مصر 360
بقلم: أمانى الطويل
يتواصل معي الكثيرون من القيادات والرموز السياسية السودانية بشكل شبه يومي؛ بشأن التساؤل عن طبيعة الموقف المصري في السودان في هذه المرحلة، ويتذكرون مقولة الرئيس السيسي الشهيرة بشأن ليبيا التي قال فيها، إن ليبيا خط أحمر، ويطرح هؤلاء جميعا سؤالا مركزيا هو، هل السودان أقل أهمية لمصر؟
بطبيعة الحال، يتحسب معظمهم، لما أسموه غياب مصري عن التفاعلات السودانية الذي يمكن أن يؤدي إلى معادلات عسكرية وسياسية مرتبكة، في توقيت دقيق، وذلك سواء في مجهودات وقف الحرب، أو في معادلات ما بعد الحرب، والتي هي من المأمول أن تحقق توازنا للسودان، لن يستقيم دون دور مصري، أصبح يعترف به جميع الفاعلين، خصوصا الدوليين.
ويبدو أن هذه التساؤلات قائمة على غياب شبه كامل للتصريحات السياسية المصرية؛ بشأن التطورات السودانية، وكذلك توقف الحديث المصري، والتفاعلات المرتبطة بمبادرة دول جوار السودان بالقاهرة، التي نجحت مصر في حشد كافة دول جوار السودان فيها في منتصف العام الماضي، وعقدت هذه المبادرة اجتماعا وحيدا في أنجمينا عاصمة تشاد، ثم توقفت، بعد أن قال سامح شكري وزير الخارجية المصري فيه إن الموقف في السودان ضبابي وغير واضح.
الأسئلة التي تصلني مرتبطة أيضا بموقف مصر من مبادرة إيجاد التي نشطت في الملف السوداني، بعد خفوت صوت مبادرة دول جوار السودان، لدرجة أعتقد البعض فيها، أن مصر اعتمدت هذه الآلية وحدها؛ لحل المشكل السوداني، طبقا لما رشح من كينيا بعد وجود الرئيس السيسي في الخريف الماضي هناك، أو هكذا ذاع.
الأسئلة السودانية مرتبطة أيضا بالموقف المصري من طرفي الصراع السوداني، وإلى أي مدى يمكن أن تتفاعل مصر مع قوات الدعم السريع، وقائدها حميدتي، وذلك بعد أن حقق انتشارا ميدانيا على الأرض في مواقع مهمة، خصوصا في منطقة وسط السودان المتفاعلة تاريخيا مع مصر.
ومع عدم وضوح الرؤية المصرية الراهنة، بالتأكيد هناك تأويلات كثيرة منتشرة على منصات التواصل الاجتماعي السودانية منها، أن هناك انتشارا عسكريا مصريا على الحدود الجنوبية، أو أن هناك مسرحا يعد لقتال الدعم السريع في الولاية الشمالية، وهكذا مما لا نستطيع معه تبين الواقع أو الحقيقة، من الخيال أو السعي وراء الفبركات الإعلامية التي تضمن انتشارا لمنصة هنا أو هناك.
على الصعيد المصري، فإن الرأي العام يلاحظ بالتأكيد، أن مصر غائبة سياسيا عن السودان، وهو أمر مقلق للشارع المصري الذي يرتبط وجدانه تاريخيا بالسودان والسودانيين، خصوصا مع تزايد التواجد السوداني في مصر، وتداخله في النسيج الاجتماعي، وحضوره في المشهد العام للشوارع والأحياء والميادين المصرية، بل وقطاع الأعمال الخاص في مصر، وأيضا في المجالات الخدمية، وذلك مع حصول الأطباء والمهندسين، وغيرهم من المهنيين على تصاريح عمل في مصر بكافة القطاعات.
وبطبيعة الحال ليس لدى إجابات شافية لهؤلاء المتسائلين في مصر، أو في السودان ولكني أتفق، مع أن الغياب المصري السياسي العلني عن المعادلات الراهنة يشكل خسارة مشتركة لمصر وللسودان معا، على قاعدة أن مصالح كلا البلدين متأثرة بالأخرى، بل هل مصنفة بالحيوية، والتي تحوز على أعلى درجات الأهمية الاستراتيجية، فلا يمكن مثلا ألا يكون هناك تصريحات من الخارجية المصرية بشكل شبه دوري عن ضرورة وقف الحرب، أو التنوير بالمجهودات المصرية في هذا المجال، أو تطورات الرؤية المصرية بشأن التفاعلات السودانية.
