الحردلو صائد الجمال (1) داب مِن زاد عليّ..وغلّب الداواي..!!
تاريخ النشر: 4th, February 2024 GMT
مرتضى الغالي
اصطياد اللوامع (Subtle References) من أشعار الحردلو مهمة ممتعة شائقة ولكنها ذات نَصَب..! حيث أنها تتطلب التهيؤ اليقظ والاحتشاد النفسي ومد أشرعة الخيال..فللرجل بواطن وأغوار وشغف بالجمال عجيب وله (كاميرا خفية) تلتقط الأطياف السائرة واللحظة الكونية التي ينطوي عليها العالم المرئي في التو والحين.
وهو شاعر عظيم من غير مغالاة..! حيث أن المقصود عظمة إبداعه وما أنتجه ولامسه من آفاق كونية وأبعاد إنسانية، وإنعام النظر في ذلك الانجاز الإبداعي وبيان نسبته إلى نفائس الذخيرة الإنسانيةو(خزانة الإبداع العالمي) وإمكان مضاهاة الحردلو بالشعراء العِظام الذين مرّوا على الدنيا واحتلوا موضعاً مرموقاً في مراقي الإبداع الإنساني مثل شكسبير وامرؤ القيس وميلتون ودانتي والمتنبي وهوميروس وإليوت...فالحردلو من هذه الطبقة وبين هؤلاء الكبار من غير وساطة أو استئذان..ومن غير(جمائل) لأي كان..!!.
لن ندع سهوَنا عن عظمة بعض مواطنينا السودانيين يلهينا عن سبيلنا في هذا الاستشراف؛ حيث إننا كثيراً ما نهمل (ما لدينا)جرياً على بعض عاداتنا في (طمر الجواهر بالتراب) وتبخيس كل ما هو ثمين..والمتنبي يقول (إنّ النفيس غريبٌ حيثما كانا) وينسبون للإمام الشافعي قوله:
التبر كالتُرب مُلقى في أماكنه
والعود في أرضِه نوعٌ من الحطبِ..!
والحردلو هذا لا نريد تضخيمه من حيث هو (فلان أو علّان) أو من خلال سيرته الذاتية وماذا كان يأخذ وماذا يدع..ولكن من باب النظر إلى شعره الذي وصل إلى قمم سوامق وذرىً شواهق لم تطأها أقدام سابقين..!
وقد نجد بعض الصعوبة في حصر أو تأكيد صحة بعض ما يُروى أو ينُسب للحردلو بسبب أن شعره كان موضوعاً للتداول الشفاهي حسب طبيعة الشعر البدوي-إن جاز التعبير- ووفق طبيعة إنشاء هذا النوع من الشعر الشعبي وطرق تداوله وروايته ووفق مواضعات البيئة الحاضنة له.
هذا ما يصفه "عادل بابكر" المترجم الرصين والأديب الإبداعي الذي تتزاوج عنده ملكة الترجمة الناصعة مع الحس الأدبي الشفيف في كتابه بالانجليزية (الحردلو: صائد الجمال) في مدخل رؤيته لحياة وبيئة وأشعار الحردلو..وقد كان مدخله الأول لعالم الحردلو كما قال هو استماعه في مرحلة باكرة من صباه إلى دندنة الدوبيت من عمه الراحل "صديق العمدة" ثم لاحقاً استماعه إلى مقاطع من شعر الحردلو منغومة بلهاة الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي..!
ومن هنا تكشّفت له كنوز الحردلو واستوقفته الأخيلة الغنية واستغرقته الغنائية الباذخة...وأدهشه الاستخدام العجيب للغة..ثم الأفكار الكبيرة المدفونة في تعبيراته البدوية التي تتحلّى بالوصف المُعجز والحصافة الشعبية والوجدان العاشق للجمال حيثما كان:
قلبي المن نشوهو للبنات هوّاي
داب من زاد عليا وغلّب الداواي
من مسكة خنيصرو المو شديد لاواي
بتفهق بلا كبد الحُقن ناواي
خلفولها الشتيم شاشايها جاي ..جاي.. جاي
وجات بتشلعو.. الفوقها النجيم ضواي
ست تبري أب نقش والداير الباراي
.. يا ستار عليّ من غيّها السراي..!
(عند الإمساك بأصبعها الصغير(الخنصر) اللين المطاوع تتأود وتتلوى وتتمايس جميعها مثل تمايل الفرع الرويان في مجرى المياه حيث "مدالق السيل")..!
twisting like a supple branch on the mouth of a watercourse
يا ستار عليّ من غيّها السرّاي
Your protection,
O Lord from a passion running deep in my bloodstream
ومع هذه أخذت بصاحبنا مقاطع أخرى غناها الكابلي من رسالة الحردلو إلى أخيه عبدلله (عِبدله) يخطره فيها بغيابه عن شهود العيد معهم هذه المرّة:
الزول السمح فات الكُبار والقدرو
كان شافوهو ناس عِبدله كان يعذرو
السبب الحماني العيد هناك احضرو
درديق الشبيكي البنّتو في صدرو
نعم..لقد فات الزول (الكبار والقدرو):
Among her age or older,she’s peerless
ثم يعرّج إلى ذكر مكرمة الباحث الشعبي الكبير جليل الأثر (الطيب محمد الطيب) وثلة من باحثي الفولكلور والأدباء والفنانين، وإسهامهم في تمهيد الطريق لكشف مخايل ومحاسن وتجليات الشعر البدوي، ونقل المعرفة به إلى قطاع عريض من الجمهور السوداني، مما أتاح لهذا الشعر في بداية الألفية الثالثة أن يكسب (أراضٍ جديدة) عزّزها انتشاره عبر الوسائط الاتصالية الحديثة، مما أفضى إلى ذيوع فنون الدوبيت وتسجيلها حضوراً قوياً في المدن وحتى العاصمة.
