لجريدة عمان:
2024-06-30@02:32:38 GMT

مدرسة التّفكيك العرفانيّة وفلسفة النّصّ

تاريخ النشر: 5th, February 2024 GMT

الاتّجاهات القرائيّة للنّصّ الدّيني تمايزت بين اتّجاهات مختلفة، منها متداخلة، ومنها متوازية، منهم من مال إلى الاتّجاهات الحرفيّة الظّاهريّة للنّصّ الدينيّ، ومنهم من توسع في التّعامل معه أصوليّا علليّا ومقاصديّا، وهؤلاء أيضا على درجات، ومنهم من مال إلى القراءات الفلسفيّة له، أي وفق المناهج الفلسفيّة قديما وحديثا، ومنهم من مال إلى القراءات العرفانيّة والرّمزيّة، وهؤلاء أيضا على درجات بين موسع ومضيّق.

في المغرب العربيّ مثلا حدث توسع في القراءات المقاصديّة له، فألف محمّد الطّاهر ابن عاشور (ت 1973م) كتابه الشّهير «مقاصد الشّريعة الإسلاميّة»، بينما حدث توسع في إيران في القراءات العرفانيّة والبرهانيّة الفلسفيّة للنّصّ الدّينيّ، وإن كان في جملتها لم تخرج عن إطار النّظريّات القديمة واللّاهوتيّة كنظريّة ابن عربيّ (ت 638هـ) والملّا صدرا (ت 1050هـ) والطّباطبائيّ (ت 1981م)، بينما بدأ يميل العالم العربيّ إلى قراءات أكثر انفتاحا على المناهج الغربيّة كقراءات محمّد أركون (ت 2010م)، ونصر حامد أبو زيد (ت 2010م)، ومنهم من له قراءات لم تبتعد عن القراءات الكلاسيكيّة، ولكنها وفق مراجعات مختلفة معاصرة، كقراءات الجابري (ت 2010م) ومحمّد شحرور (ت 2019م)، وعلى المناهج الغربيّة في الجانب الإيرانيّ عبدالكريم سروش ومليكان، وعلى القراءات النّاقدة وفق القراءات الكلاسيكيّة كمال الحيدريّ.

بيد أنّه في إيران ساد لديهم القراءات العرفانيّة للنّصّ الدّينيّ، ويعتبر ابن عربيّ من أكثر المؤثرين في العرفان الشّيعيّ، ثم جاء الملّا صدرا (ت 1050هـ) «وعرفن الفلسفة، أي ألبس الفلسفة لباس العرفان، وممكن أن نقول ألبس الفلسفة لباس العرفان، وفلسفته المسماة بالحكمة المتعالية حسب ظاهرها فلسفة، إلّا أنّ باطنها عرفان»، «وفلسفة الملّا صدرا بالتّحديد في القرن الأخير اتّسعت وتعمّقت في المحاضر الفلسفيّة الشّيعيّة، وبعد الثّورة الإسلاميّة وبما أنّ الإمام الخمينيّ (ت 1989م) كان مؤمنا ومتبنيّا لهذه الفلسفة؛ أخذت أكثر انتشارا وشهرة في الحوزات العلميّة، وكذلك في الزّمان نفسه، وبالتّوازي كان لدينا الطّباطبائيّ، والّذي كان معتقدا ومروّجا لهذه الفلسفة أيضا، وكتب كتابين مهمّين وهما بداية ونهاية الحكمة، والّذين صارا يدرّسان في الحوزة العلميّة».

