أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري

“من أجندة الملك الضلّيل” وبها وفيها وعلى أجنحتها التاريخية والمسقطة على الواقع المعاش، يهبّ المبدع الكبير عبد الرزاق الربيعي على جراحات كثيرة من ضمنها ضياع الفرد والجماعة والأرض والوطن، فنجد أنفسنا نقتفي امرئ القيس في سيرته الطافحة بكلّ بطولة وتمرّد وثأر وصعلكة (لا أعني صعلكة هذه الأيام) المؤدية بنا إلى الإنساني فينا، وقد زاده الربيعي من نفسه شعرية وروعة، ها هو يسأل (الضلّيل) عن حاجته وما يريده من الزمن، ويجيبه بألم وصرامة ووضوح:
“.

.فيا (ضلّيل)
ماذا ترتجي؟
والأرض
كلّ الأرض
في أحداق هذا الطفل
ما عادت لتكفيه وطنْ
ما الذي ترجو
إذنْ
علّ ما يهفو له الرأس
ستلقاه
بأذيال الزمنْ”

 

أريد أن أتوغّل في المجموعة فتشدّني من نصّها الثاني “لعبة” حيث يطرح علينا الشاعر لعبتنا الأبدية ( ملك/ كتابة ) ويخيّرنا بين الأمرين ..فيحتار كلّ منّا فيما يختاره، فإن اختار الملك يضع على رأسه تاجا وبه يحكم غابة، وإن اختار الكتابة فسيعيش مثل الشاعر غريبا في البرية، ولكن حرّ وحرّ وحرّ، ويبدو هذا ما اختاره المبدع الكبير عبد الرزاق الربيعي ..وترك العالم في غيبوبته وسباته وغفلته، لقد عاش شاعرا ويموت حين يجيء الأجل شاعرا دون أن يغريه الملك وهمومه الكثيرة:
“لكنّك حين يغطّ العالم
في غيبوبته
ستحلّق
فوق جناح سحابةْ”

يظلّ الشاعر مهموما بأسئلة الحياة والموت، يكتب ما يراه وما يعاينه ويخرج من نصّ إلى نصّ بإيقاع آخر مختلف ومغاير، قرأت له في مجموعة “ضِحْكٌ على الأطلال” قصائد مثل (حوت) ويتعرّض فيها للزمن ولعبته القديمة الجديدة مع الطفل فالشاب إلى نهاية اللعبة واكتشاف كلّ شيء بعين الكهل: العالم صار يباب، وقرأت قصائد صريحة ودامغة مثل (مصيدة) التي يتطرّق فيها إلى هادم اللذات ومفرّق الجماعات ألا هو الموت ويحدّث في هذه القصيدة كائن صغير يواجه قدره، ويرمز للإنسان بالفأر،فكلّ نفس ذائقة الموت ولا دائم إلا الله، من الصعب أن تركض خلف شاعر وهو يخطو خطوات عملاقة فوق المعنى والمجاز والتلميح والإيجاز، وممّا اقتطفته من قصيدة بعنوان “قلب وسهم ودم” مهداة إلى زوجته وحبيبته ورفيقته جمانة المصون، تغمّد الله هذا الحبّ وأسبغ عليهما ستره وأطال إلى الأبد عشرتهما:
“عند خطوط استواء الغيب
وفوق تلال دوائر الطول
والعرض
ووسط أدعية المصلين
وتراتيل القديسين
وصلاة الطير
أحبّك”

صراحة لم أستطع أن أمرّ إلى قصيدة أخرى لأقطف منها ما يروق لكم، فقد أفحمتني شعرية هذا الصدق في هذه القصيدة وأقصد “قلب وسهم ودم” وأدعوكم لقراءتها كاملة لتعاينوا جوارح هذا الشاعر المقتول بالحبّ، ثمّ هو من الشعراء العرب القليلين الذين كتبوا بكلّ تلقائية وانسيابية عن زوجاتهم، خاصة أنّ الشاعر العربي لا يعترف بحبّ رفيقته في الحياة إلا بعد الوفاة وهذا ما يجب أن يزول إلى الأبد، فالحبّ هو كلّ شيء رهيف وسامٍ ومقدّس، اسمعوا عبد الرزاق الربيعي وهو يشدو:
“قلب واحد
ووحيد
يقف عاجزا
عن حبّك
وسيهوي
من أعلى ورقة
في شجرتك
إلى أسفل قلمي
ليقاسمني السهر
والحمّى
ومباهج الهاوية”

