واهِم من يعتقد أن ما يحدث في غزة اليوم شأن محلي ذو علاقة ببقعة جغرافية ضيقة؛ أو مجرد أحداث عابرة لا امتدادَ لها في المستقبل. إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتطهير، على مرأى ومشهد من العالم الذي يقف عاجزًا عن التدخل، يدعونا إلى وقفة تأمل لاستجلاء المعاني الكبرى المُوضِّحة لحقيقة الصراع الدائر اليوم بين شعب أعزل متشبث بحقه في البقاء والوجود، ودولة متمادية في الإصرار على حرمانه من هذا الحق.

ليس من السهل التفكير في المعاني الكبرى التي تُمكِّن العقل من النفاذ إلى صورة واقع آخر غير واقع التفاصيل اليومية الدامية وأعداد الضحايا الأبرياء الذين يسقطون على مدار الساعة في غزة. والحاصل أنّ الصراع في جوهره هو صراع حول المعنى، لا يجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، كما يبدو في الظاهر، بقدر ما يجمع بين منظومتين ثقافيتين فكريتين، تستقل كل واحدة منهما بنظرة خاصة إلى القوة والوجود. ليست فلسطين وليست إسرائيل، عند التحقيق، سوى رؤوس حربة في الصراع حول المعنى بين عالمين متنافرين.

هذا ما يرشح من حديث المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم، حيث لا يَفْتَؤُون يرددون، منذ "هرتزل" إلى اليوم، أن دولتهم ستقف حصنًا منيعًا ضد التوحش والظلامية؛ خدمة للحضارة والتنوير. وينطوي هذا القول على معانٍ ظاهرة ومبطنة، بسيطة ومركبة. وحسبنا هنا أن نشير إلى معنى واحد نعتبره صريحًا ومضمرًا في نفس الوقت، مُفادُه أن إسرائيل إذ تتمثل حقَّها في الوجود كحق تاريخي، فهي تتوسل بأحدث وسائل القوة التي يتيحها الغرب الحديث للدفاع عن هذا الحقّ في الوجود.

تحاول إسرائيل منذ نشأتِها أن تبني شرعية وجودها على عنصرَين اثنَين: التاريخ والثقافة الغربية الحديثة، هذه الثقافة التي تبرر الاستعمار وتُسوِّغه. هذا في مقابل المجتمع الفلسطيني الذي يستمدّ شرعية حقه في الوجود من الأرض.

 كلما زادت الشعوب غرقًا في العوالم المجردة سهل اجتثاثها من بيئتها الثقافية وسهل الزج بها في منظومة اقتصادية مالية تنضبط بضوابط رأس المال وقيم السوق، كما يسهل إخراجها من سرديتها التاريخية لإلحاقها بسرديات الآخرين

ففلسطين، على خلاف إسرائيل، ليست سردية تاريخية يتداعى لها القوم من أطراف الأرض، أو فكرة تُحمَل على ظهر القوة المادية الغربية الحديثة؛ بل فلسطين شعب يعيش فوق أرض؛ شعب قَوَّض بوجوده المعنى الأساس الذي حاولت الثقافة الاستعمارية أن تبني عليه شرعية قيام دولة إسرائيل، المعنى الدال على أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

نخلص من هذا إلى نتيجة فحواها أنَّ هناك فرقًا متعلقًا بصناعة المعنى بين إسرائيل وفلسطين. إذا كانت إسرائيل تتوسل بالتاريخ وبقوة الحداثة المادية لصناعة المعنى الدال على شرعيتها في الوجود والبقاء، فإن الفلسطينيين يصدرون عن انتسابهم للأرض ووجودهم فوقها لإفادة معنى الحق في المقاومة. وبهذا نخرج من دائرة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الضيقة، إلى صراع أكبر، صراع بين السرديات التاريخية المتوسلة بقوة الحداثة المادية، وبين السرديات القائمة على التفاعل مع الأرض بوصفها الموطن الأصلي للوجود.

إن للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني تجليات في عالم المعاني. فهذا الصراع لا يقف عند حدود جغرافية ضيقة، بل يمتد ليشمل العالم كله. ذلك أنه يجمع بين نظرتين مختلفتين للعالم: فأما النظرة الأولى فينطلق أصحابها من فكرة توسعية تستحثهم على بسط قوتهم وسيطرتهم على الأرض، كامل الأرض، حتى وإن اقتضى ذلك تجريد الشعوب من انتسابها إلى أمكنتها؛ وأما النظرة الثانية فيتشبث أصحابها بكل ما أوتوا من قوة بحقهم في البقاء فوق أرضهم.