وفي سياق مواز، فإن موقف الجامعة العربية يبدو غير نشط على المستوى المطلوب على الرغم من حضور ممثل عنها لقمة الإيجاد الأخيرة المنعقدة بكمبالا، حيث أنه من المطلوب، أن يكون هناك خلية عمل، لا ينقطع نشاطها اليومي؛ بشأن الحالة في السودان على الصعيد الإنساني على الأقل.
وعلى الرغم، ما أسلفت سابقا، فإنه لا بد لنا أيضا، أن نرصد تحركات مصرية بشأن السودان موجودة، ولكنها غير علنية، لا يتم الكشف عنها، ولا عن أي من مخرجاتها منها مثلا، تعاون الخارجية المصرية مع الجانب الفرنسي في جمع بعض الحركات المسلحة الدارفورية مع ممثل للجيش، والدعم السريع بالقاهرة، ومنها أيضا، تعاون مع دولة البحرين في لقاء بين نائب رئيس قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، والفريق أول شمس الدين الكباشي نائب قائد الجيش، وعضو المجلس السيادي السوداني، الذي قام طبقا للتسريبات بزيارات غير معلنة لكل من مصر والإمارات.
وطبقا لذلك، يبدو أن التحرك المصري في الملف السوداني هو تحرك جزئي، بمعنى أنه يتم اللجوء إلى آلية فصل الملفات السودانية بعضها عن بعض، والتعامل معها كل منها على حدة، وذلك على أمل، ربما أن التقدم في أحد الملفات، ربما يكون دافعا؛ لتقدم ملف آخر وهكذا.
ويبدو لنا أيضا، أن التحرك المصري حذر للغاية، خصوصا مع وجود إرادة سودانية مشتركة لطرفي الصراع باستمرار الحرب، رغم إعلانات حميدتي قائد قوات الدعم السريع المتواصلة، بأنه يقبل التفاوض، ويريد السلام، فضلا عما يرشح في تصريحاته من ملامح لمشروع سياسي مستقبلي.
هذا التقدير بشأن موقف حميدتي الواقعي من الحرب قائم على معلومات، رشحت لنا، أن الرجل يمول طرفي الحرب بمعنى، أن له علاقات مع بعض أطراف المؤتمر الوطني المنخرطة في القتال على الأرض، ويقوم بتمويلها. ويثار هنا السؤال، هل يريد حميدتي استمرار الحرب؟ هل هذه الحرب هي طريقه إلى السلطة التي أعلن لدوائر ضيقة، أنه يريدها منذ عام ٢٠١٩؟ وإذا لم يكن حميدتي يريد استمرار الحرب، فمن يريد استمرارها على هذا النحو الذي يكبد السودانيين أثمانا إنسانية باهظة كل لحظة.
الحذر المصري ممتد أيضا؛ بسبب أداء الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي، وقائد الجيش الذي يملك، ومن معه إرادة استمرار الحرب؛ فيرفض التفاوض رغم الوزن السياسي، والمعنوي للجيش في المعادلة الحالية، ويذهب إلى إيران والجزائر لضمان دعم تسليحي للجيش السوداني.
وإذا كان الدعم الجزائري للسودان (إن حدث) هو ضمن التفاعلات الإقليمية العربية، وقد تكون تداعياته محسوبة، وغير مكلفة، فإن اللجوء إلى إيران له تداعيات غير محسوبة في ظني من جانب الفريق البرهان. ذلك أن استدعاء إيران للمنصة السودانية الملتهبة، والمشاطئة للبحر الأحمر، هي حسابات مرتبطة بالشرق الأوسط والحرب في غزة، ذلك أن السودان هو إضافة للمنصات الإيرانية في كل من اليمن ولبنان والعراق، وذلك من شأنه، أن يخل بموازين قوى دقيقة، وحرجة في المنطقة، لا يستطيع السودان في حالته الراهنة احتمال تداعياتها في علاقته بمحيطه الإقليمي، خصوصا الخليجي منه، فالسودان حينما استدعي إيران في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان سلطة قائمة ودولة متماسكة، أما الآن فالوضع مختلف.
