الذكرى 139 لفتح المهدي للخرطوم: التاريخ وشخير التاريخ (1-2)
تاريخ النشر: 5th, February 2024 GMT
كان يوم الـ 26 من يناير2023 الذكرى الـ 39 بعد الـ 100 لفتح محمد أحمد المهدي للخرطوم عام 1885 وتأسيس الدولة المهدية من فوق أنقاض دولة الحكم التركي المصري (1821-1885).
لم تمر هذه الذكرى هذه المرة كتاريخ كعهدنا بها ننوه بها محتفيين بها كمأثرة وطنية وسابقة في بناء الدولة السودانية المستقلة، ويخرج فيها المرحوم السيد الصادق المهدي، حفيد المهدي ووارث إمامته على أنصاره وزعيم حزب الأمة، ليجدد عزائم الأمة في يوم نصر تاريخي لها.
زكى الإمام الراحل فتح الخرطوم في آخر احتفالاته به قبل رحيله في الـ 26 من نوفمبر 2020 ناظراً لثورة ديسمبر 2019 كصنيع جميل للمهدية التي استنهضت همم السودانيين للحرية، ولا سبيل في قوله لفهم النزعة الثورية السودانية من دونها.
مرت هذه الذكرى لفتح الخرطوم في يومنا والمدينة في براثن واقع حرب لاحتلالها. فاختلط تاريخ فتح الخرطوم بواسطة المهدي بواقع الصراع حولها ليومنا بين القوات المسلحة و”الدعم السريع”. فتبنّى طرف “الدعم السريع” الفتح كسابقة لإهلاك “دولة 56” في السودان والتي رغب في وراثتها “كقرية بطرت معيشتها”، وهي الآية التي تلاها المهدي نفسه في أول خطبة جمعة له بعد نصره على الحكومة التركية.
أما طرف القوات المسلحة فاسترجع في الذكرى، وقد رأى خراب المدينة على يد “الدعم السريع”، ما أذيع عن الدمار الذي لحق بالخرطوم خلال فتح المهدي لها. فضرست ذكرى الفتح نشر مادة معربة في المواقع عن “أوتاقو ديلي” النيوزيلندية (19 يناير 1899) شديدة الخصومة للخليفة عبدالله، القائم على أمر السودان يومها. فذكرت من فظائعه مثل قتل 15 ألف من سكان الخرطوم عند الفتح، وبطش بطشاً لم يرحم معه الدبلوماسيين ولا رجال الدين، فبتر يد القنصل الإغريقي وقطع جسده إرباً بالسواطير ورمى بأجزاء جسده على قارعة الطريق. كما علق راهبة أسترالية من معصميها على عارضة مرتفعة وجلدها بعصا سميكة على باطن قدميها وقلع أظافرها من قدميها.
وجاء في عنوان هذه المادة في الوسائط “ما أشبه الليلة بالبارحة”، أي أن فتح الخرطوم بيد المهدي مطابق لغزوها على يد الـ “جنجويد” حذو النعل بالنعل. ونقول عرضاً إنه من رأي الكاتب أن الخليفة انطوى على نازع إجرام وسفك دماء أخفاه عن المهدي بحياته إلى حد ما، ثم أسفر هولاً وجوراً لما خلا له الجو بموت المهدي. ولا يعرف المرء كيف نجح الخليفة في قتل 15 ألف شخص في فتح الخرطوم والمهدي، الذي أخفى الخليفة القادم عنه فظاظة نفسه، واقف على الأمر. وصح السؤال ما هو “الحد ما” الذي انخدع به المهدي عن طوية خليفته متى وقف خليفته عنده ولم يفحش. المؤكد أن هذا “الحد ما” ليس عند قتل هذا العدد المرموق من سكان المدينة البالغ عددهم 50 ألفاً.
وستكون العبارة الأخيرة أعلاه المدخل إلى نقد الكتابات البريطانية والأوروبية عن المهدية التي قبلنا بسلطانها المعرفي بغض النظر عن حقائقها واستنصرنا بها في خصوماتنا السياسة. وهي كتابات خرجت من مصنع تعبئة الرأي العام البريطاني للحماسة لفكرة “استعادة السودان”، وهي العبارة في صيغتها التاريخية والمقصود استعادته للخديوية المصرية، التي كانت وجدت معارضة مستقيمة من وليام قلادستون رئيس الوزراء بذاته. وصبت تلك التعبئة جام نيرانها على الخليفة عبدالله ودولته لتدخل في روع البريطانيين نبل مهمة استنقاذ السودانيين من مستبد شرقي كما يقال. وتولت كبر ذلك الأرزاء بدولة المهدية إدارة الاستخبارات بالجيش المصري التي كان عليها ريقنالد ونجت باشا الذي صار حاكماً عاماً على السودان بعد استعادته. وكانت أبرز إسهاماته في باب هذه التعبئة تحريره كتابات ردولف سلاطين، حاكم دارفور في الدولة التركية في السودان، والقس جوزيف أهروالدر ممن هربوا من محبسهم في أم درمان وكتبوا كشاهدي عيان في الألمانية عن استبداد الخليفة عبدالله وشروره. وزاد كتاباتهما ضغثاً على إبالة تحرير ونجت للكتابين في الإنجليزية كما سيرد.
