه «مراقد آل البيت» أن زينب الكبرى بنت السيدة فاطمة الزهراء بنت سيدنا الرسول صل الله عليه وسلم، وأبوها الإمام على بن أبى طالب، وولدت بعد مولد سيدنا الحسين بسنتين وكلاهما ولد فى شهر شعبان، فهى ولدت فى السنة الخامسة أو السادسة للهجرة فعاصرت إشراق النبوة، وسماها الرسول زينب إحياء لاسم ابنته زينب.
معنى زينب هى الفتاة القوية المكتنزة الودودة العاقلة، واشتهرت سيدتنا بجمال الخلقة والخلق، والإقدام والبلاغة والكرم وحسن المشورة والعلاقة بالله، فكان يرجع إليها أبوها وأخواتها فى الرأى لأخذ مشورتها لبعد نظرها وقوة إدراكها، كما تزوجت من ابن عمها عبدالله بن جعفر بن أبى طالب وأنجبت منه جعفر وعلى وعون الأكبر وأم كلثوم وأم عبدالله.
وكان لها من اسمها نصيب، فلقد كانت من أشد عباد الله ابتلًاء وصبرًا واحتسابًا، ولم تكد تتفتح عيناها على الحياة فى رحاب جدها وحنان والدها وشفقة أمها، وما أن أتمت الخامسة حتى قبض جدها المصطفى فحرمت من عطفه وحنانه وشفقته وبعدها بستة أشهر فقدت أمها الزهراء فألقيت عليها مسئولية البيت وفرض عليها أن تؤدى دور الأم لأخويها وترعى شئون أبيها وفوق ذلك انشغال والدها عنها بهموم الخلافة التى ما تركته يومًا.
وجاء النبأ الحزين يقتحم عالم وحدتها وصمتها بمقتل والدها الإمام علي وهو خارج ليؤم المسلمين في صلاة فجر يوم من أيام شهر رمضان على يد شقي من الخوارج والتي تندفع إليه بالسيف المسموم ليقتل غدرًا.
وتلاحقت الأحداث والناس فى اختلاف حول إمامة أخيها الحسن بعد استشهاد أبيه ما بين مؤيد ومعارض ومتهم لأبيها وأخويها ذورًا بالتحريض أو بالتقصير إيذاء مقتل سيدنا عثمان رضى الله عنه، فتضع زوجة أخيها السم له فى طعامه فتقتله مسمومًا وهو الوديعة المؤثر الصلح والسلام فقد تنازل عن الخلافة.
واكتملت مأساتها المروعة فى كربلاء فى العاشر من محرم عام ٦١ هجريًا بعد توالى البلايا خلال مشاركتها فى الأحداث الكبرى، حيث شاركت أخاها الإمام الحسين فى جهاده ضد غدر يزيد بن معاوية له، فكانت رضى الله عنها تثير حمية الأبطال وتشجع الضعفاء وتخدم المقاتلين، حسبما ذكر السراج المنير في كتابه « السيدة زينب فى قلوب المحبين».
وكانت أبلغ وأخطب وأشعر سيدة من أهل البيت، فبعد مقتل الحسين ساقوها مع السبايا ووقفت على ساحة المعركة تقول: "يا محمداه.. يا محمداه.. هذا الحسين فى العراء مزمل بالدماء مقطع الأعضاء.. يا محمداه هذه بناتك سبايا.. وذريتك قتلى تسفى عليها الرياح"، وكان لها مواقف جريئة مع ابن زياد ومع يزيد، وحمى بها الله فاطمة الصغرى بنت الحسين من السبى والتسري، وكذلك على الأصغر زين العابدين من القتل والذى حفظ به الله ذرية سيدنا الحسين وانتشرت فيما بعد، ولقبت سيدتنا بلقب "بطلة كربلاء: زينب".
وذكر الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم في كتابه «مراقد آل البيت» تاريخ المسجد الزينبى الذي يحتفل المصريون حوله كل عام وكيف كان قبل وبعد مقام السيدة زينب، حيث أول ما كان بيتًا لأمير مصر "مسلمة بن مخلد" قائمًا على الخليج المصري عند قنطرة على الخليج كانت تسمى "قنطرة السباع" لأنها كانت مزينة من جوانبها بسباع منحوتة من الحجر.
