يعتقد البعض أن فلسطين وغزة والسودان واليمن والعراق وسوريا وليبيا والصومال هي فقط المستهدفة من التحالف الأمريكي الإسرائيلي الغربي في المنطقة، ولكن مع محاولة واعية للقراءة الصحيحة لابد أن يكتشف أصحاب العقول أن مصر تأتي في مقدمة المستهدفين وقد ضُربت بالفعل ضربات اقتصادية قاتلة، وضربات تمس أمنها القومي، واقتربت تلك الجيوش الغازية من جغرافيا مصر حتى أصبح الفارق بين الهجوم والوضع الحالي هو إطلاق الطلقة الأولى.
ومن حسن الحط أن أمريكا وإسرائيل، والإعلام الصهيوني على وجه الخصوص لا يخفي تلك المخططات، ربما لأن فائض القوة عندهم جعلهم يتصرفون بغرور شديد، ولا يخافون من إعلان أنهم يستهدفون مصر.
لا يمكن أن يعتبر ما يحدث في السودان من تقسيم وتقتيل وحروب أهلية بعيدًا عن جغرافيا وأمن مصر، كما أن ما يحدث في غزة من ارتكاب أكبر جريمة في التاريخ للإبادة وسحق البشر والأطفال والنساء وابتلاع الأرض والدخول على الحدود المصرية، لا يمكن اعتباره بعيدًا عن مصر.
وروسيا أطلقت حربها ضد أوكرانيا لأنها قررت أن تجلب إلى حدودها أمريكا ودول أوروبا وحلف الناتو، وهي دخلت الحرب ليس عدوانًا، ولكن دفاعًا عن أمنها القومي أولًا، واستباقًا لحرب مؤكدة كانت ستنطلق من أوكرانيا ضد أراضيها ثانيًا. ولأن روسيا دولة عظمى فقد نجحت بضربتها الاستباقية في تحويل ميدان الحرب من المدن الروسية إلى المدن الأوكرانية. ولو أن مصر تملك نصف القوة الروسية لفعلت الأمر نفسه في تلك الحروب التي تعمّد الغزاة الجدد إشعالها في السودان وفي غزة وعموم فلسطين.
ولأن ماكينات الغرور العسكري، والغزو الاستعماري لا تتوقف عن انتاج دفعات الشر على مدار الساعة، فقد كان قرار عسكرة البحر الأحمر مستهدفًا بشكل مباشر لقناة السويس واقتصاد مصر، وخاصة العملة الصعبة التي تحتاجها بشدة هذه الأيام.
وكلنا يعلم أن القناة قبل عسكرة البحر الأحمر من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما كانت قد أعطت للبلاد أكبر دخل في تاريخها العام الماضي عندما اقتربت من 9 مليارات دولار.
ولا يمكن لأصحاب العقول أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم، أو يضعوا غمامة على أعينهم كي يتناسوا أن قناة السويس قد تناقص دخلها بفعل العسكرة الأمريكية إلى أقل من النصف خلال الشهرين الماضيين، كما أن تحميل البلاد كل هؤلاء المهاجرين واللاجئين من السودان وليبيا واليمن وسوريا والعراق يشكل أكبر عملية ضغط اقتصادي مرت بها البلاد، وعلى مصر أن تختار إما أن تكون الشقيقة الكبرى التي تحتمل شعوبها العربية، بما يكبدها ذلك من خسائر اقتصادية في ظل حصار معلن وسري ضدها، وإما أن تقوم بطرد هؤلاء وتخسر إلى الأبد دورها ومكانتها كشقيقة كبرى يلجأ إليها المحتاجون، يطالبون الأمن والاستقرار من الشعوب العربية.
التحالف الاستعماري الجديد إذًا، يحاصر مصر على كافة الاتجاهات، ولا يبدو لأي عاقل أن يستبعد أن الضربة القادمة ستكون هنا، إلا إذا تفاعلت العقول المصرية لتنتج خيارات متعددة لإنقاذ البلاد من هستيريا حرب الحضارات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية الآن ضد بلادنا والعالم كله، لأن ما تقوم به تلك الجيوش وما كشفت عنه الجرائم المذهلة ضد شعبنا الفلسطيني في غزة لا يمكن أبدا تفسيره بأنه حروب على المصالح أو حروب على الحدود.