إذا كان الصراع حول الأرض يتخذ شكلًا مسلحًا صريحًا في السياق الإسرائيلي – الفلسطيني، فإنه يتخذ أشكالًا رمزية وثقافية كلما زدنا ابتعادًا عن جغرافيا هذا الصراع. عند التحقيق نجد أن شعوب المنطقة كلها- هذا إن لم نقل شعوب العالم قاطبة- تتعرض لأبشع عملية تقويض لعلاقاتها القائمة مع أرضها. فالعالم قد صار مسطحًا، كما يذهب "توماس فريدمان" إلى القول من خلال عنوان كتابه:  (The World is Flat).

ومن مظاهر التسطيح عندنا أنك صرت حيثما يمّمت وجهك تجد كائنات غريبة لا يربطها أي رابط بثقافتها الأصلية النابعة من تفاعل أجيال وأجيال مع الأرض.

يكفي أن نلقي نظرة سريعة على برامج الترفيه الإذاعية والتلفزيونية المستنسخة في العالم العربي والإسلامي، كي نتحقق مما يحصل من تجهيل وتهجير للعقول من عالم معانيها الأصلي، إلى عوالم معانٍ مجردة، مُغرقة في التفاهة والرداءة والسخافة.

ومعلوم أنه كلما زادت الشعوب غرقًا في هذه العوالم المجردة سهل اجتثاثها من بيئتها الثقافية وسهل الزج بها في منظومة اقتصادية مالية تنضبط بضوابط رأس المال وقيم السوق، كما يسهل إخراجها من سرديتها التاريخية لإلحاقها بسرديات الآخرين.

يمكن القول؛ إن غزة تمثل آخر معقل من معاقل صمود العالم العربي والإسلامي في وجه منظومة حضارية ترى في التوسع الجغرافي قدرًا محتومًا ومسؤولية يمليها الواجب الأخلاقي الديني، كما كان شائعًا في المجتمع الأميركي خلال القرن التاسع عشر عبر مقولة: "القدر الحتمي" أو "المصير المتجلي" (Manifest Destiny).

بعد غزة سيكون العالم العربي والإسلامي مجبرًا على خوض حرب من أشرس حروب المعنى لاسترداد حسّ الانتماء إلى الأرض، هذا الحسّ الذي تقوم عليه منظومتهم الثقافية.

لقد أدرك الكثير من الشعراء والفلاسفة والمفكرين في تاريخ الغرب، منذ القرن التاسع عشر، أن الحداثة قد أرست ثقافة تقوم على تجريد المعاني من علاقتها مع الأرض موطن الوجود الأصلي. وكأننا بهم ينظرون بعين ثاقبة لما سيؤول إليه العالم، تحت إمرة هذه الحداثة، من ثقافات مجردة مع إحكام قبضة المذهب الأنجلو- أميركي النفعي، ثم مع انتصار المنظومة التكنولوجية المؤسّسة للعوالم الافتراضية والصانعة لواقع ما فوق الواقع.

حين نتأمل قصائد "والت ويتمان" التي نظمها بديوانه الشعري "أوراق العشب" (Leaves of Grass)، نجدها محاولة لتخليص الثقافة الأميركية الناشئة من ثقل السردية القائمة على منطق التطور الإلحاقي، الذي يروم إخراج العالمين من أحيازهم الجغرافيّة باتجاه أفق وجودي موعود.

يكفي التأمل في عنوان الديوان "أوراق العشب" لإدراك ما يصبو إليه "ويتمان" من معانٍ تدعو إلى تأسيس الحياة الثقافية في أميركا على النظر في تفاصيل الأرض الصغيرة. ويصرح في إحدى قصائده المضمنة في الديوان أنه "يتغنّى بميلودية الأرض"؛ أي بأشكالها الملهِمة لمعاني الوجود الحقيقية.

لم ينتصر التيار الداعي في السياق الأميركي إلى الاكتفاء بالأرض كموطن للوجود، بل انتصر التيار البراغماتيّ الذي يوظف القوة المادية لبلوغ العلوّ في الأرض؛ طلبًا لفرض ثقافة كونية مجردة عن الخصوصيات الجغرافية المتعددة والمتنوعة.