ولما ردم الجزء الذي عليه القنطرة من الخليج زالت القنطرة فاتسع الشارع، حتى ظهر مسجد السيدة بجلاله الحالى بعد أن توالت التجديدات عليه، فقد تم تجديد الحرم الزينبى فى القرن السادس الهجرى فى عهد الملك سيف الدين أبو بكر، ثم فى سنة ٩٥١ هجريًا جدده الأمير على باشا الوزير، وفى عام ١١٧٠ هجريًا جدده الأميرعبدالرحمن كتخدا، ثم أنشئت بعد ذلك مقصورة النحاس الأصفر على القبر، ثم وقف التجديد.
وجاء محمد على فأتم عمارة المسجد ثم عباس الأول قام بوضع توسعة المسجد وتجديده ثم قام سعيد بتنفيذ التصميم ثم قام الخديوى توفيق بإصلاح القبر والمنارة وتجديد الجدران والقبلة، ثم قامت الحكومة المصرية بتوسعة أولية عام ١٩٤٠ م، ثم التوسعة الثانية عام ١٩٦٩ م، وأنشأت محرابًا جديدًا وميضأة منفصلة، وما زالت التجديدات مستمرة حتى الآن، حيث تقوم وزارة الأوقاف بتجديده حاليًا.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: السیدة زینب
إقرأ أيضاً:
الشجرة الطيبة المباركة.. أصل ثابت وفرعٌ مورقٌ نابت
الدولة السعودية الأولى:
من يتأمل تاريخ هذه الأسرة السعودية الطيبة الزكية الكريمة المباركة، حتى قبل أن يتولى الإمام محمد بن سعود الإمارة عام 1139/1727، ومن ثم يؤسس الدولة السعودية الأولى في 1157/1744؛ لا بدّ له أن يدرك يقيناً أن قادتها قد أخذوا على عاتقهم مهمة توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق العدل ووأد الظلم إلى الأبد، ومساعدة المحتاجين، وإغاثة المنكوبين، وإحياء الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتوفير الخير للناس أجمعين، وقبل هذا وذاك، توحيد الله عزَّ و جلَّ وإعلاء كلمته، وخدمة الحرمين الشريفين، ورعاية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتمّكينهم من أداء شعائرهم في الحج والعمرة، وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمن وأمان واطمئنان، وتحقيق الخيرية للناس أجمعين من عرب وعجم، سعياً لتحقيق مفهوم الخلافة في الأرض كما ينبغي له أن يكون.
فقد تسنَّموا الإمارة في عهود مبكرة، بزغ فجرها مع قدوم مانع بن ربيعة المريدي مؤسس الدرعية عام 850/1446، لتصبح لاحقاً نواة الدولة السعودية الأولى، لاسيَّما بعد أن انضمت إليها العيينة، حريملاء، منفوحة، عرقة والعمارية، أي قبل ستمائة عام تقريباً، الذي كان ملكاً بسط سيادته على الإحساء والقطيف وقطر، ثم انتقلت الإمارة بين عقبه، من موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، إلى ابنه إبراهيم، ثم تعاقب على الحكم مرخان بن إبراهيم بن موسى وابنه مقرن الذي تنازل له أخوه ربيعة، فناصر بن محمد بن وطبان، فوالده محمد الذي خلفه أخوه إبراهيم، ليخلف إبراهيم هذا أخوه إدريس، ثم موسى بن ربيعة بن وطبان بن ربيعة، الذي كثيراً ما خلط المؤرخون الأجانب الذين ليس لديهم إلمام تام بتسلسل نسب هذه الأسرة الطيبة المباركة الكريمة، بينه وبين موسى بن ربيعة بن مانع المريدي؛ ثم سعود بن محمد بن مقرن، فزيد بن مرخان بن وطبان، فمقرن بن محمد بن مقرن، لتعود الزعامة إلى زيد بن مرخان مرة أخرى؛ ليستقر الأمر في النهاية لسعود بن محمد بن مقرن، كبير فرع آل مقرن، وهو الذي تنسب إليه الأسرة السعودية الكريمة المباركة اليوم. فإذاً هذه الأسرة السعودية المباركة، ذات بعد تاريخي عريق، ليست طارئة على مسرح الأحداث، كما فعل كثيرون في بلدان كثيرة، ليس لهم من التاريخ غير أنهم جاؤوا محمولين على ظهر دبابات المستعمر، فأذاقوا شعوبهم الويل والثبور، وما زالوا يذيقونهم الأمرين.