إجمالا مع تقدير أن الأعباء المصرية بشأن الحالة السودانية هي ضخمة، ومضافة لأعباء أخرى إقليمية لا تقل حساسية ولا ضخامة، ولكن يبقى السودان في وجدان المصريين حالة، تستدعي عناية فائقة من جانب الفاعلين الرسميين، وتنويرا دائما بالتطورات على الصعيد السياسي والعسكري، وذلك استجابة لحالة الاهتمام الكبير من جانب الرأي العام المصري بالسودان، وأهل السودان.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع السودان فی فی السودان فی مصر
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (20 – 20)
"لنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تَكُنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
صفقة إعادة إعمار السودان
انتشرت في الأسابيع الماضية في وسائط التواصل الاجتماعي السودانية حلقة فيديو مصوَّرة من إنتاج شخصٍ مصريٍّ اسمه محمد أبو عاصي. قدَّم هذا الشخص نفسه للمشاهدين بأنه "صحفي اقتصاد". وقد وصف هذا الشخص المحتوى الذي سوف يبثه في المقدمة التي استهل بها التسجيل، بأن مبني على تسريباتٌ "من كواليس المطبخ ومراكز صنع القرار"، وأنه يتعلق بصفقةٍ ضخمةٍ لإعادة إعمار السودان. وأضاف، أن هذه التسريبات وصلته في رسالةٍ من سيدةٍ تُدعى داليا أحمد. وقد وضح من حديثه عنها أنها مطلعةٌ على ما يجري خلف الكواليس. وفحوى التسريب أن مصر والإمارات والكويت والسودان منخرطةٌ في لقاءاتٍ سرية بخصوص صفقة لإعادة إعمار السودان. وذكر أبو عاصي أن وفدًا حكوميًّا سودانيًا رفيعًا زار القاهرة في هذا الخصوص، وأن لقاءاتٍ متتاليةً رفيعة المستوى تضم وزراء سودانيين وشخصيات سيادية ظلت تجري مع مماثليهم من المصريين لهذا الغرض. وذكر أبو عاصي أن السعودية سوف تنضم قريبًا إلى هذه الصفقة التي تنخرط فيها في الوقت الحالي كلٌّ من مصر والإمارات والكويت والسودان.
اختار محمد أبو عاصي لهذا الفيديو عنوانًا يقرأ: "مصر تطلق العملاق أقصى الجنوب .. ما الذي يجري سرًّا في جنوب مصر". وأشار أبو عاصي أن هذه اللقاءات محاطةٌ بسريِّةِ كبيرة. قال أبو عاصي ذلك، رغم أنه قد كشف أمرها للملأ وبحماسٍ دافقٍ في هذا الفيديو الذي بثه! وأضاف قائلاً إن فريقًا مصريًا متكاملاً قد تحرَّك إلى منطقة حلايب وشلاتين. (وحلايب وشلاتين أرضٌ سودانية احتلتها مصر). قال أبو عاصي إن مصر أطلقت "عملاقها" هناك، ويعني به الجيش المصري وأذرعه المتمثلة في شركاته المختلفة لكي يقوم مع شركات القطاع الخاص بمهمة تطويري البنى التحتية في تلك المنطقةتمهيدًا لجعلها المنصة اللوجستية التي سوف تنطلق منها جهود إعادة إعمار السودان. (راجع: محمد أبو عاصي على تطبيق يوتيوب على الرابط: https://tinyurl.com/52889jca).
ذكر أبو عاصي، أن ما يجري في حلايب وشلاتين وأبورماد، مهمةٌ وطنيةٌ غرضها تحقيق الاستقرار لمصر وتأمين العمق المصري، بالإضافة إلى الفوائد التي سوف يجنيها رجال المال والأعمال. ولكي تصبح منطقة حلايب وشلاتين منصةً مكتملةً وقادرة على إطلاق جهود إعادة إعمار السودان، قامت مصر، في البدء، بإنشاء شبكةٍ عملاقةٍ من الطرق السريعة ومن خطوط السكك الحديدية، وأن تلك الشبكة قد وصلت فعلاً إلى منطقة حلايب وشلاتين. وقال أبو عاصي إن محطةً عملاقةً للقطارات يجري إنشاؤها هناك لربط حلايب وشلاتين بالعمق المصري شمالا. وأن شبكة الطرق والسكك الحديدية لن تقف عند منطقة حلايب وشلاتين، وإنما ستتعداها إلى داخل الأراضي السودانية. كما أن المعابر الحدودية بين البلدين في هذه المنطقة قد اكتمل تجديدها. وبالإضافة إلى محطة السكة الحديد فهناك خطةٌ لإقامة 4 موانئ جافة ومحطة ضخمة للحاويات لنقل البضائع إلى السودان. كما أن مصر أنشأت عشرة صوامع للغلال كدفعة أولى، وسيتم إنشاء المزيد منها، لأن التخزين أصلاً بغرض التصدير. كما يجري انشاء محاجر بيطرية ومجازر للمواشي التي سوف تأتي من السودان. كما أن هناك نهرًا صناعيًا يجري إنشاؤه في الصحراء الغربية غرب توشكي. وبناءً على ذلك فاوضت كلٌّ من الكويت والإمارات الحكومة المصرية وحصلت كلتاهما، بالفعل، على أراضٍ زراعيةٍ في تلك المنطقة. (راجع: محمد أبو عاصي على تطبيق يوتيوب على الرابط: https://tinyurl.com/52889jca).
