فرقة النبّاشين بقيادة ماهر الأسد
تاريخ النشر: 5th, February 2024 GMT
مهنة "النبّاش" مهنةٌ قديمةٌ ارتبطت عبر التاريخ بتحقيق الثراء لأصحابها الذين يعملون بأبسط الأدوات وأرخصها ليحصلوا في النهاية على أموال تحسّن وضعهم الاجتماعي.
الأداة الرئيسة للنبّاش في العصور القديمة كانت تمتُّعه بالقوة الجسدية، وارتبطت أحيانًا بحبّ الاستكشاف، وهذه كانت بحاجة إلى قوّة القلب وعدم الخوف من اقتحام المخاطر والمجهول.
تبدأ حكاية النبّاشين بالبحث عن الكنوز. فمنذ الأزل سعى الإنسان إلى نبش الأرض، وخوض أعماق البحار للبحث عن الذهب، والمجوهرات والأحجار الكريمة، مما يوفّر له الثراء ويحقّق له الحياة السعيدة، إذ معظم الناس ربطوا السعادة بالمال قبل ظهور الاشتراكيّة والعزف على وتر الحياة البسيطة التي ترضَى فيها النساء بخيمة، وبضع حبّات بطاطا وزيتون وحصير تنام عليه! على رأي "الصبوحة" في أغنيتها: "على البساطة البساطة".
النبش في المقابرانتشرت مهنة نبش القبور بين الفقراء في مرحلة زمنية كان الناس يزيّنون أسنانهم بتلبيسة من الذهب. لم تكن تلك المهنة مفيدة، إذ كثيرًا ما يخرج النبّاش بسنٍ ذهبية واحدة من القبر لا يكفي ثمنها لمصاريف الحياة لمدة زمنية قصيرة.
في قرية بسامس التابعة لمحافظة إدلب تلٌّ رماديٌّ فيه كهف، تحكي أسطورة أنّ النبي أيوب كان يعيش عزلته هناك، وأنّ بركانًا ثار في هذا المكان فمدّ يده المباركة، وأطفأ البركان، وتجمّعت المياه في الأسفل.
سادت فكرة لدى الناس البسطاء أنّ الدود الذي كان يأكل جسده حين سقط على الأرض تحوّل إلى مَرجان وعقيق. وقد استُنفر سكّان تلك المنطقة بعد تلك الحكاية التي نشرها بينهم بدويٌّ ممن يفتحون الفأل ويقرؤون الكف، وكان قد نثر بعض الخرز الرخيص في المكان ليوهم الناس أنّ هناك في عمق التراب كَنزًا حقيقيًا. يجعلهم يخوضون في الوحل، ويمرضون فيكتب لهم أحجبة للشفاء!
البحث عن الكَنزكثر يبحثون عن الكنوز، في البحر يعتقدون أنّ القراصنة الذين غرقت سفنهم يومًا ما كانوا يملكون الكثير من الكنوز. وفي مدافن الملوك وأهرامات قرية البارة، وفي مناطق أثرية كثيرة جعلت الدولة تلحظ تلك الأماكن، وتمنع الناس من الحفر فيها.
في الثمانينيات ظنّ بعض سكّان درعا أنّهم بعيدون عن أعين السلطة، وأثناء حفرهم عثروا على كنز حقيقي، وبالطبع وصل الخبر للسلطة في حينها ممثلة بالوريث باسل الأسد الذي كان مهيمنًا على المناطق الأثرية في سوريا، إثر ذلك تمّ وبصمت اعتقال هؤلاء النباشين، وطارت الحكاية بين الناس، تناقلوها سرًّا وهمسًا، إذ لم يكن أحد يجرؤ في ذلك الوقت على رفع صوته بالحديث في أيّ شأن له علاقة بملفات "الدولة"، وعلى عهدة أحد أبناء درعا فقد حضرت لموقع الكنز طائرة هليكوبتر، وحملت الكنز كاملًا، وطارت.
وفي الفترة الزمنية نفسها تجرّأ أشخاص من أريحا على الحفر، ووجدوا كنزًا دفعوا ثمنه أيامًا من الاعتقال، ضربوا على عدد الليرات الذهبية التي وجدوها، ووضعت مديرية الآثار يدها على كلّ الأماكن الأثرية في البلدة التي يعتقد أنّها تحتوي كنوزًا حقيقية خاصة الأسواق التي ردمها الزلزال، فقد تعرضت أريحا عبر تاريخها إلى زلزال مُدمّر دفن المدينة بأكملها، وعاد الناس إليها وبنوها من جديد.
نبّاشو عهد الثورة السوريةظهرت مهنة سرقة الآثار مع بداية الثورة، وتزعّمها ابن رفعت الأسد الذي جاء إلى سوريا في ذلك الوقت ونهب ما استطاع ونقله إلى بريطانيا، ثمّ إلى أميركا حيث بيع هناك.