فليس غريبًا -والحالة هذه- أن تجد إسرائيل سندًا لها في أميركا فتستعلي، بدورها جغرافيًا على شعوب المنطقة، مصرحة بأنها ذات هوية غربية وليست شرقية، متبجّحة بأنها الكيان الوحيد الذي يستطيع أن يجسد في أرض الشرق قيمَ الغرب الكونية.

هذا جوهر ما يسعى "برنارد لويس" وأتباعه إلى تثبيته في المخيلة الغربية. ولا يجد "لويس" أدنى حرج في دعوته العالم العربي والإسلامي إلى تخليص ثقافته من حسّ الارتباط بالأرض كشرط لولوج زمن الحداثة الغربية الكوني.

كلما أعاد المرء قراءة كتابه حول العلاقة المتوترة بين الإسلام والحداثة (What Went Wrong) زاد يقينًا بأنَّ صراع إسرائيل مع الفلسطينيين هو من جنس الصراع الذي يجمع بين معنيَين: معنى أن تخلق هُويتك الثقافية في تفاعل مع الأرض، ومعنى أن تطلب العلوّ في الأرض سبيلًا لخلق ثقافة.

يخوض المستوطنون الإسرائيليون ومن يقف وراءهم من المتشددين حربًا على الفلاح الفلسطيني البسيط، فتجدهم يقتلعون أشجار زيتونه، ويهدمون مقومات وجوده. ونجد في هذا السلوك دليلًا على عمق أزمة إسرائيل الوجودية. تريد أن تستبدل مستوطنًا بفلاح، مستوطنًا يأتي على ظهر دبابة، عوض فلاح يخرج من صلب الأرض.

إذا قبل العالم العربي والإسلامي بما يحدث من هدم ممنهج لمقومات وجود الفلسطينيين فوق أرضهم، فسيقبل لا محالة بالهدم الممنهج الذي يطال مقومات وجودهم ككيانات تستمد خصوصيتها الثقافية من تفاعل طويل مع الأرض، مصدر المعنى وموطن الوجود.

حين نتأمل فيما أصبح يطلبه صحفيون ومثقفون وجامعيون ورجال دين من بطولة تافهة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يتساوون في ذلك مع غير الأسوياء من القوم، نميل إلى القول بأن السخافة قد أحكمت حلقاتها حول الثقافة في العالم العربي، وهو ما سيُصعِّب الولوج إلى عالم المعاني الأصيل حتمًا.

لكن ومع هذا كله، هناك بوادر كثيرة أصبحت تؤشر إلى وجود وعي متنامٍ بأن ما يحدث في غزة يدشن لا محالة لمرحلة جديدة في تاريخ العلاقة بين الغرب والشعوب العربية والإسلامية، هذا إذا لم نقل بين الغرب وبين شعوب الأرض قاطبة.

وخلاصة القول؛ إن من يلتمس المعنى لوجود إسرائيل بالشكل الذي هي عليه ولما تقوم به من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، فلن يجد أي معنى. والمعنى- كما لا يخفى- يفيد معنى الوجهة التي يسلكها الإنسان في عالم الدلالة الحسي الفِطري الطبيعي.

فليس لوجود إسرائيل ولما تقوم به من معنى إلا في عالم مجرد يستفرد فيه القوي بصناعة المعنى ليفرضه قسرًا على الآخرين.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: العالم العربی والإسلامی فی الوجود یجمع بین مع الأرض

إقرأ أيضاً:

هكذا أفشل صحفيو غزة خطط إسرائيل

لم يشهد أي مكان في العالم في أي مرحلة من مراحل التاريخ قتل عدد من الصحفيين والإعلاميين مثلما حدث في قطاع غزة خلال حرب الإبادة منذ ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

لقد قتل الاحتلال الإسرائيلي الصحفيين قصفًا ونسفًا وقنصًا، وهدم بيوتهم فوق رؤوسهم هم وعائلاتهم بوحشية لم يعرفها العالم من قبل. فارتقى 207 من الصحفيين والإعلاميين رجالًا ونساء وشبابًا وشيوخًا دون تمييز بمعدل ثلاثة أسبوعيًا، وهو أعلى بثلاث مرات من معدل قتل الصحفيين في كل دول العالم مجتمعة في أسوأ الأعوام التي شهدت استهداف الصحفيين خصوصًا في مناطق النزاعات، أو على خلفية استقصائهم في ملفات الجريمة المنظمة، أو الاتجار بالبشر، أو ملفات الفساد، وغير ذلك.