ويرى مهدي نصيري أنّه «إلى القرن العاشر الهجريّ، لم تكن الفلسفة اليونانيّة والعرفان اليونانيّ، والّتي يطلقون عليهما حاليا الفلسفة الإسلاميّة والعرفان الإسلاميّ رائجة ومنتشرة في الحوزات العلميّة الشّيعيّة عموما، وكان حضورها ضعيفا جدّا، وإلى القرن الرّابع الهجريّ، علم الكلام الشّيعيّ، والّذي بدأ مع الشّيخ الطّوسيّ (ت 460هـ)، واستمر مع الخواجة نصير الدّين الطّوسيّ (ت 672هــ)، ومن ثم مع الحلّيّ (ت 726هـ) شارح تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدّين الطّوسيّ، فإنّ علم الكلام العقليّ كانت له الغلبة، وانتشار الفلسفة والعرفان في الحوزات العلميّة الشّيعيّة بدأ منذ القرن العاشر الهجريّ فيما بعد مع الملّا صدرا، حيث جاء وأسّس الحكمة المتعالية، وجمع بين فلسفة ابن سينا (ت 427هـ) وعرفان ابن عربيّ، وقبل ذلك حتّى فلسفة الملّا صدرا إلى مائة سنة سابقة لم يكن لها هذا الانتشار والنّفوذ، وهذا الانتشار والسّعة لفلسفة الملّا صدرا في الحوزات العلميّة، وبالتّحديد في قم يعود إلى الطّباطبائيّ، والّذي بدأ نشاطه، وكرّس درسه الفلسفيّ قبل الثّورة الإسلاميّة، وحصلت هناك بعض المعارضة، فالمرحوم السّيّد البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)، وهو أحد كبار مراجع الشّيعة في قم، وكان لديه اختلاف مع الطّباطبائيّ».

وفق هذا حدث تداخل بين النّصّ الدينيّ والبرهان الفلسفيّ والإشراق العرفانيّ، وبدأت قراءات تدخل في النّصّ الدّينيّ، فولدت في هذا المحيط مدرسة جديدة، قد تكون ذات خصوصيّة إيرانيّة، إلّا أنّها بدأت تتوسع في القراءات الكلاسيكيّة واللّاهوتيّة، وهي مدرسة التّفكيك، أو المدرسة التّفكيكيّة.

والمراد بمدرسة التّفكيك هنا ليس كمراد جاك دريدا (ت 2004م)، وإنّما الاشتراك في المصطلح مع اختلاف المصاديق، فهذه المدرسة تمايز بين ثلاث اتّجاهات: مدرسة الوحي (الدّين والقرآن)، ومدرسة العقل (الفلسفة والبرهان)، ومدرسة الكشف (الرّياضة والعرفان)، أي أنّها تمايز بين الدّين والفلسفة والعرفان، وتفكّك كلّا منهما إلى حدّة، لتخلص أنّ «الحقائق العلميّة والمعرفيّة لا تكون صحيحة إلّا إذا كانت مستقاة عن طريق الوحيّ الإلهيّ، والعلم الرّبانيّ»، لكنّها كما يرى محمد رضا حكيميّ الخراسانيّ ليست ضدّ العلوم الفلسفيّة والعرفانيّة، إلّا أنّ مهمّتها التّفكيك وليس التّعطيل، لأنّه «يجب علينا أن نستخلص العلم الصّحيح، والمعرفة الحقّة الأصيلة من معدن النّور، كلام الله، وكلام المعصوم الّذي هو شرح لكلام الله عزّ وجل، ونتمثله في سرائر وجودنا، ولا نمزجه بشيء آخر أبدا».

وإذا كانت مدرسة العرفاء الشّيعيّة ردّة فعل على التصوّف ذات البعد السّنيّ، وأرثدوكسيّة العلماء الشّيعة الّذين جاءوا إلى إيران من جبل عامل بلبنان في بدايات الدّولة الصّفويّة، فمدرسة التّفكيك تقترب من هذه الأرثدوكسيّة، لهذا هي ردّة فعل على المدرسة العرفانيّة الصّدرائيّة والّتي تأثرت بفلسفة ابن عربيّ، وتمثلت في العرفانيّة الخمينيّة بشكل كبير، فهي ترى «أنّ الفلسفة الّتي جاء بها صدر المتألهين جمعت بين المشائيّة والإشراقيّة والرّواقيّة والمسالك الصّوفيّة والعرفانيّة».