وذكر أبو عاصي في مكانٍ آخر أن مصر تسلَّمت من السودان في أقل من شهرين ونصف 13 طنًا من الذهب وأن جزءًا من هذه هذا الكمية وصلت إلى البنك المركزي لدعم إحتياطات مصر. وأضاف أن مصر تسلَّمت أيضًا خمسة أطنانٍ أخرى من الذهب، مؤكدًا أن هذه الكمية ليست هي كل ما ستتسلمه مصر من السودان. فهناك كمياتٌ إضافيةٌ سوف تصل إلى مصر لاحقا. وقال إن مصر ستبني سدًّا على غرار السد العالي، ولكن ليس في مصر. (راجع: محمد أبو عاصي على تطبيق يوتيوب على الرابط: https://shorturl.at/JFDSs).
مصر تحصل على المقاولة بلا مناقصة
من اللافت في حديث أبو عاصي قوله إن مشروع إعمار السودان قد مُنح لتطلع به مصر بلا مناقصة. وذكر أبو عاصي أن سبب منح مصر مهمة إعادة أعمار السودان بلا مناقصة هو أن المهمة عاجلةٌ ولذلك تجري الترتيبات في هذا الشأن بسريةٍ تامةٍ حتى تكتمل كل البنيات الضرورية لهذا المشروع ثم يظهر للناس كحقيقةٍ مجسدة. وذكر بالإضافة إلى ذلك، وهذه أغرب من سابقتها، أن سبب تولي مصر للموضوع أن السودان محاصرٌ بالعقوبات ولا يستطيع التعامل في السوق الدولية. ولهذا السبب أخذت مصر زمام الأمور في يدها وانخرطت في القيام بهذه المهمة نيابةً عن السودان. ولابد هنا من تذكير القارئ الكريم بما سبق أن ذكرناه من قبل، وهو أن النظام المصري قد ظلَّ حريصًا على استمرار العقوبات الدولية على السودان. وقد كان النظام المصري يصوَّت مع مقترحات تمدي العقوبات على السوجان، وأن السبب وراء ذلك هو إعاقة نمو السودان، والحؤول بينه وبين التعامل المباشر مع العالم، من أجل أن يصبح النظام المصري هي وكيله في التعامل مع العالم. وها هو محمد أبو عاصي يؤكد هذه الحقيقة بلا مواربة، بل، وبلا أي شعور بالاستغراب. فمصر وفقًا لما قاله أبوعاصي قد وضعت نفسها وهي تنخرط في الخفاء في الاستحواذ على ما أسماها هو "صفقة إعادة إعمار السودان"، قد وضعت السودان بالكلية تحت وصياتها، بل، وبقرارٍ فرديٍّ منها وحدها. والأدهى والأمر، أن سلطة بورتسودان غير الشرعية قد رضخت لهذا الأمر رضوخًا تامًا. وقد صرح وزير الخارجية السوداني علي يوسف لقناة "العربية" بأن حكومته تتواصل مع السعودية ومصر والكويت وقطر، من أجل إعادة الإعمار وهو ما يؤكد ما قال عنه أبو عاصي إنه تسريبات. (راجع: موقع "قناة العربية" على الرابط: https://tinyurl.com/5n6myfyn).
