مرت الأمة الإسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية بأضعف مراحلها وأوهن حالاتها، حيث تجلى فيها الإنذار النبوي فيما رواه ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ.

فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ."

هذا الحديث الذي بالإضافة إلى صحة متنه وصحة سنده، تزيدنا شواهد الأمة الممزقة مزعا والقابعة في ذيل التخلف تجتر ويلات انكسار بيضتها يقينا في صدقه؛ فمن الاستعمار إلى التبعية، ومنهما إلى الاستلحاق السياسي والاقتصادي والثقافي.

ويزداد الوضع سوءا بعد مذابح البوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق وتقسيم السودان، وإجهاض ثورات الربيع العربي، وتعميق الجرح الفلسـطيني بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية وإدماج الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط الجديد واعتباره زورا رافعة اقتصادية وتنموية بالمنطقة، مع فتح كل الحدود الجغرافية في وجه هذا المحتل المغتصب الذي لا يكل ولا يمل من إعلان مشروع "مملكة إسرائيل الكبرى".

أمام كل هذا الضعف والتدهور الحاصل في جسد الأمة، وأمام ما تواجهه غزة لوحدها من مجازر ومقاومة، يعود سؤال التاريخ وسؤال الحتمية التاريخية وسؤال المسؤولية التاريخية إلى واجهة التفكير والنظر العلميين. ما يدفعنا إلى التساؤل، هل ما وقع وما يقع أقدار لسنن طبيعية في الكون وفي التاريخ؟ وهل وقوع الإنذارات النبوية دليل على حتمية وقوع البشارات النبوية الأخرى التي لم تقع بعد؟ ثم هل بإمكاننا أن نتجاوز لحظة  اعتبار الإنذارات والمبشرات الغيبية القرآنية والنبوية على أنها مجرد صُور وعلامات إلى اعتمادها وسيلة لاكتشاف السنن والضوابط والقوانين التي تتحكم في حركة التاريخ؟ ألا يعتبر جهلنا بالسنن التاريخية السبب المباشر في خروجنا من الساحة التاريخية؟

لماذا تخلت الأمة عن وظيفة صناعة التاريخ؟ هل انتهى زمن الأمة الإسلامية وداستها وعجنتها عجلة التاريخ، أو أننا أمام الحتمية القائلة بأن التاريخ لا يعيد نفسه؟ ألسنا اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى إعادة قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية بهدف استقراء سنن التاريخ واكتشاف شروط وضوابط التغيير التي لا تحابي أحدا؟ ثم لماذا يعتبر تصحيح فهمنا للتاريخ أهم مدخل من مداخل التغيير؟

في القرآن الكريم، نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل الأمة، ونلاحظ في القرآن الكريم أنه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الإحصائية، تحدث عن كتاب للفرد، وتحدث عن كتاب للأمة، عن كتاب يحصي على الفرد عمله، وعن كتاب يحصي على الأمة عملها، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين العمل الجماعي الذي ينسب إلى الأمة.تعد الكتابة في فلسفة التاريخ أو نظرية التاريخ من أصعب وأعقد الكتابات على الإطلاق، لأن هذا المبحث يتشابك مع الزمن الماضي والزمن الحاضر ومع المستقبل، ويتشابك مع الفعل الكلي الجماعي للبشرية جمعاء، كما يروم أيضا الإجابة عن أسئلة معقدة ومركبة من قبيل:

هل للتاريخ البشري قوانين وضوابط تتحكم في مسيرته وحركته وتطوره؟ ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري؟ كيف بدأ التاريخ البشري؟ وكيف نما؟ وكيف تطور؟ ما هي العوامل الأساسية في نظرية التاريخ؟ ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ؟  ما هو موقع السماء والنبوة على الساحة التاريخية البشرية؟ هل إثبات سنن التاريخ يعني الحتمية التي تلغي الإرادة البشرية؟ ما الفرق بين السنن الطبيعية والسنن التاريخية؟

كل هذه الأسئلة وغيرها ستزداد صعوبة عندما نتكئ في معالجتها على العمق الرباني والبعد الإلهي لحركة التاريخ في القرآن الكريم، وما يطرحه هذا الأمر من إشكالات أقلها سؤال؛ هل القرآن الكريم كتاب تاريخ واكتشاف أم كتاب هداية وتغيير؟ إن الإحاطة الموضوعية بكل هذه الإشكاليات المتداخلة تتطلب منا سلسة من المقالات سوف نخصص كل واحد منها لمعالجة قضية من قضايا سنن التاريخ في القرآن الكريم.