إن ما حدث في غزة يثبت أن هذا اللون من الحروب هو حروب وجودية تستهدف الوجود العربي وليس المصالح العربية أو أراضي وبحار العرب، إنه الحقد الحضاري الأسود الذي يذكرنا بمئات الآلاف من القتلى عند كل غزو جاءنا من الخارج، سواء كان مع الصليبيين الذين قتلوا في يوم واحد 70 ألفا من أبناء العرب عند دخولهم بيت المقدس عام 1099 ميلاديا، أو مع التتار الذين أحالوا لون نهري دجلة والفرات إلى اللون الأحمر بعد أن تحولت شوارع بغداد إلى أنهار من الدماء اندفعت إلى النهرين.
ولا يمكن أن يغفل التاريخ تلك الهجمة الاستعمارية الساحقة التي سحقت شعبنا في العراق في العام 2003 بحجج كلها كاذبة وللأسف هم من اعترفوا أنها كاذبة ولم نستطع نحن أن نبرهن للعالم أنها كاذبة.
الأمر وكأنه محطة مفصلية في التاريخ تحتاج إلى استخدام كل المخزون الفكري والتاريخي والثقافي والعسكري والاستراتيجي لتضع ملامح للخروج من هذا الطريق المظلم، وقاتم السواد الذي يحاول التحالف الاستعماري الجديد أن يقذف بنا إليه.
ليست المرارة في أن نجد شعبًا يباد بتلك الطريقة في غزة، وأمة تسحق بتواطؤ دولي في السودان، وشعبًا يتم إفشاله في اليمن، ودولة تقسم فعليًا في ليبيا، وأخرى تقتطع منها أجزاء وتضم علانية في الصومال لصالح إثيوبيا، ولكن المرارة الأكبر أن العرب تائهون، وكأنهم أصيبوا بالخبل لا يعرفون كيف يتصرفون، أو كيف يخرجون من هذا المأزق الحضاري والتاريخي، منهم من يعتقد أن الأمر حله باستبدال دينه والكفر والتسليم بما يقولون، وقد جرب هذا الأمر وفشل فشلًا زريعًا في تركيا، ومنهم من يعتقد أن العمل مع الأعداء كعملاء هو الطريق للنجاة، والتاريخ أثبت أن الأقوياء يسحقون العملاء عندما ينهون مهامهم، ومنهم من يعتقد أنه ذكي يتجنب الصدام، وهم لا يعلمون أن هؤلاء لا يحتاجون لمبررات أو حجج كي يدخلوا عليهم.
وبقي هناك مجموعات مشتتة من حركات مسلحة تعتقد أنها تستطيع أن تقاوم كل هذا الغرور وهذه القوة العسكرية والإعلامية الطاغية التي تسود العالم، ربما يكون هؤلاء أقرب للحقيقة، وأقرب للوعي، ولكن ينقصهم العلم والأخذ بأسبابه، وينقصهم القراءة الجيدة لموازين القوى، ولضبط الخطاب الإعلامي، لأن الآخر يلتقط الكلمات ويعيد استخدامها لتنفيذ مشروعه في كل خطوة ويحشد بها هذا العالم خلفه.
وأخيرًا، تبقى هناك ملامح مضيئة في هذا النفق المظلم، وهي المعرفة لحقيقة الأهداف والنوايا وعدم الاستسلام للخداع والشراك الذي احترف الأعداء نصبه لصناع القرار في العالم العربي
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
من يريد أن يعرف حقاً من أين جاء هؤلاء الناس: لجنة إزالة التمكين
عبد الله علي إبراهيم
(عادت لجنة تفكيك تمكين نظام يونيو 1989 إلى واجهة الأنباء بعد الترويج الرقيع لحديث المقدم عبد الله سليمان، الذي خدم في اللجنة، عن فسادها. وجاء الترويج وأنا أحرر كتابي عنها بعنوان "لجنة تفكيك التمكين: لم ينجح أحد". وتجد أدناه مقالاً منه).