أقول هكذا تعاقب قادة آل سعود، إلى أن استقر الأمر أخيراً إلى الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، الذي يُعَدُّ آخر أمراء الدرعية من آل سعود، وأول أئمة الدولة السعودية وقادتها، إذ تولى الإمارة ليؤسس لاحقاً الدولة السعودية الأولى كما تقدم، أول كيان سياسي اجتماعي موحد، دولة جديدة منظمة، لم تعرف شبه الجزيرة العربية مثيلاً لها منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة.
كان الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، كسائر قادة آل سعود، يتمتع بصفات قيادية فريدة، اشتهر بها دون غيره من أمراء البلدان النجدية، جعلت له مكانة سامية بين ربعه آل مقرن، وسائر مواطنيه على حد سواء؛ فقد أثنى المؤرخون المحليون وغيرهم على ما تحلّى به من أخلاق رفيعة: وفاء، مروءة، شهامة، كرم، إقدام ومد يد العون حتى لمن ناصبه العداء. وكان بجانب هذا شجاعاً جسوراً في غير تهور، قوي العزيمة، رابط الجأش، ولهذا كثيراً ما قاد الجيوش بنفسه، خاصة في المراحل الأولى من الغزوات التي خاضها لتوحيد نجد، حريصاً على استتباب الأمن، وتفقد الأمور العامة لرعيته، بحفظ حقوقهم، ورفع الظلم عنهم. كما كان دبلوماسياً ذكياً حسن التدبير، حريصاً على إتباع سياسة السلم وحسن الجوار، لا يقدم على القتال إلا إذا غلبت الروم، فكان لا بد ممّا ليس منه بد. ولهذا استطاع أن ينأى ببلاده عن النزاعات والحروب التي كانت سائدة بين البلدان النجدية حينئذٍ؛ لكنه مع هذا كان صاحب قدرة مدهشة على اتخاذ القرارات الخطيرة في ما يتعلق بكل الشؤون المصيرية برعيته أو بلاده. كما كان خبيراً بالشؤون العسكرية، وأسلوب القتال، ومن ذكائه السياسي الإداري، كان يبقي على أمير كل بلدة في إمارته في حال انضمامه إلى الدرعية طوعاً أو كرهاً.
وكان بجانب هذا كله شديد التَّديُّن، حتى قبل توليه شؤون الإمارة، كثير الخيرات والعبادة، كان يحب الخلوة فينقطع عن أهله وأولاده للعبادة. فازدهرت الحياة العلمية في عهده إلى حد ما. ولهذا، وغيره كثير من صفات قيادية مدهشة، دان له الجميع بالطاعة والولاء، ولم ينازعه أحد الحكم. كما كان حكمه مستقراً مستقلاً استقلالاً تاماً عن بقية القوى السياسية، داخلية كانت أو خارجية، ولم يكن يتلقى مساعدات خارجية أيَّاً كانت من هذه القوى أو تلك.
وهكذا ظل الإمام محمد بن سعود يجاهد في تأسيس هذه البلاد الطاهرة الطيبة المباركة التي ليس مثلها اليوم في الدنيا وطن لمدة أربعين سنة تقريباً، أي أنه قضى نصف عمره المباركة في خدمة بلاده وشعبه، حتى إذا وافته المنية عام 1179/1765، ترك لابنه عبد العزيز كياناً قوياً ضم بلاداً مهمة وقبائل بارزة في نجد، واضعاً بذلك حدَّاً لقرون من التمزق والتفرق السياسي والقبلي والاجتماعي بين بلدانها وقبائلها.
فتولى الحكم بعده ابنه عبد العزيز، الذي كان مثل والده، فارساً لا يشق له غبار، فكم قاد الجيوش بنفسه وتقدم الصفوف، ولم يقعده حتى المرض عن تحقيق أهدافه؛ فسار على خطى الوالد المؤسس في تعزيز أركان الدولة؛ فتمكَّن عام 1186/1772 من ضم الرياض إلى الكيان الجديد. حتى إذا لحق بالرفيق الأعلى شهيداً إن شاء الله، عام 1218/1803، تسلم الراية ابنه سعوداً، الذي أعدَّه والده عبد العزيز إعداداً جيداً ليتولى قيادة السفينة بعده. وكان سعود هذا، إضافة لما تحّى به من صفات القيادة والبطولة، عالماً ضليعاً في التشريع الإسلامي، فبذل جهداً كبيراً في تطبيق الشرع، واستتباب الأمن والاستقرار، وسيادة النظام، والقضاءعلى الحروب المحلية والنزاعات الشخصية.