سودانيون مع منح مصر الأولوية
في نفس هذا السياق ذكرت صحيفة "الشرق الأوسط" أن سودانيين مقيمين في القاهرة اقترحوا منح الأولوية للشركات المصرية، للمساهمة بشكل موسَّعٍ في عمليات «إعادة الإعمار»، بعد انتهاء الحرب. ولنا أن نتساءل هنا لماذا يقترح هؤلاء منح الأولوية للشركات المصرية في عملية إعادة إعمار السودان؟ فهذا مقترح غير راشد بل ومغرض وغير القانوني لأن من تقوم به حكومة غير منتخبة؟ بل هي طرفٌ في النزاع القائم الآن وقرار منح مصر الأولوية قرارٌ سياسيٌّ وليس قرارًا إدرايًا سليما. كما أنه يجري من وراء الإرادة السودانية؟ وقد أشار هذا المركز إلى: "بدء شركات مصرية تنفيذ بعض الأعمال حالياً، من بينها تأهيل بعض الكباري في الخرطوم". وأضافت الصحيفة أن مصر والسودان قد اتفقتا على تشكيل "فريق مشترك لدراسة خطة إعادة الإعمار والتجارب الدولية لتحقيقها". وقد جرى ذلك خلال مشاوراتٍ سياسية، جمعت وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، ونظيره السوداني علي يوسف الشريف، في القاهرة نهاية فبراير (شباط) الماضي. وذكر مدير «مركز التكامل السوداني المصري»، عادل عبد العزيز، لـصحيفة «الشرق الأوسط» أن شركات مصرية بدأت في صيانة وإعادة تأهيل اثنين من الكباري وهما شمبات والحلفايا. وأن ذلك يجري مع تقدُّم الجيش السوداني أخيراً، واستعادته مناطق حيوية. (راجع: صحيفة "الشرق الأوسط"، على الرابط: https://tinyurl.com/3an8nbp8).
أتت لحظة ابتلاع الفريسة
يبدو أن النظام المصري الذي وقف بكل ما يملك ضد ثورة الشعب السوداني، معترضًا مسيرته نحو التحول الديمقراطي ومسهمًا في إشعال هذه الحرب التي دمرت البنيات التحتية السودانية المتهالكة أصلا، والتي قام الطيران المصري بدورٍ كبيرٍ في تدميرها قد أيقن أن لحظة التهام الفريسة التي طالما تلمَّظت لها شفتاه، قد أتت بالفعل. فهذا المشروع الضخم الذي يجري في سريةٍ تامةٍ، كما قال محمد أبو عاصي، ثم تبرَّع هو بتسريب أخباره، لهو الخطوة الأخيرة في مخطط استلحاق السودان بمصر بأسلوبٍ ناعم. وفي تقديري أن هذا التسريب جرى بإيعازٍ من جهاز مخابرات النظام المصري بعد أن أكمل المشروع في نظر القائمين عليه مراحلة الأولى. فقد تهيأ المسرح من جميع جوانبه لتنفيذه بعد أن وضع النظام المصري، بمختلف الأساليب الملتوية، سلطة القرار في يد أكثر جنرالات الجيش السوداني تهالكًا وعمالةً، وهوسًا بالسلطة، وشرهًا لجمع المال.
هذا المشروع الضخم الذي يجري في منطقة حلايب وشلاتين المتنازع عليها بين السودان مصر والتي احتلتها مصر عنوةً في عام 1995، أي بعد حوالي أربعين عامًا من استقلال السودان، ليس المقصود منه تنمية منطقة حلايب، بوصفها منطقة مصرية وفقًا للزعم المصري. وإنما المقصود منه استتباع السودان لمصر اقتصاديًا وبصورةٍ نهائية. فالإحصاءات تقدر سكان مثلث حلايب بين 30 و50 ألف نسمة، فهم لا يساوون سكان حيٍّ في مدينةٍ كبيرة. لذلك، كل هذه البنيات الضخمة التي يجري إنشاؤها في حلايب القصد منها جعل حلايب رأس الرمح في وضع اللمسات الأخيرة لمشروع إلحاق السودان إقتصاديًا بمصر. وأيضًا، لوضع حلايب بصورةٍ نهائيةٍ تحت الاحتلال المصري بموافقة الفريق البرهان والتنظيم الإخواني. وذلك تطبيقًا لما جرى اقتراحه من قبل من حلٍّ متهافتٍ لأزمة حلايب بجعلها منطقة للتكامل بين البلدين.