وللنباشين طبقات:
الطبقة الأصغر لم تكن تعتمد على سرقة الآثار التي هيمن عليها آل الأسد والمقربون من النظام فاستبدلوا مصطلح النبش بالتعفيش، اعتمد العساكر على تعفيش البيوت بعد قتل أصحابها، أو تهجيرهم، أو حتّى أثناء وجودهم في البيت.
وظهرت الأسواق المعروفة "بسوق السنة"؛ لأنّ المسروقات كانت من بيوت المسلمين السنة تحديدًا، فهم الذين قُتّلوا وهجّروا، ودُمّرت بيوتهم وأحياؤهم السكنية منذ بداية الثورة. وكان علويو حمص أوّل من افتتح أسواق السنة، وأوّل من أعلن عن تحويل أحياء حمص السنية إلى أرض خالية سيزرعونها في المستقبل "بطاطا".
بعد تعفيش البيوت لم يعد هناك مصدر رزق لجيش النباشين الأسدي، فصاروا يعودون إلى البيوت المقصوفة ليهدموا الأسطح، ويسحبوا منها الحديد، كما سحبوا أسلاك الكهرباء من الجدران، وأنابيب التصريف الصحي من أرضيات البيوت.
الدمار الذي خلّفه الأسد في المدن المنكوبة، والانهيار الاقتصادي، والجوع الذي قرض أمعاء البشر جعل مهنة النباشين تظهر للوجود بشكل لافت للنظر، مما دعا شرطة دمشق للتحرك لإيقاف عمل هؤلاء وانتشارهم في المدينة.
والنبّاشون اليوم ينبشون في القمامة، يفرزونها، ويبيعونها، ويحصلون على مبالغ مالية أكبر من راتب موظف في الدولة، وهذا السبب الذي جعل عين السلطة تضيق عليهم.
ومهنة نبش القمامة معروفة في كلّ دول العالم، وإن كانت النظرة إلى العاملين فيها نظرة فوقية ومترفّعة إلا أنّ الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد أسرعت للسيطرة على الوضع، ومنعت الشرطة من التدخل، وقادت حملة "النبّاشين" في البحث داخل القمامة المفيدة.
لا شكّ أنّ الفائدة كبيرة من وراء هؤلاء الفقراء الذين يعملون في هذه المهنة نساءً وأطفالًا ورجالًا. وفي السيطرة على مهنتهم المزيد من القمع، وسحق تلك الفئة من البشر المسحوقة سلفًا والتي وجَدت في تلك المهنة ما يعينها على تأمين لقمة العيش.
لكنّ آل الأسد لن يتركوا للشعب شيئًا يعيش منه على كلّ المستويات، والأمر ليس حديثًا، بل هو قديم منذ تسلّم "النبّاش الأوّل" الحكم في سوريا، وأورث المهنة لأولاده، لكنّها حين وصلت إلى ماهر صارت الأيام في أواخرها، فغرق في "القمامة" إذ لم يبقِ له والده ومن بعده شقيقه باسل ومن بعده شقيقه بشّار سوى قيادة فرقة النبّاشين "الرابعة"، وتحديد سلطته ومصدر رزقه داخل حاويات القمامة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
علاقات بشار التي قضت عليه
في مقالي السَّابق تساءلتُ عن عمق علاقةِ طهرانَ ببشار الأسد، كانَ يعتبرها الجدارَ الذي يستند إليه. أنقذته عام 2014 وفشلت بعد عشر سنين.
في آخر الأسابيعِ من حياتِه قرّر حافظ الأسد في مارس (آذار) عام 2000 التَّفاوضَ مع إسرائيل، وكان في عجلةٍ من أمره يريد إنهاء ما تبقَّى من ملفات عالقة قبلَ تسليم الحكمِ لبشار. وعلى الرغم من مرضِه طارَ إلى جنيف وتفاوض مع رئيس وزراِء إسرائيل إيهود باراك عبرَ الوسيط الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. مشروعُ الاتفاق كانَ استعادةَ الجولان المحتل من دون الحديث عن دولةٍ فلسطينية. الإسرائيليون على علمٍ بتأهيل بشار لم يكونوا واثقينَ بأنَّه سيصلُ الحكمَ في ظلّ الصّراع الخفي. تُوفي حافظ بعد عشرةِ أسابيعَ من اجتماع جنيف.لم يعد بشار للتفاوض إلَّا بعد أن اندلعت الاحتجاجات ضده في 2011. نتنياهو ظلَّ متشككاً في قدرة بشار على التَّخلص من علاقته مع طهرانَ وحزبِ الله، ورفض.