ماذا أقول بعدك يا الشاعر لقد أفحمت الأبجدية، أصرّ فقط على دعوة القراء إلى قراءة المجموعة كاملة وعدم الاكتفاء بالقليل القليل الذي انتقيته، ربّما أضيف شيء هو يدخل في باب الغبطة وقد كتبته على زوجتي الفاضلة اترككم مع هذا المقطع من قصيدتي المعنونة (لكِ):
“لكِ ما ليس لغيــركِ :
عنوانُ الصعلوك وظلّ المصلوبْ
لك إسراء الأعمى من حانته
وحفيف جناحيْ الطائر حين يؤوبْ
لك إغفاء المجنون على ذات العتبةْ
وسجود الآبق للمحبوبْ
لك وجه الشاعر في دمعته
وبقايا العمر المنهوبْ”

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: مكتب تونس

إقرأ أيضاً:

قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى

الدراسات الحديثة المهتمة بنشأة الدولة الإسلامية قدمت العديد من الأطروحات عنها، ركز معظمها على لحظة الصراع الذي جرى بين المسلمين ومناوئيهم.. سواء في مكة كقريش، أم المدينة كالأوس والخزرج واليهود، أم القبائل التي دخلت بنفسها في حروب مع المسلمين، وأثر ذلك في نشأة الدولة، دون أن تسبر جذور المجتمع العربي ذاته.

من الدراسات العميقة التي بحثت نشأة الدولة الإسلامية في بواكيرها الأولى كتاب «من المَيسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية.. قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى» لمحمد الحاج سالم، وأصله رسالته في الدكتوراه، صدر عن دار المدار الإسلامي عام 2014م. وقد أهداني المؤلف مشكورًا نسخة ممهورة بتوقيعه: (الأخ الصديق خميس العدوي.. كي نعيد قراءة تأريخنا وديننا بعين أخرى. مع مودتي البالغة.. أخوكم محمد الحاج سالم، بيروت في 20/ 1/ 2018).

عالج الباحث الموضوع انطلاقًا من فكرة النظام الاقتصادي ببنيته الأساسية وهي الدين، وتوسع كثيرًا في التدليل على فكرته ببناء «نظام المَيسِر الجاهلي» معرفيًّا، حيث لم يرد قبله ذكر لهذا النظام إلا نادرًا ومحدودًا، فعمله مبتكر، وقد دعّمه بمئات الأدلة والاقتباسات، حتى تحولت فكرته من أشتات في كتب كثيرة: القرآن والشعر الجاهلي والسيرة والتاريخ والأدب، إلى نظرية متكاملة في كتاب جامع. وإن كان من ملاحظة أذكرها فهي ضخامة الكتاب، التي تأخذ القارئ إلى شُعب شتى، ولتمام الفائدة فينبغي لصديقنا الحاج سالم، أو غيره من المهتمين بالموضوع، أن ييسرها بمختصر غير مخل، حتى تنتشر الفكرة وتعم الفائدة.

الدراسة.. بحثت في جذور نشأة الدولة عبر فكرة «اللَّقاحية»؛ أي عدم السماح بتشكل سلطة سياسية على العرب، فهناك معتقدات وطقوس وممارسات تقف خلف «الحالة اللَّقاحية»، فكان على الإسلام وهو «يؤسس لدولته» أن يقوم على أعقاب «الدين الجاهلي» الحاضن لهذه اللَّقاحية، وهو ليس أفكارًا عابرة، أو معتقدات ساذجة، وإنما بُنية عقدية عميقة اجتماعيًا؛ شملت مناحي «الحياة الجاهلية»، جاء في مقدمة الكتاب: (إن هذا البحث ينخرط في سياق توجه نظري مفاده أن لا وجود لحقل ديني مستقل بذاته يمكن الحديث عنه وحوله بصفته تلك، فما من حقل ديني إلا وهو يتضمن إشكالات هي التي تحدد في المقام الأخير اتجاهه ومواقفه، وما من حقل ديني يروم أو يدعي التجديد إلا وهو يتخذ شكله الاجتماعي من خلال تلك المواجهة بين الرهانات الجديدة التي أفرزته بقدر ما بشّر بها، والرهانات القديمة التي أرهصت بولاته) [ص16].