وبما أن التاريخ لا يصنعه الفرد بل تصنعه الأمة بالمفهوم القرآني، كان لا بد من توضيح الفرق بين أبعاد العمل الفردي وأبعاد العمل الجماعي المؤثر سلبا أو إيجابا في صناعة التاريخ أو هدمه، ثم التذكير بأمر مغيب في العقل الإسلامي يتمثل في أن الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم ستسأل يوم القيامة عن دورها ووظيفتها التاريخيين، ما يعني أن استيعاب سنن التاريخ والعمل على اقتفائها واحترامها والسير وَفقها واجب تعبدي سنحاسب عليه ونجازى عنه إما عقابا أو ثوابا.

في القرآن الكريم، نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل الأمة، ونلاحظ في القرآن الكريم أنه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الإحصائية، تحدث عن كتاب للفرد، وتحدث عن كتاب للأمة، عن كتاب يحصي على الفرد عمله، وعن كتاب يحصي على الأمة عملها، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين العمل الجماعي الذي ينسب إلى الأمة.

ووجْهُ التمييز بينهما أن عمل الفرد له بُعدان؛ العلة الفاعلية (السبب) والعلة الغائية (الهدف والغاية). أما عمل الأمة فله ثلاثة أبعاد، البعدين في عمل الفرد إضافة إلى بُعد التأثير الإيجابي أو السلبي على الأمة في حاضرها ومستقبلها أي في رسم تاريخها.

لاحظوا قوله سبحانه وتعالى: "وَتَرى كُلّ أُمَّةٍ جائيةً كلُّ أُمَّةٍ تُدعى إلى كتابها الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ . هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَليْكُمْ بالحق إنا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنتُمْ".

هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للأمة، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة، هذا العمل الهادف ذو الأبعاد الثلاثة هو بالضبط ما يحتويه هذا الكتاب، انظروا إلى قوله تعالى: "إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" فهو لا يسجل الوقائع الطبيعية كما يكتبها المؤرخون، إنما يحدد ويستنسخ أعمال الأمة التي كان لها أثر على حاضرها ومستقبلها وعاقبتها، بحيث يُنسَب للأمة فتكون مدعوة إلى كتابها. هذا هو العمل الذي يحويه هذا الكتاب.

بينما في آية أخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى: "وَكُلَّ انْسَانِ ألْزَمْناهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتاباً يَلقَاهُ مَنشُوراً ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً" (3) هنا الموقف يختلف، هنا كل إنسان مرهون بكتابه، لكل إنسان كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله، من حسناته وسيئاته، من هفواته وسقطاته من صعوده وهبوطه، الكتاب الذي كتب بعلم مَنْ لا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء. كل إنسان قد يفكر أن بإمكانه أن يخفي نقطة ضعف، أن يخفي ذنبا، أن يخفي سيئة عن جيرانه أو قومه، أو أمته، أو أولاده، أو حتى عن نفسه، ولكن هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

هناك سِجِلّان، سِجِل لعمل الفرد، وسِجِل لعمل الأمة، وعمل الأمة هو عبارة عما قلناه من العمل الذي يكون له ثلاثة أبعاد، بُعْدُ من ناحية العامل هو ما يسمى في الفلسفة بـ "العلة الفاعلية"، وبُعد من ناحية الهدف هو ما يسمى بـ "العلة الغائية".. وبُعد من ناحية الأرضية وامتداد الفعل ليشمل الأمة هو ما يسمونه بـ "العلة المادية"هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الأمة. هناك كتاب أمة جاثية بين يدي ربها، وهناك لكل فرد كتاب. إن هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الأمة وكتاب الفرد، هو تعبير آخر عما قلناه، من أن العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الأمة. العمل الذي له أبعاد ثلاثة. بل إن الذي يستظهر ويستقرئ عددا آخر من الآيات القرآنية الكريمة، سيستنتج لا محالة أنه لا يوجد فقط كتاب للفرد وكتاب للأمة يوم العرض على الله سبحانه، بل ثمة إحضار للفرد وثمة إحضار للأمة، هناك إحضاران بين يدي الله سبحانه، الإحضار الفردي يأتي فيه كل إنسان فردا فردا، لا يملك ناصرا ولا معينا، إلا العمل الصالح والقلب السليم والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا هو الإحضار الفردي، قال الله تعالى: "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّموات والارْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا ، لَقَدْ احْصَاهُمْ وَعَدَّهَمْ عَدا وَكُلُّهُم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْداً".