وكانت تلك التعبئة للإمبراطورية في بريطانيا عامة. وتناولها بسداد الأكاديمي البريطاني جون مكنزي في كتابه “الدعاية والإمبراطورية: استغلال الرأي العام البريطاني، (1880-1960)” الصادر عام (1984)، فلم تكن الحكومة البريطانية، في قوله، طرفاً كبيراً في هذه الدعاية المحرضة لبناء الإمبراطورية البريطانية، ولكن تكفلت بها في آخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 وكالات دعائية تجارية سرّبت دعوتها إلى المجتمع في دوائر التعليم والجيش والكنائس وعامة الناس الذين توسلت لهم بالعروض المسرحية والترفيهية والمعارض، وسمّى مكنزي تعبئة عامة الناس لدعم بناء الإمبراطورية بـ “الإمبريالية الشعبية”.
ومن المستغرب خضوع صفوتنا للمعارف التي تلقتها عن أدب الدعاية الإمبريالية عن المهدية لا تزيد على إعادة إنتاجه كما رأينا في حين كان من انتقد هذا الأدب هو من أسس للتأرخة المهنية للمهدية. وهو الأكاديمي الإنجليزي ب م هولت الذي استأجرته الإدارة البريطانية خلال الخمسينيات لفهرسة وثائق الدولة المهدية التي كانت توافرت على جمعها بدأب خلال استعادة السودان وحفظتها طوال تلك الأعوام.
ونواصل
ونجت باشا والأمير محمود ود أحمد رحمه الله
عبد الله علي إبراهيم
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فتح الخرطوم
إقرأ أيضاً:
“61 ألفاً بالخرطوم”.. تقرير يكشف أرقاماً مرعبة لضحايا حرب السودان
أظهر تقرير جديد أصدره باحثون في بريطانيا والسودان، أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 61 ألفا قتلوا في ولاية الخرطوم خلال أول 14 شهرا من الحرب في السودان، مع وجود أدلة تشير إلى أن العدد الكلي أعلى بكثير مما سجل من قبل، وشملت التقديرات مقتل نحو 26 ألفا بعد إصابتهم بجروح خطرة، وهو رقم أعلى من الذي تذكره الأمم المتحدة حاليا للحصيلة في البلاد بأكملها.
وتشير مسودة الدراسة، التي صدرت عن مجموعة أبحاث السودان في كلية لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة، الأربعاء، قبل مراجعة من زملاء التخصص، إلى أن "التضور جوعا والإصابة بالأمراض أصبحا من الأسباب الرئيسية للوفيات التي يتم الإبلاغ عنها في أنحاء السودان".
وقال الباحثون إن تقديرات أعداد الوفيات الناجمة عن كل الأسباب في ولاية الخرطوم أعلى بنسبة 50% عن المتوسط المسجل على مستوى البلاد، قبل بدء الحرب التي نشبت بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023.
وتقول الأمم المتحدة إن الصراع دفع 11 مليونا للفرار من منازلهم، وتسبب في أكبر أزمة جوع في العالم، ويحتاج نحو 25 مليون نسمة، أي نصف سكان السودان تقريبا، إلى المساعدات، في وقت تنتشر فيه المجاعة في مخيم واحد للنازحين على الأقل.
ويشكل إحصاء عدد القتلى تحديا في ظل الحرب.
ويقول باحثون إنه "حتى في أوقات السلم لا يتم تسجيل الكثير من الوفيات في السودان".
ومع تصاعد حدة القتال، تقطعت بالسكان السبل للوصول للجهات التي تسجل الوفيات، مثل المستشفيات والمشارح والمقابر، كما تسبب الانقطاع المتكرر في خدمات الإنترنت والاتصالات في عزل الملايين عن العالم الخارجي.