ولن يكون مفيدًا هنا أن نسأل الاحتلال عن سبب هذا الاستهداف المتعمد – في أغلب الأحيان إن لم يكن في جميعها- فقد نسج الاحتلال على الدوام روايات خيالية عن علاقة الصحفي الفلسطيني في غزة بقضيته الوطنية وبمعاناة شعبه، وكذلك بفصائل المقاومة.

ولفق الاحتلال التهم جزافًا لبعض من أثار قتلهم ردود فعل كبيرة نسبيًا، وحرك حالة من الاستنكار على المستوى العالمي، كما حدث بعدما اغتال الاحتلال الإسرائيلي الصحفي إسماعيل الغول، ذلك الشاب الواعد المتألق الذي نقل للعالم عبر قناة الجزيرة ومنصاتها أصعب مراحل العدوان على مدينة غزة وحصار واقتحام مستشفى الشفاء، وقد اعتقل من هناك لبضع ساعات، ثم أطلق سراحه لتنقض عليه صواريخ الغدر الإسرائيلية في يوم إخباري كبير كان يغطي فيه تداعيات اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فارتقى الإسماعيلان شهيدين في نفس اليوم وبنفس الطريقة تقريبًا، الأول في طهران، والثاني في مدينة غزة.

إعلان إستراتيجية ممنهجة للتعامل مع الإعلام

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول منع الاحتلال دخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة، وكان ذلك لسببين:

الأول: رفع الحصانة عن الصحفيين في غزة، فوجود صحفيين أجانب أو أي موظفين دوليين، خصوصًا من الغربيين، كما في كل الحروب السابقة، يعني أن على الاحتلال تحري الدقة في توجيه القصف والتدمير. وهذه المرة أراد الاحتلال التخلص من ذلك العبء. والثاني: أن يكون الاحتلال بمأمن من ملاحقة الصحفيين الأجانب الذين سيوثقون -بغض النظر عن مواقفهم السياسية- ما تقع عليه عيونهم وكاميراتهم، وسينشرون القصص والحكايات عما يرتكبه الاحتلال من فظائع وجرائم.
وهذه النقطة تحديدًا نجح الصحفيون الفلسطينيون في تعويضها، فانتشروا واستعدوا ونقلوا الصورة للعالم بأقصى ما يمكن من تفاصيلها وتحملوا أعباء ذلك. إجراءات متنوعة

أمام ذلك اتخذ الاحتلال سلسلة من الإجراءات على النحو التالي:

أولًا: إخلاء صحفيي الوكالات والمؤسسات الإعلامية الأجنبية، وهم أصحاب التجربة الطويلة والخبرة العالية، فضلًا عن ارتباطهم بالعالم الخارجي وراكموا قدرًا عاليًا من المهنية والمصداقية فيما يقدمونه من أخبار وصور. ومما يدفع للاستغراب أن ذلك حدث بطلب من تلك المؤسسات تحت عنوان حمايتهم، وتم إجلاء الغالبية العظمى منهم إما لمصر أو قطر أو دول أخرى. ثانيًا: تدمير المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والمعدات من استوديوهات وكاميرات وعربات للنقل الخارجي أو الفضائي وغير ذلك. ثالثًا: الاغتيال المباشر لعدد كبير من الصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية الفلسطينية وقناة الجزيرة بقصف بيوتهم أو قنصهم أثناء عملهم بالرصاص أو بالمسيرات. رابعًا: التشكيك في رواية الصحفيين ومهنيتهم واختراع الروايات الكاذبة لإضعاف مصداقيتهم مما يسهل استهدافهم بأي وقت وبأي نوع من الاستهداف. خامسًا: الاعتقال، وقد اعتقل الاحتلال بشكل متكرر الصحفيين والإعلاميين ونكّل بهم وبأسرهم، وفي بعض الحالات أحرق بيوتهم، كما حدث مع الصحفي القدير عماد الإفرنجي أبو مصعب الذي مازال يرزح خلف القضبان. سادسًا: الإصابات ومنع الخروج للعلاج، وهو ما يثبت نظرية التعمد في الاستهداف. فلو كان ذلك مجرد حدث عارض تسببت به ظروف المعركة وطبيعة المواجهة لكان الاحتلال حريصًا على تقديم العون والمساعدة مباشرة كما يفعل لجنوده الذين يتعرضون للإصابات في ميدان المعركة، أو على الأقل لكان سمح لهم بالحصول على الرعاية الطبية في أقرب نقطة ممكنة، أو السفر للخارج لتلقي العلاج إذا لم يتوفر ذلك في غزة التي دمر الاحتلال مؤسساتها الطبية وأصبحت عاجزة عن تقديم الخدمات الكثيرة التي احتاجها أهل غزة في ظروف الحرب الهمجية. سابعًا: التهديد عبر الاتصالات الهاتفية وعبر شاشات التلفزيون ضمن برامج القنوات الإسرائيلية، وهو الشكل الذي تكرر مع عشرات الصحفيين والمصورين، وكان هدفه التخويف والترهيب لوقف التغطية بأي شكل من الأشكال. إعلان كيف واجه الصحفيون الفلسطينيون كل ذلك؟