وهناك إحضار آخر، إحضار للأمة بين يدي الله سبحانه وتعالى، فكما يوجد هناك سجلان، كذلك يوجد إحضاران كما تقدم، ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها، ذاك إحضار للجماعة، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة، أن هذا الإحضار الثاني يكون من أجل إعادة العلاقات إلى نصابها الحق، العلاقات في داخل كل أمة قد تكون غير قائمة على أساس الحق، قد يكون الإنسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في أعلى الأمة، هذه الأمة تعاد فيها العلاقات إلى نصابها الحق؛ وهو ما سماه القرآن الكريم بيوم التغابن، كيف يحصل التغابن؟ يحصل التغابن عن طريق اجتماع الأمة، ثم كل إنسان بقدر ما كان مغبونا في موقعه ووجوده في أمته يأخذ حقه، تأملوا قوله تعالى: "يَوْمَ يُجمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمَعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابن".

إذن هناك سِجِلّان، سِجِل لعمل الفرد، وسِجِل لعمل الأمة، وعمل الأمة هو عبارة عما قلناه من العمل الذي يكون له ثلاثة أبعاد، بُعْدُ من ناحية العامل هو ما يسمى في الفلسفة بـ "العلة الفاعلية"، وبُعد من ناحية الهدف هو ما يسمى بـ "العلة الغائية".. وبُعد من ناحية الأرضية وامتداد الفعل ليشمل الأمة هو ما يسمونه بـ "العلة المادية". هذا العمل ذو الأبعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ، وهو عمل الفاعل التاريخي المتمثل في العمل التغييري الجماعي الذي عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ."

*كاتب وباحث مغربي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير التغيير دور القرآن الكريم الانسان القرآن الكريم تغيير دور سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی القرآن الکریم العمل الذی د من ناحیة س ج ل لعمل عمل الأمة عمل الفرد على الأمة بین العمل الأمة هو کل إنسان بین یدی ب للأمة

إقرأ أيضاً:

من ضمير الفرد إلى التَّنْمية..التَّعْليم كأداة للنَّهضة

في كتابه الأشهر «تعليم المقهورين» (Pedagogy of the Oppressed) يؤسس فيلسوف التربية البرازيلي باولو فريري (1921م- 1997م) لمعنى جديد في العلاقة الجدلية بين التربية والفضاء الاجتماعي، فالرجل انعقد عزمه على محاولة فهم الجذور العميقة للتخلف الاقتصادي في بلاده البرازيل، وأيضا في مجتمعات العالم الثالث، وقاده بحثه إلى استبصار جديد عِمَاده أن الأزمة كلها تكمن في بنية الوعي، وكيف أن هذه البنية المسؤولة عن تداعيات الفشل في تحصيل النهوض بنيةٌ مصادرة بالكامل إلى نظام في التفكير مُعوق ومُشَوَّه التكوين بسبب من هيمنة نظم تعليمية صُمِّمَت لصالح سلب الناس حقوقهم النقدية وقهرهم عبر إفراط في تلقين استظهاري يُملي عليهم ما يصلح أن يكون معرفةً وما يجب تجنبه، هكذا، فقط عبر تقييدهم لتلقٍ سلبي ممول عبر آلية استيداعية لا يملكون معها إلا الانصراف إلى عمليات من الرصد والتخزين والاحتقاب دون إرادة، إنها نظرية تكشف عن معضلة عميقة تختبئ أسبابها عن ناظري المشتغلين في حقول التربية والاقتصاد والسياسة. وفريري الذي أصدر كتابه (التعليم كممارسة للحرية- 1967م، باللغة البرتغالية) كان يشدد على أن العملية التربوية بمثابة فعل تحرري لا يراد بها أن تكرس لبناء وعي مهزوم غير قادر على فهم العالم، وقد أراد أن تُمْتَحَن هذه المؤسسة لأجل فهم أدوارها وبلاغتها في السياق العام، كاشفاً عن فشلها في تمليك المتلقي أدوات إدراك متوسلة بالمعنى لا الشكل، رؤية تسندها تصوراته الذاتية حول ماهيته والوجود، حول إمكانية نقد الواقع من أجل تغييره إلى الأفضل، إنها عملية يجدر بها أن تفسر لنا كيف يمكن أن تتكاتف الفاعليات الاجتماعية في مناحيها كافة لأجل تحولات مركزية في الواقع، وهنا فالتعليم فعل إنساني يُعْظِم الصلة بين الفردي والجماعة الإنسانية، ويجعل من المعرفة أداة ليست فقط لتوصيف الأزمة بل لخوض نضال مستمر ضد هيمنتها بالصورة التي تؤهل المجتمع الإسهام الفَعَّال لإحداث نقلات ناضجة في السياق الجمعي. وكون التعليم في نظره فاعلية للتحرر فإنها تستحيل دون نقد الآلة نفسها، آلة نقل المعرفة، إلى منهجٍ قامعٍ للوعي، ولذا طالب بإحداث تغيير بنيوي في عقيدتها الفكرية لتمد الناس بأشكال متقدمة من تحصيل حقائقهم السياسية والاقتصادية ما يجعلهم على فهم عميق بالأدوار التي يتوجب عليهم القيام بها لصالح بناء مجتمعات مؤمنة بحريتها كرافعة للنهضة الاجتماعية الشاملة.