حلايب هي رأس الرمح لإعادة الاستعمار
لقد جرى تطوير منطقة حلايب في نفس الإطار الزمني الذي قام فيه الناظر "الإخواني"، محمد الأمين ترك، قبل 4 سنواتٍ مدفوعًا من قبل الفريق البرهان والتنظيم الإخواني، بتنسيقٍ كاملٍ مع النظام المصري,وقد كان الغرض وراء ذلك، حينها، هلهلة ميناء بورتسودان وإضعاف فاعليته وإضعاف حكومة حمدوك وخنقها تمهيدًا للإطاحة بها. لكن، في فترة الإغلاق تلك للميناء والطريق البري الذي يربطه ببقية البلاد، تحوَّلت صادرات وواردات السودان إلى الموانئ المصرية. فهذا المشروع الجديد وبالصورة التي وصفها به محمد أبو عاصي يتجه إلى جعل منطقة حلايب ميناءً أساسيًا للصادر والوارد السوداني، بحجة أن السوان لا يستطيع التعامل مع السوق الدولية إلا من خلال مصر. والمقصود من هذه النقلة والقضاء على ميناء بورتسودان بصورةٍ نهائية. ولو بقي ميناء بورتسودان عقب ذلك، فسوف يكون بقاءه شكليا. أيضًا ستصبح، وفقا لهذا المشروع، منطقة حلايب مخزنًا لمواد السودان الأولية من نباتية وحيوانية ومعدنية. وأيضًا، مصنعًا ضخمًا لإضفاء القيمة المضافة عليها لتصدره مصر بعضه أو كله باسمها. وحين تصبح موانئ مصر الجنوبية الشرقية هي منفذ السودان لصادر ووارد السودان من الخارج، يصبح القطر السوداني برمته تحت رحمة الإدارة المصرية. فالقاهرة تستطيع خنقه متى ما أرادت. وسيقود هذا بصورة تلقائية إلى أن يصبح السودان مجرد محافظةٍ تابعةٍ لمصر تحمل الرقم 28؛ محافظة مصرية تجلس على رأسها دميةٌ تظن نفسها، وهمًا، أنها حاكمةٌ لقطرٍ اسمه السودان.
خطة إعادة الإعمار الخبيثة
لعلكم جميعًا قد لاحظتم العجلة المصرية على ما يسمى "خطة أعادة إعمار السودان". بل، كما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط، فإن بعض الشركات المصرية قد شرعت بالفعل في إعادة تأهيل كل من كبري شمبات والحلفايا اللَّذيْن دمرهما الطيران المصري. فمصر هنا، كما يقول المثل السوداني: "تجرح وتداوي". الشاهد، أن الحرب لم تنته بعد، وأن لم يذهب البرهان وجيشه الإخواني إلى مفاوضاتٍ جديدةٍ بنيةٍ صادقةٍ ورغبةٍ أكيدةٍ في تحقيق سلامٍ حقيقيٍّ يعيد السلطة المسلوبة إلى المدنيين، فإن هذه الحرب ستستمر طويلاً جدا. ويصبح، من ثم، من السابق لأوانه أي حديث عن "إعادة الإعمار". اللهم إلا إذا كان النظام المصري والبرهان قد اتفقا على إخراج قوات الدعم السريع من الشمال والوسط والاستغناء عن بقية أقاليم السودان، وإلحاق الشمال والوسط بمصر، وفقًا لخطة الإعمار الخبيثة هذه. ووفقًا لمخططي مثلث حمدي والبحر والنهر. وحتى هذا لن يُحدث استقرارًا يسمح بإعادة الإعمار.
هذه الخطة الخبيثة لإعادة الإعمار هي استباقٌ للإرادة الدولية، بل هي تآمر على شعب السودان وثورته. فالأولوية الآن ليست لإعادة الإعمار التي تبدو في هذه اللحظة وضعًا للعربة أمام الحصان. وإنما الأولوية لوقف الحرب وإيصال العون الإنساني لملايين الجوعى. وعقب ذلك، تحقيق سلامٍ راسخ مستدام يسمح بإعادة الإعمار تحت رعاية دولية وإقليمية وليس انطلاقًا من الغرف المظلمة. ما يسمى "صفقة إعادة إعمار السودان" هذه، تفوح منها روائح التآمر لاقتسام موارد السودان بعد أن أصبح أمره في يد قياداتٍ عميلةٍ متهالكةٍ لا يخمها سوى أمر نفسها. وللأسف، وكما ذكر محمد أبو عاصي، فإن هناك دولاً خليجيةً منخرطة في هذه الصفقة. وهي في تقديري صفقة لمنع التحول الديمقراطي في السودان ولاقتسام موارده من وراء ظهر أهله.