ويرى مهدي نصيري أنّ ما يطلق عليه العرفان الإسلاميّ الّذي وصل إلى ذروته مع ابن عربيّ متأثر بشدّة بآراء أفلوطين، ونظريّة وحدة الوجود الّتي هي محور البحث العرفانيّ، والتي ينادي بها ابن عربيّ، هي مأخوذة من كتب أفلوطين بشكل دقيق، وما يُعرف بمدرسة التّفكيك، والذي طُرح في زمن الميرزا مهدي الأصفهانيّ (ت 1365هـ) ليست مدرسة جديدة، إنّما صياغة جديدة لهذا النّزاع القديم بين الكلام الشّيعيّ والفلسفة والعرفان اليونانيّ، ثمّ جاء محمّد رضا حكيميّ بعد أربعين سنة من الميرزا مهدي الأصفهانيّ، وصار مروّجا لمدرسة التّفكيك بكتبه وآثاره، وأحيا هذا البحث من جديد بقوّة، ونشره في السّاحة الفكريّة، وصار البحث حيّا ومعاصرا بسببه».

ويرى أنّ «اسم التّفكيك من إبداع الأستاذ الحكيميّ حينما أراد نقد الفلسفة والعرفان، سعى أن لا يكون نقده لاذعا ومثيرا للحساسيّة، خصوصا أنّ المدرسة الفلسفيّة والصّدرائيّة كانت مسيطرة على أجواء الحوزات العلميّة بعد قيام الثّورة الإسلاميّة، وكان الأمر يحتاج إلى جرأة خاصّة، بحيث يأتي شخص وينتقد هذه الفلسفة الّتي يتبناها قائد الثّورة الإسلاميّة أي الإمام الخمينيّ، ولأجل أن تكون نبرة ولحن نقده معتدلة، قال: لا بدّ أن نفكّك بين الفلسفة الّتي جاءت من اليونان وأرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبين علم الكلام الإسلاميّ، وأن لا نخلطهما ببعض، وإذا تمّ الخلطّ فسنقع في المشكلات، وستفهم المسائل بشكل خاطئ، وبهذا نكون قد حرّفنا الوحي، ومن هنا تمّ طرح اسم التّفكيك، أي أن نفكّك بين المعارف الوحيانيّة وبين المعارف الفلسفيّة والعرفانيّة».

هذه المدرسة لقت ردّة فعل كبيرة في المشهد الإيرانيّ وحوزاته الدّينيّة كما يرى الباحثّ في التّأريخ الإيرانيّ والفارسيّ محمّد صادق زاده أنّ «مدرسة التّفكيك كانت ردّة فعل للمدرسة الصّدرائيّة والفلسفيّة عموما، وصاروا أقرب إلى حشويّة الشّيعة، حيث يقفون عند ظاهريّة النّصوص، لهذا تلقى مواجهة وحربا كبيرة من الاتّجاهات العرفانيّة في إيران، لكن لها حضورها الكبير في مشهد وخراسان وطهران وقم، ولها أنصارها ومؤسّساتها الضّخمة».

وإن كنتُ أرى أنّه يصعب في الحقيقة فصل النّصّ عن الفلسفة؛ لأنّ الإنسان بذاته متفلسف في تعامله مع النّصّ الدّينيّ وفق الأداة والحالة الزّمكانيّة، إلّا أنّ العرفان في جوهره صورة من صور التّأريخيّة الفلسفيّة في التّعامل مع النّصّ الدّينيّ، كما أنّ العلليّة الأصوليّة هي صورة منها أيضا، فالأول محاولة للبحث عن جوهر النّصّ والغاية منه، والثّانية محاولة لربط النّصّ بظرفيّته الزّمكانيّة من حيث العلّة، وكلاهما استفادا من تراث الأمم الأخرى خارج دائرة الإسلام، ولا يمكن التّعامل مع النّصّ بحرفيّته الأولى الّتي نزل فيها، لأنّ هذه إماتة للنّصّ ذاته، قبل أن يكون إماتة للعقل وتطوّر الاجتماع البشريّ، وهذا لا يعني أنّ مدرسة التّفكيك ترفض الفلسفة أو العرفان بالكليّة، لكنّها تحاول أن لا تجعلها حاكمة على النّصّ الدّينيّ، خصوصا لما لها من مرجعيّات خارج الإطار الإسلاميّ في نظرهم، يونانيّة قديما أو غربيّة في العصر الحالي.