وتقول قائدة الدراسة ميسون دهب، المختصة بعلوم الأوبئة المديرة المشاركة بمجموعة أبحاث السودان، إن الباحثين حاولوا "رصد (الوفيات) غير المرئية"، من خلال أسلوب عينات يعرف باسم "الرصد وإعادة الرصد".
وأضافت أن هذا الأسلوب المصمم بالأساس للأبحاث البيئية استخدم في دراسات منشورة لتقدير عدد من قتلوا خلال احتجاجات السودان عام 2019، ووفيات جائحة كورونا، في وقت لم يكن يتسنى فيه إحصاء الأعداد بالكامل.
وباستخدام بيانات من مصدرين مستقلين على الأقل، بحث صناع الدراسة عن أفراد يظهرون في عدة قوائم، وكلما قل التداخل بين القوائم، زادت فرص وجود وفيات غير مسجلة، وهي معلومات يمكن البناء عليها لتقدير الأعداد الشاملة للوفيات.
وفي تلك الحالة، جمع الباحثون 3 قوائم للمتوفين، الأولى بناء على مسح للجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي بين نوفمبر 2023 ويونيو 2024، والثانية اعتمدت على نشطاء في المجتمع المدني و"سفراء للدراسة" لتوزيع المسح بشكل شخصي على معارفهم وشبكات تواصلهم، والثالثة جمعت من منشورات نعي على منصات التواصل الاجتماعي، وهو أمر شائع في مدن الخرطوم وأم درمان وبحري التي تشكل معا منطقة العاصمة.
وكتب الباحثون: "ما خلصنا إليه يشير إلى أن الوفيات ظلت دون رصد إلى حد كبير".
وفيات غير مسجلة
لا تشكل الوفيات التي رصدتها القوائم الثلاث سوى 5% فحسب من تقديرات إجمالي الوفيات في ولاية الخرطوم، و7% من تلك الوفيات يعزى إلى "إصابات متعمدة". وتقول الدراسة إن النتائج تشير إلى أن مناطق أخرى منكوبة بالحرب من البلاد ربما شهدت خسائر بشرية مماثلة أو أسوأ.
وأشار الباحثون إلى أن تقديراتهم لعدد الوفيات الناتجة عن العنف في ولاية الخرطوم تجاوزت 20178 حالة قتل تم تسجيلها في أنحاء السودان خلال نفس الفترة بجهود من مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة (أكليد)، وهي مجموعة معنية بمراقبة الأزمات مقرها الولايات المتحدة.
ويستند مسؤولون من الأمم المتحدة ووكالات أخرى معنية بالمجال الإنساني إلى بيانات أكليد التي تعتمد على تقارير من مصادر تشمل مؤسسات إخبارية ومنظمات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان وسلطات محلية.
وقالت ميسون إن الباحثين لم يكن لديهم بيانات كافية لتقدير معدلات الوفيات في مناطق أخرى من البلاد أو تحديد عدد الوفيات إجمالا الذي يمكن ربطه بالحرب.
وتشير الدراسة أيضا إلى قيود أخرى، إذ تفترض المنهجية المستخدمة على سبيل المثال أن فرص كل حالة وفاة متساوية للظهور في البيانات. لكن الباحثين يقولون إن أفرادا معروفين جيدا ومن قتلوا نتيجة العنف ربما تكون احتمالات إعلان موتهم أكبر.
وقال بول شبيجل رئيس مركز الصحة الإنسانية في كلية جونز هوبكنز بلومبرغ للصحة العامة الذي لم يشارك في الدراسة إن هناك مشكلات في المصادر الثلاثة للبيانات قد تؤدي إلى انحراف التقديرات، لكنه قال إن الباحثين راعوا مثل هذه القيود في منهجيتهم وتحليلهم.
وأضاف "رغم صعوبة معرفة كيف يمكن للتحيزات المتنوعة في منهجية الرصد وإعادة الرصد تلك أن تؤثر على الأعداد الكلية، تشكل تلك محاولة جديدة ومهمة لتقدير عدد الوفيات ولفت الانتباه لتلك الحرب المروعة في السودان".
وقال مسؤول في تجمع الأطباء السودانيين بأميركا (سابا)، وهي منظمة تقدم الرعاية الصحية بالمجان في أنحاء السودان، إن النتائج تبدو مقنعة.
وقال عبد العظيم عوض الله مدير برنامج سابا لرويترز "العدد ربما يكون أكبر حتى من ذلك"، مشيرا إلى أن ضعف المناعة بسبب سوء التغذية يجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بالعدوى.
القاهرة/أم درمان (السودان) – رويترز