لم يستسلم الصحفيون أمام هذا الاستهداف الواسع، بل واصلوا التغطية وجعلوا ذلك شعارهم، وأبدعوا في إيجاد البدائل والوسائل لتوصيل الصوت والصورة المباشرة ما أمكن أو المسجلة والثابتة أو المعلومة والخبر، ونجحوا في فضح ممارسات وجرائم الاحتلال في كل مناطق القطاع، واستندوا إلى خبرات توارثها الصحفيون عبر ثلاثة أجيال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى المعروفة بانتفاضة الحجارة عام سبعة وثمانين.

كما استندوا إلى ما يحملونه من إيمان بدورهم وقوة تأثيرهم وقدرتهم على حماية شعبهم من خلال هذا العمل الصحفي والإعلامي، كما فعلوا في كل الحروب التي مرت على غزة خلال العقدين الأخيرين، وإلى استعدادهم الدائم لأداء الواجب والحفاظ على التغطية مستمرة وعدم السماح بسقوط الصورة.

نتائج مذهلة

انضمت أجيال جديدة من الصحفيين للعمل، وحملوا راية زملائهم ولم يسمحوا بالتعتيم. وتناقل العالم في أطرافه الأربعة المعلومة والصورة الموثوقة، وإن كانت أحيانًا مصحوبة بمشاعر وتعليقات هؤلاء الصحفيين أو النشطاء الإعلاميين، وتحول معظمهم بسرعة البرق إلى نجوم نظرًا لوجودهم الدائم في دائرة الخطر، وتشابك علاقتهم بما حولهم، فبيوتهم مستهدفة كما كل أهل غزة، وعائلاتهم أيضًا قصفت أو نزحت كما كل غزة، ورآهم العالم يصرخون خوفًا أو يهربون فزعًا أو يرتجفون بردًا أو يتضورون جوعًا أو يتألمون من الجراح والإصابات، أو يودعون أحبابهم وأقاربهم الشهداء. ولم تعد قصتهم حدثًا شخصيًا بل جزءًا أساسيًا من مشهد شعب يتعرض كل ما فيه لعدوان همجي رهيب.

لاشك أن غزة استطاعت أن تحكي قصتها بكل جرأة ووضوح من خلالهم، وفشل الاحتلال فشلًا ذريعًا في كتم الحقيقة، وفشلت معه مؤسسات إعلامية دولية كانت تبدو عملاقة حتى رآها العالم متقزمة وفاشلة وربما متآمرة، فلا هي قاتلت من أجل الصحفيين في غزة ولا من أجل الدخول إلى غزة والمشاركة في تغطية حرب عظيمة ومدمرة جعلتنا نسميها "حرب الإبادة"، ولا قامت بواجبها في نقل الصورة الصحيحة أو الدفاع عن حق الصحفيين الفلسطينيين بأن يتمتعوا بما تنص عليه مواثيق العالم من حصانة وحرية .

إعلان

أما صحفيو غزة فاستحقوا أن يحصدوا كل جوائز الشجاعة في كل المهرجانات أو المحافل العالمية، فقد ثبتوا وصمدوا وتحملوا وكابدوا والتصقوا بشعبهم وقضيته، ونقلوا كل صور المعاناة التي لم تغب آثارها عن تعبيرات وجوههم أو حدقات عيونهم أو نبرات أصواتهم أو على أجسامهم وممتلكاتهم.