إن باولو صاحب تجربة عظيمة في تعليم الكبار، بل إنها اللحظة المفصلية التي قادته إلى إنجاز مشروع جديد في فلسفة التربية، ففي ستينيات القرن الماضي وفي بلدة صغير تسمى (أنغيكو) شمال شرقي البرازيل أنشأ فصولا لمحو الأمية ضمت أكثر من 300 فلاح وذلك لتعليمهم القراءة والكتابة في تحدٍ وضعه الرجل أمام نفسه وفريقه من المعلمين لينجزوا هذا المشروع في خمسة وأربعين يوما فقط، وقد ألهمت هذه التجربة، بل دفعت حكومة الرئيس البرازيلي حينها جواو جولارت والذي حكم البلاد في الفترة من 1961م إلى 1964م إلى تبني التجربة بالكامل وتعميمها. ولم يقتصر جهد باولو على التعليم في الريف، بل وفي كتابه (التعليم في المدينة -1991م) وهو من كتبه المتأخرة يقدم خلاصات تجربته المهنية في مدينة ساو باولو، ويشير إلى مظاهر للعمل في مؤسسات الدولة مستعرضا المتاعب التي صاحبت شغله، ومن الدروس التي انتهت إليها تجارب الرجل وبالتركيز على مجتمعه البرازيلي ومسألة التحديث والتنمية الاجتماعية يقول: «يجب علينا رفع مستوى وعي الناس بمشاكل زمانهم ومكانهم. يجب أن نمنحهم نظرية في التنمية». إنه الرهان على أن تثقيف الناس يجعلهم شركاء في التنمية الوطنية.

وفي ذلك فإن فريري يعتقد أن المصالح الوطنية ينبغي أن تكون ثمرة جهد جماعي لتتكامل القوى الاجتماعية وتترابط فيتحقق هدف الانتقال من الفقر إلى الكفاية، والحل في نظره يكمن في تعليم حواري يصنع فاعلا اجتماعيا مؤثرا ومنتجا نحصد عبره ثمرة لتعليم هو وسيلة للنهضة، ونفقدها حين يبقى مجرد آلية لحشو الأدمغة بالمعلومات دون السماح للعقل باختبار مصداقها وإمكانية استثمارها لصالح الواقع، وهذا هو جوهر نظرية باولو، إذ يقول في كتابه «تعليم المقهورين» والذي ترجمه وقَدَّمَ له يوسف نور عوض، وصدرت الطبعة العربية عن دار القلم (بيروت) وهو يحلل ظاهرة الاستعمار وما ترسخ عنها في المجتمعات المقهورة ليجعل كتابه حصاد الكلمات المستنيرة ومن ذلك استشهاده بآراء الطبيب والفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون (1925م - 1961م)، وغيره من المفكرين المصلحين فيرى أن نفسية المقهور التي ركبها المُستعمِر في بنية وعي المُستعمَر والمُعمَّمَة بقوة الغَصْبِ تنتهي به إلى شخصية تعيش حالات من التحقير الذاتي، وأنها تستمد هذه الصورة عن ذاتها من استبطان غير معلن لرأي المُستعمِر. يقول في صفحة (42) عن هذا المقهور وأسباب استسلامه لإرادة المُستعمِر والسماح له بتصدير صورة إذلالية مع إذعان عظيم: «فكثيرا ما يسمعون عن أنفسهم بأنهم لا يصلحون لشيء ولا يعلمون شيئا، وليس لديهم الاستعداد لتعلم أي شيء وأنهم كُسالى ومرضى وغير منتجين... ويفقدون بالتالي الثقة في أنفسهم .. فالمعرفة عند هؤلاء «المقهورين» تُسْتَقى من المعلم، ولا يثقون في أي معرفة قد خَبِروها من هذا العالم الذي يعيشون فيه، أو من علاقتهم بالآخرين..».