تواترت مؤخراً كتابات تطلب من لجنة إزالة التمكين أن تتوقف قليلاً لجرد الحساب لتأمين ما حصدت إلى يومنا وحسن تدبير عملها المنتظر. وهي كتابات صدرت عن حرص عظيم على إداء اللجنة في صلاحياتها الدستورية المعروفة. وقد عرفت عن صديق أم بدة وعمر عشاري، ممن تفضلا بهذه الكتابات، ومن تجربة شخصية، أن من زينة عقلهما الحق والقسط معاً. وقد أزعجني من اللجنة واقعة خشيت منها أنها ربما صارت عرضة لفقدان البوصلة. فوجدتها تدخلت أخيراً في نزاع عمالي في جامعة المغتربين مما يقع في اختصاص مكتب العمل.
لا تزال اللجنة عندي تعمل بالدفع الأساسي حتى بعد أن نضب، أو كاد، دفق ثورية البرجوازية الصغيرة. فاستهولت هذه الفئة التفكيك الذي نبحتنا به سدى لعقود ثلاثة. وأخذت تمشي في ظل حائط "ودوهم المحكمة. القضاء" من فرط لين ركبها حيال هجمة الثورة المضادة. ولاد الحنتة. وراحت تهرف ب"مفوضية الفساد" تستر بها مؤخرتها الثورية. وهذه شنشنة أعرفها عن هذه الفئة الاجتماعية. أعرفها كجوع بطني. ترمي على عاتقك بالأثقال وتنملص في أول لفة. وتتفرج في متاعبك مما سماه عبد الله الطيب ب"كيد الأفندية".
رغبت أن لو تحسبت اللجنة لما بعد نضوب ثورية الأفندية. وددت لو جعلت من مؤتمرها الصحفي ثقافة عن سبل "تكوين النفس"، وهي عبارتنا في كسب المال ومراكمته، من موقع السلطان في الإنقاذ. وهو تكوين استباحت به المال العام بلا وازع. فانتظرت منها أن تكون مؤتمراتها حسنة الإعداد لتكون مقرراً دراسياً في علم "وظائف أعضاء" جسد الإنقاذ. فما تزال اللجنة وكثير من الناس تنظر للإنقاذ كنظام فاسد. وحاربته المعارضة طويلاً على زعم فساده. وهو أقبح من هذا بكثير. فيقع الفساد حتى في نظم محروسة بنظم مالية وإجرائية تتربص بالفاسدين وتوقعهم في حبائلها. وكنت أقرأ أمس عن رأسمالي أمريكي هو بوب بروكمان، ذي الباع الطويل في صناعة السوفت وير، عمل السبعة وذمتها فساداً. ويكفي أن مصلحة الضرائب غرمته ملياري دولار جزاء وفاقاً. هذا فساد. وهو كالكذب حبله قصير في الغالب. أما الإنقاذ فدولة عطلت النظم المالية والمحاسبية بالكلية في مثل "التجنيب" ليُكون الحاكم وبطانته أنفسهم كما يحلو لهم. فليست الإنقاذ فاسدة فساد بوب بروكمان. إنها حالة رُفعت فيها الصحف وكسرت الأقلام لتثرى بطانة الحكم مثنى وثلاث ورباع وإلخ.
وهو نظام مدروس في أفريقيا من حولنا لم يقع لنا دون سائر العالمين من "الكيزان ديل" الذين لا نعرف بعد من أين جاؤوا. ولا نريد أن نعرف. وللنظام مسميات مثل "دولة اللصوص" (kleptocracy)، أو الأبوية الجديدة (neo patrimonialism)، أو السوق السياسي. والقاسم المشترك الأعظم فيها استباحة المال لتثرى الصفوة الحاكمة منه. ومتى علمنا طبيعة النظام وفرنا على أنفسنا حجاج القائلين بعرضهم للقضاء لينظر في صحة ملكيتهم في حين أنها ملكية ناجمة عن نشاط غير شرعي مثل غسيل الأموال. ومناط التحقق في مثل هذا المال حتى في بلاد ديمقراطية كأمريكا وغيرها هو النيابة العامة وأجهزة الأمن بسلطات واسعة في حجز المال ومصادرته كما كتبت هنا مراراً.