مراجع المقالة: كتاب المدرسة التّفكيكيّة لمحمّد رضا حكيمي، ولقاءات مع الباحثين في العرفان والتّفكيك والتّأريخ الإيراني: حسن رمضانيّ، ومحمّد سوريّ، ومهدي نصيريّ، ومحمّد صادق زاده.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الفلسفة ال ة والعرفان الفلسفی ة ومنهم من ابن عربی رد ة فعل ة للن ص إل ا أن

إقرأ أيضاً:

منظمة التعاون الإسلامي تدين بشدة مصادقة إسرائيل على "شرعنة بؤر استيطانية"

أدانت منظمة التعاون الإسلامي بشدة مصادقة إسرائيل على "شرعنة خمسة بؤر استيطانية" في الضفة الغربية، والتخطيط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة.

وأكدت منظمة التعاون الإسلامي إدانتها "فرض الضرائب على الكنائس ومؤسساتها وممتلكاتها المختلفة في القدس المحتلة، والاستمرار في قرصنة أموال الضرائب الفلسطينية"، معتبرة ذلك "إمتدادا لسياستها القائمة على التطهير العرقي والتهجير القسري والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني".

#منظمة_التعاون_الاسلامي تدين بشدة مصادقة حكومة الاحتلال #الاسرائيلي على شرعنة بؤر استيطانيةhttps://t.co/0D2JoS1RiFpic.twitter.com/jULSz8hCBg

— منظمة التعاون الإسلامي (@oicarabic) June 28, 2024

وأشارت المنظمة إلى أن "جميع الاجراءات والقرارات التي تتخذها إسرائيل، قوة الاحتلال غير الشرعي، التي تهدف إلى تكريس نظامها الإستعماري في الأرض الفلسطينية المحتلة لاغية وباطلة بموجب القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة وخاصة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 لعام 2016".

كما حذرت المنظمة من "خطورة استمرار إرهاب المستوطنين المتصاعد في الضفة الغربية"، داعية في الوقت نفسه "المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته في حمل إسرائيل، قوة الاحتلال، على وقف جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزة والإجراءات غير القانونية التي ترتكبها في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة".

إقرأ المزيد منبهة من صراع ديني.. الخارجية الفلسطينية تعلن رفضها فرض إسرائيل ضرائب على الكنائس في الأراضي المقدسة

وصادق المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية "الكابينت" في وقت سابق، على خطوات طالب بها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش "لشرعنة بؤر استيطانية" وعقوبات ضد السلطة الفلسطينية.

المصدر: RT

مقالات مشابهة

  • علي الخامنئي: العدو خطط لتدمير النظام الإسلامي من خلال احتلال المنطقة
  • "العالم الإسلامي" تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي بتوسيع عمليات الاستيطان بالضفة الغربية
  • العالم الإسلامي تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي بتوسيع عمليات الاستيطان بالضفة الغربية
  • منظمة التعاون الإسلامي تدين بشدة مصادقة إسرائيل على "شرعنة بؤر استيطانية"
  • الغدير كمحطة تزود للمستقبل
  • تحالف لصد إسرائيل.. لماذا الآن؟
  • بين العلم والدين.. تقف الفلسفة بين الاثنين
  • من تجريدِ الفلسفةِ إلى المجرَّدِ النَّحوي: كتابةٌ تُوجِّهُ ذاكرةَ الصِّبا الباكرِ صوبَ الملموس
  • "الجهاد الإسلامي" عملية جنين رد على جرائم الاحتلال
  • التخلي عن الليبور.. قرار جمهوري بتعديل الاتفاقيات مع البنك الإسلامي للتنمية