وعند وفاة سعود في الدرعية عام 1230/1814، خلفه ابنه عبد الله، الذي عرف بالفروسية والجرأة والإقدام منذ طفولته المبكرة، إذ قيل إنه استطاع ترويض فرسه وهو لم يكن يتجاوز ربيعه الخامس بعد. كما كان صريحاً محبوباً، وكان كل أفراد رعيته يرون فيه تجسيداً لكل الفضائل والمكارم، شأن قادة آل سعود كلهم على مرّ التاريخ.
وهكذا ظل كل خلف يضع مزيداً من اللبنات على بنيان السلف، إلى أن بلغت الدولة السعودية التي تعدّ أول كيان سياسي اجتماعي موحَّد في شبه الجزيرة العربية، بعد عهد الخلافة الراشدة كما تقدم، وقوة نفوذها في شؤون الخليج حدهما الأقصى عام 1225/1810. لكن للأسف الشديد، بدأ محمد علي باشا حملاته على السعودية من مصر، ثم توالت الحملات والقتل والدمار إلى أن وصلت الدرعية، فاضطر الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز عام 1233/1818، للدخول في مفاوضات مع الغزاة بعدما استنفد كل جهده في مقاومتهم؛ فعقد صلحاً مع إبراهيم باشا لإيقاف الحرب شريطة العفو عن مقاتليه والمحافظة على الدرعية وأهلها. ومع أنه كان مدركاً لمصيره، إلا كل ما كان يشغل ذهنه هو قومه وبلاده، شأن القادة الكبار عبر التاريخ. وبالفعل كما كان يتوقع، بعد أن أخذه الغزاة إلى القاهرة ومن معه، تم إرساله إلى القسطنطينية حيث أعدم مع بعض المقربين إليه.
ومتى كان الغازي يرعى عهداً أو يخفر ذمة؟ فقد هدموا الدرعية ودمّروها، حتى قيل إنه لم يبق فيها حجر على حجر، حتى أشجار نخيلها لم تسلم من حقد المعتدي، وهكذا أسدل الستار على الدولة السعودية الأولى.
الدولة السعودية الثانية:
ولما كانت هذه الأسرة السعودية المباركة، صاحبة رسالة عظيمة سامية، غايتها توحيد الله وإعلاء كلمته، ونفع الناس أجمعين، وتحقيق الخلافة في الأرض كما ينبغي لها أن تكون، كان لا بدّ لقافلة خيرهم القاصدة، أن تحثّ السير نحو غاياتها، مهما كانت وعورة الطريق. فبعد فترة فراغ وفوضى كما يحدث عادةً بعد انهيار الحكم القائم، برز من بين الصفوف الإمام تركي بن عبد الله، الفارس الجسور، البطل المغوار، صاحب السيف الأجرب، فالتف حوله قومه، واستطاع طرد الغزاة وإجلائهم عن نجد كلها، واستعادة الرياض وجعلها عاصمة لدولته، بعد أن أجبرهم سيفه الأجرب على مغادرتها صاغرين. وقد لُقِّبَ الإمام تركي بسيفه هذا (صاحب الأجرب) وفيه قال في قصيدته الشهرة التي وجهها لابن عمه مشاري بن عبد الرحمن، الذي كان محبوساً من قبل الأتراك في مصر مع مجموعة من أقربائه وأتباعه:
ان سايلو عني فحالي تسرا
قبقب شراع العز لو كنت داري
يوم ان كلن من خويه تبرا
حطيت الأجرب لي خوي(ن) يباري
نعم الرفيق اللي صطا ثم جرا
يودع مناعير النشاما حباري
ثم يواصل في قصيدته، مطمئناً ابن عمه مشاري، باستعادة دولة آبائه وأجداده:
رميت عني برقع الذل برا
ولا خير في من لا يدوس المحاري
يبقى الفخر وانا بقبري معرا
وافعال تركي مثل شمس النهاري
احصنت نجد عقب ما هي تطرا
مصيونة عن حر لفح الهذاري
نزلتها غصب(ن) بخير وشرا
وجمعت شمل(ن) بالقرايا وقاري
والشرع فيها قد مشى واستمرا
ويقرى بها درس الضحى كل قاري
زال الهوى والغي عنها وفرا
ويقضي بها القاضي بليا مصاري
والحقيقة القصيدة طويلة ومعبرة ومؤثرة، ولا أكاد أقرأها حتى يبلل الدمع الورق دون أن أشعر، وكم تمنيت لو أنني أستطيع إيرادها هنا كلها، لما تعبر عنه من معاني جزلة، وتؤكد الروح الشاعرية لهذا البطل، صاحب المواهب المتعددة؛ إذ كان بجانب هذا كله صاحب خبرة في التطبيب البلدي.