وحول أهمية أشغال باولو يقول جان كلود رينييه الأستاذ في جامعة ليون بفرنسا وصاحب كتاب «La fabrique des savoirs» (صناعة المعارف): إن باولو يؤمن إيمانا عميقا بأهمية إصلاح النظام التعليمي في حال أرادت المجتمعات التي تعرضت للاستعمار أن ترفع عن كاهلها العبودية المعرفية وهو ما جعله يصر أن الهدف من العملية التعليمية أن يكون لها الإسهام الأكبر في تحقيق التغيير الاجتماعي، وهو أمر يعتمد عند فريري على فرضية مركزية مستقرة في نظريته الفلسفية في التربية وهي أن تتحول «الضمائر الفردية» من خلال التعليم، وعلى وجه الخصوص من خلال محو أمية أعداد هائلة من البالغين إلى أداة تحرر عقلي ووجداني، وهو رهان يؤكد على إن تحقيق الوعي النقدي يعني الوصول إلى مستوى من الفاعلية من شأنها أن تسهم في تطوير طبقة حديثة قادرة على إنجاز إصلاح جذري في مجالات مثل الزراعة والتعليم والصحة والتصنيع وما إلى ذلك، وأن رفع الوعي يعني الانفتاح على فهم البنى الاجتماعية وتثوير نشاطها.

إن الإطلالة على منجز فيلسوف التربية البرازيلي باولو فريري تجعلنا على علم دقيق بطبائع النهضة الاجتماعية والأشغال النظرية متينة التكوين في بلدان عانت وتعاني من أزمات اقتصادية طاحنة أسهمت في تعميق الفروق بين المكونات في المجتمع، وليس بغريب أن تكون هذه التجربة ملهمة حقاً للمجتمعات العربية التي تعيش حالات مشابهة كتلك التي وهب باولو نفسه لاختراقها بالعمل والنظرية، فنحن وفي مناطق كثيرة من بلادنا العربية نحتاج إلى إصلاح جذري في النظم التعليمية، إصلاح يريد مبدأ أن يقود هذه البلدان إلى نهضة شاملة، نهضة جوهرها المشاركة الجماعية وتفجير طاقات الأفراد لأجل بناء وتنمية بلادهم، والحقيقة أن تجربة باولو فريري ليست سابقة لرؤية إصلاحية عربية تبناها الإمام محمد عبده (1849م-1905م) والذي كتب قبل الرجل بعشرات السنين أنه إذا أرادت الشعوب العربية الإسلامية أن تنهض وتحرر عقولها من الجمود والانغلاق فإن السبيل الوحيد إلى ذلك هو إصلاح التعليم بحيث يتحول من أداة للحفظ والتلقين إلى معنى معرفي يقوم على العقلانية، وفي ذلك قوله: «إن العلم لا يكون علمًا إلا إذا أنتج عملا، والعمل لا يكون عملا إلا إذا بُني على عقل وفكر».

مقالات مشابهة

  • رئيس اتحاد علماء المقاومة: حرب الإبادة بغزة لم يشهدها التاريخ وعلى الأمة واجب النصرة
  • ما الذي يجب معرفته عن حركة 50501 المناهضة لسياسات إدارة ترامب؟
  • رمضان عبد المعز: منظومة الصدق في القرآن تشمل 5 مراتب رئيسية
  • حكم نهائي في الكويت بالسجن ضد الطبطبائي ونواب سابقين.. لماذا؟
  • قناة عبرية تؤكد أن واشنطن تخلت عن شرط تفكيك النووي الإيراني
  • ما الذي يجب أن تعرفه عن حركة 50501 المناهضة لسياسات ترامب؟
  • من ضمير الفرد إلى التَّنْمية..التَّعْليم كأداة للنَّهضة
  • "اجتماعات مسقط" ودور مؤسسات التمويل الإنمائي
  • قومي حقوق الإنسان يطلق برنامج تعزيز المشاركة السياسية ودور المجتمع المدني في متابعة الانتخابات
  • القومية من منظور المظلوم.. قراءة كردية في مرآة العصبية العربية.. كتاب جديد