إذًا؛ لم تنشأ الدولة في الإسلام من فراغ.. بل إثر نظام كان قائمًا، تشكلت له معتقداته وطقوسه عبر تاريخ الجزيرة العربية، أسماه الحاج سالم «المَيسِر الجاهلي». ولأن من طبيعة الحياة التغيّر، وإفراز مسار جديد من الأحداث؛ فإن المجتمع العربي دخل في جدل المعتقدات التي أفرزت واقعًا جديدًا، فرض نفسه بآليات جديدة، وبمعتقدات جديدة أيضًا، هذه المعتقدات كما يراها مؤلف الكتاب ليست من قبيل استنساخ المعتقدات؛ كما يرى بعض الدارسين بأنها نسخة معدّلة من اليهودية أو النصرانية.. بل هي «تطور جدلي» من الموروث العربي السائد. وبنظري؛ بناءً على هذه الرؤية لا يمكن استبعاد اليهودية والنصرانية من مكونات الموروث العربي، والقرآن خير شاهد على ذلك.

«من المَيسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية».. كتابٌ عملَ على تجميع الشظايا المتفرقة لمعتقدات المَيسِر الجاهلي، ذلك الدين الذي كان يمارسه العربي قبل الإسلام. لقد كانت عملية التجميع شاقة، استطاع الحاج سالم بجدارة وبجهد مضن، عبر البحث في بطون الكتب وأشعار العرب وآدابهم وأيامهم، أن يبني معمار دين طمسته معارف المسلمين اللاحقة، وعملت على تناسيه عن قصد وغير قصد، يقول الحاج سالم: (فإن عملنا الأساسي يستهدف في المقام الأول إثبات كلية ظاهرة المَيسِر الجاهلي في العموم، وغائيتها السياسية الخافية على وجه الخصوص، ومن ثمة اختبار فرضيتنا الزاعمة بأن المَيسِر كان إوالية لَقاحية تتكامل فيها جملة أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية، وتتضافر للعمل بفاعلية على منع تركّز سلطة سياسية، وانبثاق نصاب سلطوي منفصل عن المجتمع هو الدولة) [ص:58].

السؤال: كيف استطاع المَيسِر الجاهلي أن يمنع انبثاق الدولة؟ ثم ما الدافع الذي أدى إلى انبثاقها في الإسلام؟

يرى الحاج سالم أن ذلك جرى عبر نظام المَيسِر، (ويعرّف البخاري المَيسِر بأنه القداح يستقسمون بها في الأمور؛ أي بمعنى الأزلام) [ص:152]، ومن المَيسِر انبثق القمار، وهو لعبة يشارك فيها المياسير؛ الذين هم من أصحاب الغنى واليسر، يقوم كل واحد منهم باختيار قدح، ثم يدفعون بأقداحهم إلى «رجل متأله عدل»، يلقيها فيخرج القدح الفائز. وجعلوا لكل قدح عددًا من الإبل ينحرها المياسر، قد يصل عددها إلى مائة بعير، ولم يكن القمار قبل الإسلام عيبًا، بل كان من الدِّين، و(الدِّين كان المحور الأساسي الذي تدور عليه الحياة الجاهلية) [ص:289]، و(كثيرًا ما عاب شعراء الجاهلية الممتنع عن الدخول في المَيسِر عن بخل ولؤم، وسمّوه «البَرَم»، وذموه في أشعارهم ونعتوه بخسيس الصفات كالنذالة والحقارة والخسة والدناء، في مقابل مدح المياسرين) [ص:305].