أجل، كان الإمام تركي بطلاً شجاعاً مقداماً لا يخشى الوغى، شأنه شأن آبائه وأجداده، قاد أخطر الحملات وأكبرها في استعادة الدولة بنفسه متقدماً الصفوف، ذكياً راجح العقل، صاحب رأي سديد متديناً، شهماً كريماً حتى مع من ناصبوه العداء، حريصاً على رؤية دولة تعيد توحيد الناس حتى إن لم يكن هو زعيماً لها، شديداً في رد الحق إلى نصابه، وتأديب المعتدي. فتعلق به قومه وأعجبوا بشخصيته القوية وحزمه وعزمه، ممّا أهله لتولي الأمر وإعادة الدولة السعودية في دورها الثاني عام 1240/1824. وفي هذا قال عنه ابن بشر: (دخلت السنة الحادية والأربعون بعد المائتين والألف، وتركي بن عبد الله رحمه الله في الرياض، وبلدان نجد كلها سامعة مطيعة. فاطمأنت بعدله الرعايا، وأمنت البلدان والقرايا. ورفع الله بولايته عن المسلمين المحن وزالت عنهم الحروب والفتن… إلخ).
ولا غرو في ذلك، فوالده هو الإمام عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، الجد الأعلى للأسرة المالكة اليوم. شارك في توحيد الدولة السعودية في دورها الأول، وقاد كثيراً من الحملات، كما كان من خاصة مستشاري أخيه الإمام عبد العزيز لصدقه وإخلاصه ورجاحة عقله. كان كثير الملازمة لأخيه، حتى عندما طعنَه قاتلُه في مسجد الطريف أثناء صلاة العشاء عام 1218/1803، كان إلى جانبه. فسارع الإمام عبد الله وصرع المجرم الذي أهوى عليه يريد قتله بعد أن جرحه، واجتمع المصلون على القاتل فقتلوه.
وهكذا ظل الإمام تركي يؤمن البلاد والعباد ويرسي العدل، ويضع حداً للاضطرابات القبلية، إلى أن سقط شهيداً مثل عمه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، بيد الغدر والخيانة والحقد على ما حققه من إنجازات عظيمة.
وسرعان ما عاد الإمام فيصل بن تركي الذي كان يقود جيش والده للدفاع عن الإحساء، ليقتص من قاتله، ويستلم زمام الأمر في العام نفسه. ثم يبذل قصارى جهده لطرد الغزاة المعتدين الذين حدثتهم أنفسهم بالعودة مجدداً.
ونظراً لاختلال ميزان القوى، استسلم مشترطاً تأمين أتباعه، فأرسل إلى مصر حيث تم حبسه. ثم يتمكن من العودة بعد فترة فوضى، ليستعيد سلطته من جديد؛ وظل يوطِّد حكمه، ويعمل على الاستقرار، ويرسي الأمن، ويقيم العدل، ويؤمن قوافل الحجيج، ويضطلع بشؤون رعيته، حتى وفاته في 1282/1865. فخلفه ابنه عبد الله. وتستمر مؤامرات الغزاة المعتدين في إشعال جذوة الصراع على السلطة، ليفضي الأمر في النهاية، إلى أفول نجم الدولة السعودية الثانية التي أسسها الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود.