ولا بد لي في سياق حدثننا عن "تكوين النفس" أو رسملتها من وقفة عند الحزب الشيوعي لو لايزال مهتماِ بدراسة التكوين الطبقي لمجتمعنا. وسبق لي أخذه بالشدة لخذلانه لجنة الإزالة. فلا يخلو بيان من بياناته الباكرة عن وجوب تفكيك النظام. بل كان يستبطئ التفكيك بغير إشارة، ولو عابرة، لعمل اللجنة ناهيك عن تقييم ما تقوم به واقعاً وتقويمه. وانتهي الحزب الآن إلى الدعوة لقيام مفوضية لمكافحة الفساد بغير تعيين منزلتها من لجنة إزالة التمكين. وسبقت بالقول إن الفساد كما رأينا ليس مصابنا في الإنقاذ. فمصابنا فيها "الترسمل" من المال العام بلا وازع. ولو أحسن الحزب إلى ماركسيته لعرف أن هذا ديدن الطبقة البرجوازية الصغيرة في أفريقيا. فيتم تحولها إلى برجوازية بحيازتها "سلطة للساق". وأمام أعيننا. والقول الشائع المتمزح إنهم جاؤوا بشنط حديد وسكنوا الشاهقات تعبير واحد في استنكار التربح من شوكة الحكم. وهذا الترسمل باب من أبواب "التراكم البدائي" الفظ لرأس المال كما نوه بذلك ماركس.
وليست هذه مرة البرجوازية الصغيرة الأولى للرسملة من المال العام. فحاولت ذلك بدرجة أقل في دولة مايو حتى قال الزين كو عن دولتهم "الغنا غنا والما غنا يركب هنا" مع حركة بالأصبع. وشكل النظامان، مايو والإنقاذ، إساءة مرة للحس السوداني بالمساواتية "egalitarianism" فثار الشعب عليهما. بل سبق إلى ذلك حتى نظام عبود. فنشأت فيه طبقة أفندية ثرية من باطن الدولة سماها الحزب الشيوعي ب"البرجوازية البيروقراطية" في تقرير مؤتمره الرابع (١٩٦٧). واقترنت هذه النظم جميعها بأمرين. أولهما الاعتداء على مال بيوت الإرث كما حدث لآل المهدي والميرغني، وقمع الرأسمالية الوطنية سياسياً بمصادرة موجودها كما حصل لشركات عثمان صالح وتجارة محمد أحمد عباس وعثمان محد خير أوماك وكثير غيرهم. والأمر الثاني هو قيامها على ديكتاتورية متمكنة لكي تثري صفوة الحكم وأضانها باردة.
إني معجب بجهارة أعضاء اللجنة في الدفاع عن اختصاصها الثوري الفريد. فباختصاصها نريد للمرة الأولى توطين "المساءلة" كعقيدة سياسية وتقوى اجتماعية. فلم نستكمل هذه المساءلة في كل المرات الماضية التي قبضنا فيها الديكتاتوريين بسروال ناصل ـ فأذكر اسقاط البرلمان في ١٩٦٥ بقيادة جبهة الميثاق الإسلامي لمطلب للنائب العام بمحاسبة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولم أكن بالبلد لأعرف ملابسات محاكمة مجلس قيادة انقلاب مايو ١٩٦٩. ولكن أعرف أن الإنقاذ أطلقت سرح السجين منهم، وأعادت نميري للبلاد معززاً، وشيعته رسمياً. وسمت أكاديمية عسكرية ما باسمة. وأذكر بياناً أصدرته خلال حملتي الانتخابية الموءودة استنكرت فيها هذا الدس اللئيم على ثورة ١٩٨٥.
يروج بعضنا أننا لم نخلق للديمقراطية: وين نحن من الغرب، فينا عقل بدوي، فينا قبائلية وفينا وفينا والله يطلع ميتينا. وقيل ما الديمقراطية يا عبد الله؟ قال ال accountability قالها ثلاثاً. لم يولد بها أي شعب. وهي ما نتعلمه نقع ونقوم. وإزالة التمكين هي الدرس الأول من دروسها.
ibrahima@missouri.edu