من أبرز الأسبابِ التي أطالت عمرَ نظام حافظ الأسد قدرتُه على إدارة علاقاته الخارجية مع خصومه. امتنعَ عن مواجهة إسرائيل بعد هزيمة 1973. في حين أن بشار وضع سوريا ضمنَ امبراطورية الحرس الثوري، وكان من المحتَّم أن تُستهدف بالتدمير لاحقاً.
لماذَا لم يوقع حافظ اتفاقَ سلام مع إسرائيل وهو الذي كان على علاقةٍ تنسيق سرية معها؟ ذكر أقربُ رجاله إليه، الراحل عبد الحليم خدام، أن حافظ كان يخشى أن يُقال أنَّ الأقليةَ العلوية هي من وقَّعت السلام مع العدو.
وماذا عن معاركه معها عبر لبنان؟ في الواقع لم تشن سوريا هجماتٍ على إسرائيل في ثلاثين سنةً في لبنان، بل كانت تقوم بدورِ العسكري لوقفِ نشاطات الفصائل الفلسطينية، ولاحقاً حزب الله بدرجة أقل، حتى جاء بشار الذي وسّع المخاطر. كانت استراتيجية الأسد الأب هي الاستيلاءَ على لبنان ما دامت إسرائيل تحتل الجولان. واستخدمه ورقة مع الدول العربية، ولعبَ دور الوسيط في خطفِ الرهائن الغربيين.
وبالسياسة نفسها، الاقتراب من النَّار دون الاحتراق بها، إذ منح أكراد تركيا الملجأ، وعندما هدّدته أنقره أوقفهم وسلَّم زعيمهم بشكل غير مباشر.
ولابدّ من فهم علاقة حافظ مع إيران حيث كانت معقدة، استخدمها للتوازن الجيوسياسي ضدَ نظام عدوه صدام للحؤول بينه وإسقاط نظام دمشق. واستخدم طهران لتعزيز أهميته في الرياض، ولعب أدواراً متكرّرة لتخفيف التوتر مع طهران.
بعد تفجير الخبر 1996 سلَّم بعض الهاربين السعوديين بعد أن انكشف أن الخلية قد اختبأت في دمشق، ومن جانب آخر سهّل هروبَ زعيمها إلى طهران.
في محاولة لفهم العلاقة، تحدّث خدام عن سياسة حافظ الأسد حيال إيران. عندما جاء رفسنجاني في عام 1985 يطلب دعم الأسد في حربهم ضد العراق. كبائعٍ إيراني ماهر حاول أن يقنعه بأن مكافأة تحالفهم معه عند انتصارهم على صدام سيعزّز موقف سوريا ضد تركيا وإسرائيل والعراق. يقول كان الأسد حذراً من التمادي في الحلف وسطَ رمال المنطقة المتحركة.
لا شكَّ أن من أسباب سقوط نظام بشار الأسد فشله في إدارة سياسته الخارجية، وتحديداً تحالفه مع إيران. ففي الوقت الذي أسس حافظ علاقة وطيدة بنظام الخميني مدركاً أهميته، رفض مشاركته الحرب، لكنه مثل إسرائيل وليبيا باع إيران سراً صواريخ سكود.
أمّا بشار، ففي بدايات رئاسته أوحى للجميع أنه غير البوصلة غرباً، بعيداً عن موسكو وطهران. وما لبث أن أدرك الحقيقة كلّ من تحمَّس له في البداية... السعودية وأسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
في مطلع تحالفه مع إيران خطط بشار للاستيلاء على القرار اللبناني باغتيال رفيق الحريري والعديد من القيادات، ليصبح حزب الله الحاكمَ الأوحد في لبنان بعد إخراج قوات الأسد.
ثم تجرأ بشار على فتح حدوده الجنوبية للمجاميع المسلحة لمهاجمة النظام الجديد في بغداد، الذي كان تحت حماية واشنطن. ما برّر لجيرانه، الأردن وتركيا، فتح حدودهم للثوار السوريين ضده في عام 2012 ، وأخيراً قضوا على حكمه.
من حيثُ الحقيقة يمكن تفهّم التحالفات في سياق الصراع الإقليمي بالنظر إلى علاقةِ حافظ القوية بطهران، لأنها لاعباً مهماً، وكذلك بشار، إلا أنّ الأخير انغمس في حروبها في لبنان والعراق. خدام يقول بشار اتخذ قراراً مصيرياً بالاندماج الكامل مع طهران في عام 2011، لكن رأيي، كما ذكرت سابقاً، كان تورطه في حروب طهران قبل ذلك بسنوات. فهل كانَ وصول بشار للحكم بدعم استثنائي من طهران هو ما دفعه دائماً للعب دور الوكيل مثل حرب الله؟ قلةٌ قليلة تعرف ما حدثَ بين عام 2000 و2024.