الدولة السعودية الثالثة:
ولما كانت هذه الأسرة السعودية الطيبة المباركة صاحبة رسالة سامية عظيمة كما تقدم، تكمن في توحيد الله، وإعلاء كلمته، وتحقيق الخيرية للناس أجمعين، كان لا بد لقافلة خيرنا القاصدة، مواصلة المسير مهما اعتراها من صعاب. ومثل جده الإمام تركي بن عبد الله، ومن قبلهما جدهما الأمام محمد بن سعود، نهض المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، البطل الفذّ الذي اجتمعت له من الصفات البطولية النادرة ما لم يجتمع مثلها لغيره من معاصريه، فحمل الراية بكل جدارة واقتدار، وانطلق من الكويت يرافقه الرواد الأوائل ليستعيد ملك آبائه وأجداده في الخامس من شوال عام 1319، الموافق للخامس عشر من يناير عام 1902، في ملحمة بطولية أدهشت أكبر جنرالات العالم من خريجي سانت هيرست وويست بوينت وأشهرهم. ولأنها أسرة صاحبة رساة حقاً، كان أول قرار أعلنه الملك عبد العزيز المؤسس، أن دستور بلاده هو كتاب الله عزَّ و جلَّ، ثم سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت دولته امتداداً طبيعياً لدولة آبائه وأجداده.
وهكذا انطلقت رحلة البناء الطويلة الشاقة، يد تبني وتعمِّر، وأخرى تحمل السلاح لتأديب العصاة وقطع دابر المفسدين. ومثلما قضى الإمام محمد بن سعود أربعة عقود في مسيرة التوحيد، كذلك فعل المؤسس الملك عبد العزيز، إذ قضى ثلاثة عقود في مسيرة توحيد بلاده، وكان كثيراً ما يقود الجيوش بنفسه متقدماً الصفوف.
كما استطاع بما وهبه الله من ذكاء، وفطرة سليمة، وصفات قيادية عديدة، تجيير صراع القوى الأجنبية على بلده لخدمة مصالحه هو. فأسس هذا الكيان الشامخ، الذي كانت نواته الدرعية، التي لم تكن تتجاوز بضعة كيلومترات، إلى وطن قارة. ومثلما اهتم عبد العزيز بتوحيد أجزاء بلاده، لم يكن لقائد مثله أن يغفل توحيد قلوب شعبه، والتفافهم حول قيادتهم، ونبذ الفرقة والشتات والتعصب القبلي والجهوي والمناطقي، وتوحيد الجهود كلها لخدمة الجميع.
فأصبحنا اليوم بفضل الله سبحانه وتعالى، نعيش في إلفة ومحبة ورخاء وازدهار، كلنا أسرة واحدة، يرحم كبيرنا صغيرنا، ويوقِّر صغيرنا كبيرنا، جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أقول، أوقف الملك عبد العزيز حياته الطيبة المباركة كلها، لتأسيس هذا الكيان، وترسيخ أركانه، وإن كانت إنجازاته لا تعد ولا تحصى، كما يؤكد دوماً قائد مسيرتنا الظافرة اليوم، خادم الحرمين الشريقين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أشبه الناس بعبد العزيز خَلقاً وخُلقاً، مستودع تاريخنا وإرثنا الحضاري: (إن ألف كتاب، أو حتى ألفا كتاب، لن تستطيع أن توفي الملك عبد العزيز حقَّه علينا)، أقول وإن كانت إنجازات عبد العزيز لا تعد ولا تحصى، يبقى ترسيخ الأمن الذي أصبح علامة سعودية فارقة بامتياز في العالم كله، ممّا جعل دولتنا المباركة هذه اليوم تعرف في العالم كله شرقيه وغربيه بـ (دولة الأمن والأمان). يسير فيها المسافر من الشام إلى اليمن، ومن الخليج إلى البحر، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
والحقيقة، يعجز الإنسان، ويخذله اللسان عند ذكر إنجازات المؤسس الملك عبد العزيز، ولهذا يروق لي دوماً، أن أجد في شعر الشاعر المبدع أحمد بن إبراهيم الغزاوي، شاعر الملك عبد العزيز، شيئاً من عزاء في عدم القدرة على حصر إنجازات الملك عبد العزيز والد الجميع، إذ يقول في رائعته بمناسبة قدوم الملك عبد العزيز مكة المكرمة في السادس من ذي الحجة 1346، بعنوان (قد شاء ربك أن تكون موفقاً):
ما ذا أرتل من مآثرك التي
أولى فضائلها صلاح (المسجد)
وحدت فيه صلاة كل جماعة
وأذعت فيه هدي دين (محمد)
وعمرته وأقمت في أرجائه
ظلاً تقي حر الهجير الموقد
وأشدت فيه مسايلاً مورودة
فهي (السقاية) في جوار الأسعد
زانت جوانبه نجوم الكهربا
فتلألأت كالكواكب المتوقد
ونسجت ثوب البيت حول رواقه
فأضفت طارف مجده المتجدد
•••••••••••
وينام ملء جفونه عن ماله
مما استتب من الأمان الأوكد
إلى أن يقول:
هذا لعمر الله بعض صنيعكم
هيهات بحصره بيان مقصد
وبعد رحيل المؤسس، بعد رحلة جهاد شاقة طويلة، أورثتنا هذا المجد الذي نفاخر به اليوم الأمم كلها، حمل الراية بعده أبناؤه: سعود، الفيصل، خالد، الفهد، عبد الله، وكلهم كان يضيف مزيداً من اللبنات على هذا البنيان الراسخ الشامخ؛ وصولاً إلى هذا العهد الميمون الزاهر، بقيادة شبيه عبد العزيز، خادم الحرمين الشريفين سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده القوي بالله الأمين أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، شبيه والده وجده المؤسس، الذي ظل دوماً منذ شبابه الباكر، نعم السند. فأدهشت بلادنا العالم بما حققته من تنمية وتطوير في المجالات كلها؛ وانتقلت من المحلية إلى العالمية لتحقق مراكز متقدمة في المؤشرات الدولية في جميع المجالات.