محمد الحاج سالم.. يذهب إلى أن العرب كانوا يعيشون في «حالة لَقاحية»، ولا يرتضون أن تكون عليهم سلطة، ولا قانون فوقهم، إلا أعراف القبيلة وتقاليدها، وأما شيخ القبيلة فلا سلطان له عليهم. ودوره فيهم أنه ممثلهم وحامي حماهم، ولا ينال هذه المنزلة إلا بالشجاعة والكرم، وكيلا يكون لشيخ القبيلة سلطة؛ فإن عليه أن يكون من المياسرين، فيدخل في القمار لكي تتبدد ثروته، فإذا خسر فعليه أن يدفع، وإذا ربح أطعم به الفقراء والمحتاجين، وليس له أن يأخذ من اللحم شيئًا، (وهذا ما يشير إليه الزمخشري أيضًا، إذ يركز على أن الأغنياء كانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها) [ص:295].

هكذا استطاع العرب بنظام المَيسِر في فترتهم اللَقاحية أن يمنعوا انبثاق الدولة بمنع تجمّع الثروة في أيدٍ قليلة تسود عليهم بيسرها. ولما جاء الإسلام حرّم المَيسِر، لأجل أن تحل محله الزكاة، لكيلا يكون دُولة بين الأغنياء، ويقصد بالزكاة الصدقات، وجعلها بيد «رئيس الدولة» فينفقها في وجوهها: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) [التوبة:60].

أما السبب الذي أدى إلى انبثاق الدولة؛ فيطرح الحاج سالم فكرة أن المجتمع أصبح بذاته يحمل مشروع دولة، وقد حاول العرب بالمَيسِر أن يحافظوا على «لَقاحيتهم»، بيد أنهم فشلوا [ص:57-58]. والسبب الآخر.. هو أن أطراف الجزيرة العربية خضعت للدول المجاورة (كخضوع الغساسنة في الشام للروم في بيزنطة، واللخميين في العراق للساسانيين في فارس، وقبائل عربية من اليمن للحبشة أو لفارس) [ص:51].. بل جرت محاولة إقامة مُلك في مكة كما ذكروه عن عثمان بن الحويرث المعروف بالبطريق. فكان قد حان وقت قيام الدولة، والذي عمل النبي محمد على تأسيسه بـ«أسلمة المجتمع الجاهلي».

(لقد انبنت حركة الأسلمة التصاعدية للمجتمع الجاهلي باتجاه بناء الدولة الإسلامية، عبر ما يمكن وصفه بجدلية هدم وبناء مؤسسية، ارتكزت على ثلاثة متغيرات؛ هي: التحريم والإقرار والتغيير. تم بموجبها إنشاء مؤسسات بديلة لمؤسسات جاهلية قديمة؛ شُجبت ورُفضت وبالتالي هُدمت، أو إقرار مؤسسات موجودة على حالها، أو إدخال تحويرات على مؤسسات موجودة بما يتماشى مع متطلبات الدولة الإسلامية الناهضة) [ص:25]، وبالتالي؛ لم يحرّم الإسلام المَيسِر لذاته، وإنما لأنه جزء من منظومة عقدية دينية قديمة، كانت تمنع قيام الدولة، وأبدلها بالزكاة، أي الصدقات لتكون محور قيام الدولة.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

مقالات مشابهة

  • عبد الرزاق حمد الله يتعاقد مع نادي التعاون السعودي
  • قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى
  • وفاة سعودية إثر عملية “شفط دهون” في مصر
  • مع البخاري في صحيحه.. قراءة سياسية
  • التعاون يعزز صفوفه بـ” حمدالله”
  • شيرين عبد الوهاب لحسن الشافعي: “احترم عقول الناس”
  • بومرداس..انتشال جثة غريق في “كاب جنات”
  • جواسيس أمريكا وإسرائيل “خداعهم مفضوح”
  • قراءة في المواجهة الكبرى
  • قراءة لقصيدة اغتراب للشاعرة (آمال صالح)