الأجيال الثلاثة

ربما يكون ذلك نوعًا من التأريخ الشخصي لمهنة الصحافة في غزة، وليس تأريخًا علميًا دقيقًا، فالمهنة لم تبدأ عندما بدأت، بل سبقني وجيلي صحفيون على مدى سنوات طويلة، لكنني لاحظت أن جيلنا كان طبقة كاملة من الصحفيين في تخصصات مختلفة، وغالبيتهم واكبوا الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى المعروفة بانتفاضة الحجارة التي انطلقت عام 1987.

ثم واكبوا ما تبعها من تطورات سياسية خصوصًا "عملية السلام" واتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة بعد عودة ياسر عرفات ومنظمة التحرير. وقد نشأت علاقتي بالصحافة مع هذا الجيل الذي استهدفه الاحتلال أيضًا في حرب الإبادة، كما كان في استهداف الصحفي الكبير مصطفى الصواف فارتقى شهيدًا هو وعدد من أفراد أسرته.
أما الزميل الآخر الذي ينتمي لهذه المرحلة أيضًا فكان الزميل وائل الدحدوح، مدير مكتب الجزيرة الذي استهدف هو وعائلته وبيته وأصيب هو، بينما استشهد عدد من أفراد أسرته.
والصحفي القدير عماد الإفرنجي وهو من رموز صحفيي غزة أيضًا، فقد نكل به الاحتلال بعد اعتقاله، كما أحرق بيته وهجر أسرته إلى جنوب القطاع بطريقة شديدة الوطأة تدل على سادية ووحشية منقطعة النظير.
ولا أبالغ إن قلت إن معظم أبناء الجيلَين: الأول والثاني، هم الذين خرجوا من رحم انتفاضة الأقصى عام 2000، وعاشوا حروبًا متتالية منذ 2008، وهؤلاء من أمثال الصحفي القدير تامر المسحال ومؤمن الشرافي وهشام زقوت وغيرهم ممن يعملون بالمؤسسات الإعلامية المتنوعة، قد تمرسوا على تغطية الحروب منذ 2008 وحتى 2021. وتعرضوا أيضًا للاستهداف بالقتل أو الإصابة أو التهديد أو الاعتقال واستهداف أسرهم وبيوتهم.

إعلان

أما الجيل الثالث، فهم ربما ظهروا بعد حرب 2021 أو قبلها، ولكنهم تميزوا وبرزوا بعدما حملوا الراية باقتدار خلال أصعب المعارك الفلسطينية على الإطلاق منذ انطلاق طوفان الأقصى نهاية العام 2023، وقدموا صورة مشرفة عن بطولتهم وشجاعتهم ومهنيتهم وانتمائهم الوطني وحمْل قضية شعبهم، وحق لنا أن نفخر ونحتفي بهم، وأن نترحم على 207 من الزملاء الشهداء، ونتمنى الشفاء التام للجرحى، والحرية للأسرى والمعتقلين منهم، وأن يعوض الله كل المتضررين خيرًا.

وليست حكاية الصحفيين في غزة سوى نموذج مصغر من كل شرائح الشعب الفلسطيني في غزة، فقد عركتهم التجارب وصقلتهم الحروب وألهمتهم تجارب الأجيال السابقة ورموزها، وأجبروا على تحمُّل أعباء ثقال، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • ترامب ومخطط تهجير غزة: طريق مسدود أمام العدوان بفضل التضامن الشعبي والقدرات الإقليمية
  • هكذا أفشل صحفيو غزة خطط إسرائيل
  • هل تكون "ميونيغ" نهاية حقبة بين أمريكا وأوروبا؟
  • غيَّر قوانين سجون الاحتلال.. من هو الأسير مازن القاضي الذي خدع إسرائيل؟
  • تحت مظلة بداية جديدة.. انطلاق ملتقى عين شمس لربط خريجي الزراعة بسوق العمل
  • ما هي وحدة "سابير" التي أنقذت إسرائيل من صواريخ إيران؟
  • تفسير رؤية اسم عمر في المنام .. بداية مرحلة جديدة نحو الأفضل
  • فييري: العالم أجمع سيتابع الأهلي في بداية مونديال الأندية بسبب ميسي
  • محمد أبوزيد: أعتبر ديواني فوات الأوان بداية شعرية جديدة لي
  • مركز الفلك الدولي يتوقع بداية شهر رمضان فلكيا في 1 آذار