والحقيقة الحديث يطول عن هذه الإنجازات المدهشة التي تفوقت فيها السعودية اليوم على نفسها، ولهذا أكتفي برسالة سريعة أوجهها إلى أولئك الذين كانوا يعيروننا بالخيمة والشاة والصحراء:
اليوم نحن أقوى تاسع دولة على مستوى العالم.
لدينا أحد أكبر الصناديق السيادية في العالم وأفضلها.
أفضل دولة من حيث التعليم.
أقوى اقتصاد على مستوى العالم العربي، والعشرون على مستوى العالم.
أغنى الدول العربية، وفي المركز التاسع عشر عالمياً.
نحتل المرتبة الثالثة في قائمة أسعد الدول على مستوى العالم.
نحتل المركز الأول على مستوى العالم في تحقيق أكبر عدد من الميداليات في ما يتعلق بمسابقة الذكاء الاصطناعي للشباب.
ولأننا لا نحقد مثلكم، ولا نحسد ولا نشمت، ندعوكم لمشاهدة مباريات كأس آسيا على ملاعبنا 2027.
ولزيارة معرض أكسبو في بلادنا 2030.
ولمشاهدة كأس العالم أيضاً على ملاعبنا التي ستدهشكم قطعاً 2034.
ومن اليوم حتى آنئذٍ، سترون المزيد من الإبداع الجديد في كل المجالات في بلادنا.
ومع هذا، أتعلمون: ما زالنا نعتز بالخيمة والشاة والصحراء ونفتخر، وسنبقى كذلك إلى الأبد. ونشكر المنعم الوهاب ليل نهار على ما تفضل به علينا.
وبعد، الحقيقة ليس الغرض من حديثي هذا اليوم سرداً لتاريخ هذه الدولة المباركة، وسيرة قادتنا الكرام البررة الذين أوقفوا حياتهم كلها لخدمتها؛ وإن كان الأمر قطعاً يستحق، بل أكثر من ذلك: في كل دور من أدوارها لقي أحد قادتها ربه شهيداً إن شاء الله، الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، والملك فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود.
فقد ضحى أولئك كلهم بحياتهم من أجلنا، واليوم الدور علينا نحن المواطنين، على كل واحد منَّا أن يدرك مسؤوليته تجاه وطنه، من العامل البسيط حتى أساتذة الجامعات، وإن كنت أتوجه هنا إلى الإخوة رجال الأعمال بشكل أكثر تحديداً، لدعم بلادهم في خدمة المجتمع في مختلف المجالات.
صحيح، الدولة لم تقصر، ولن تقصر أبداً إن شاء الله في واجبها تجاه مواطنيها الكرام، لكن من باب الوفاء والعرفان والامتنان لما تضطلع به الدولة من واجب عظيم، أتمنى أن أرى مشروعات حقيقية يقوم بها رجال المال والأعمال لخدمة الفئات الأكثر حاجة في المجتمع.
وكل عام قادتنا بصحة وعافية، وبلدنا في أمن وأمان وسلام واستقرار، ومن تقدم لآخر، وشعبنا في راحة وهناء ووئام.