من يعجز عن حكم نفسه سيأتيه من يحكمه
نعيش الآن في السودان لحظةً فارقةً في تاريخنا المعاصر. وهي لحظةٌ وقفنا فيها عمليًّا بسبب فشلنا في إدارة شؤوننا في الحد الفاصل القاطع بين أن نكون وألا نكون. فالطمع المصري والطمع الخليجي في مواردنا والجرأة على التحكم في شؤوننا لم يأتيان من فراغ. وإنما أتيا من شعور هؤلاء بأننا أعجز من أن نحكم أنفسنا بأنفسنا. وقد رأى هؤلاء في رؤسائنا، أمثال عمر البشير من صور الفساد ومن الضعة وعدم الاختشاء من التسول، ومن التذلل، ما جعلهم لا يقيمون لنا وزنا. وكما قال نزار قباني قبل عقود عدة، وهو يُعرِّض ويُزري بالحالة العربية المتهالكة: "لم يدخل اليهود من حدودنا، وإنما تسرَّبوا كالنمل من عيوبنا". فالطمع الخليجي في بلدنا يتحقق طرفٌ كبيرٌ منه عبر الطمع المصري في بلادنا. فمصر الطامعة دومًا في إلحاق السودان بها، تقدم نفسها للخليجيين بوصفها الأعرف بشؤون السودان الداخلية، والحارس في البحر الأحمر للأمن الخليجي. وهي تعرف كيف تستعين بالطمع الخليجي لتحقيق طمعها هي.
هذه اللحظة الراهنة الفارقة بالغة الخطر، تقتضي يقظةً سودانيةً أرى أن حدوثها قد تعثَّر كثيرا. ورغم هذا الحال المتشظي ورغم الغفلة المطبقة ورغم موت الهمم، لا يملك المرء على الرغم من كل ذلك سوى أن يستمر في النفخ في بوق الإيقاظ من هذا السبات السوداني الطويل. فإن لم يتحقق المقصود اليوم، فإنه سيتحقق في الغد، كان على ربك حتمًا مقضيا. المهم أن يضع المرء نفسه في الجانب الصحيح من التاريخ. لقد رُزء السودان، دون غيره من الأقطار بنخبٍ عسكريةٍ يسود وسط كثيرٍ من قياداتها الجهلُ والغطرسةُ وانطفاء وقدة الحس الوطني وضعف الشعور بمعاناة الناس واللااكتراث بالتخلف المزري للقطر. كما رُزء بنخبٍ سياسيةٍ تستشري بينها محدوديةُ الأفق وحبُ المنصب، والاستعداد الدائم للمساومة بالأهداف السامية، والتضحية بتطلعات الشعب، من أجل تحقيق الطموحات الشخصية.
ختامًا لا أملك سوى أن أقول: أيها السودانيون، افضحوا هذا المشروع المصري القديم المتجدد لإلحاق بلادكم بمصر وقاموه بشدة. وأعينوا مصر على نفسها بالمقاومة الواعية والضارية لأطماعها، حتى تضطر إلى أن تبني علاقةً معافاةً ببلادنا. ومرة أخرى: "لا يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرك ما لم تكن منحنيا". قاوموا نهج الأنظمة المصرية المتعاقبة للاستحواذ الفوقي على السودان، متضافرين مع أحرار المصريين، الذين يحلمون نفس أحلامكم، ويتطلعون إلأى علاقات معافاة معكم، حتى يتحقق لمصر ما تريده من السودان، بالطرق الصحيحة. وحتى يتحقق للسودان ما يريده من مصر بالطرق الصحيحة، أيضا. فالنجاحات السياسية والاقتصادية الكبيرة والنهضة الباهرة والتكامل الاقتصادي بين الأقطار، وبناء الكتل الكبيرة الأقليمية القوية الوازنة، أمورٌ لا تتحقق بالفهلوة وبنزعات الاستحواذ وبأساليب العصابات وإحياء المقبور من نزعات التمدد الإمبراطورية الغابرة. وإنما يتحقق كل ذلك بالشفافية وسلامة القصد.
(انتهت الحلقات العشرون، وإلى اللقاء قريبًا في مرافعةٍ ختامية).
elnourh@gmail.com