لقد استطاع فن الدوبيت - وأنماط أخرى من الشعر البدوي- أن يجتذب الأجيال الشابة من الجنسين مما أحدث ثغرات واسعة في جدار الحواجز اللغوية والثقافية التي جعلت هذا الضرب من الشعر حبيس حدوده الطبيعية (البطانة والبوادي السودانية)..تلك الحدود والسدود التي بدأت في التراجع حالياً..!
عنوان كتاب عادل بابكر هو (صائدو الجمال: الشعر البدوي السوداني: التطوّر والتأثير - بتركيز على إقليم البطانة)
The Beauty Hunters
Sudanese Bedouin Poetry: Evolution and Impact
With a focus on the Butana Region
نعم..شعر الحردلو هو انعكاس لعصره ومزاجه على حد السواء؛ وهو رائد الشعر البدوي السوداني بلا منازع.. الذي منح هذا الفن روحه وكينونته، ولا جدال ولا مِراء في أن شعر كان الحردلو ولا يزال غضاً وحاضراً..متساوقاً مع الزمن..يتحدث عن رؤية هذا الشاعر لدنياه وكلمته للكون والحياة..ويتم حفظه وروايته والاستشهاد به لأكثر من قرن من الزمان بعد رحيله عن الدنيا..!
ما سر عظمة الحردلو..الباحث عن الجمال الذي يقول إنه (هوّاي للبنات) منذ أن خلقه الله وأودع قلبه في صدره..؟!!
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
3 شعراء عمانيين يفوزون بـجائزة البردة في الشعر الشعبي
"شمس أخرى" لبدرية البدري.. و"بهو" لعلي المجيني.. و"نور على نور" لبدر البهلولي
فاز ثلاثة شعراء عمانيين بجائزة البردة بنسختها الثامنة عشرة وذلك في مجال الشعر الشعبي، فقد أُعلنت نتائجها مساء اليوم في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث حصلت الشاعرة بدرية البدري على المركز الثالث في المسابقة عن قصيدتها "شمس أخرى"، وحصل الشاعر علي المجيني على المركز الرابع عن قصيدته "بهو"، فيما حصل الشاعر بدر البهلولي على المركز الخامس عن قصيدته "نور على نور"، وقد كان المركز الأول في المسابقة للشاعر اليمني عوض العود عن قصيدته "غصون السلام"، والمركز الثاني للشاعر الأردني محمد العنزي عن قصيدته "اللؤلؤ المنثور".
تعد الجائزة واحدة من أبرز الجوائز الأدبية العربية، وشهدت هذا العام تنافسا قويا بين مئات الشعراء من مختلف الدول العربية، حيث خصص للشعر ثلاثة مجالات: الفصيح والشعبي والحر، إضافة إلى مجال فن الخط العربي، ومجال الزخرفة، وقد صرحت اللجنة المنظمة بأن الأعمال الفائزة عكست روح الشعر العربي الأصيل مع استشرافها آفاقا إبداعية جديدة، مؤكدة على أن المسابقة تهدف إلى دعم الإبداع الشعري العربي والاحتفاء بالمواهب التي تثري المشهد الثقافي.
جاءت المسابقة هذا العام لتحتفي بجماليات الثقافة الإسلامية لتكريم سيرة النبي الكريم بمفهوم النور، والذي يجسد الهداية والإرشاد نحو طريق الحق والخير، وتستلهم موضوعها من سورة المائدة الآية 15 {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، وقد سلط الشعراء المشاركون الضوء على هذا الجانب في قصائدهم المشاركة، وحول ذلك قالت الشاعرة بدرية البدري: "النور هو الحب وهو الخير وهو السلام وهو الإنسانية وهو الرحمة وكل هذه الصفات حين تجتمع، تشكل شخصية نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقلت في قصيدتي المعنونة شمس أخرى:
رسول ربّه اخْتاره يبدد وحشة الظلمة
وبانت شمْس من تربة "حِرا" وتْباشرت أكوان
بشر، لا ما انْخلق من نور بسّ النور في دمّه
له انْشقّ القمر يوم الضيا بْصفحة جبينه بان
فيما قال الشاعر علي المجيني حول استلهام فكرة "النور" في قصيدته: "النور ليس تضمينا، وإنما هو أكثر ما تمثله سيرة وشخصية النبي محمد، بالتالي هو جزء أساسي ومهم لكل قصيدة في المديح النبوي".
ويعكس هذا الإنجاز مكانة سلطنة عمان كبيئة حاضنة للإبداع الأدبي، ويؤكد على حضور شعرائها المميز في المشهد الأدبي العربي والعالمي، حول ذلك قالت بدرية البدري: "كل فوز هو إضافة لمسيرة الشاعر، وبالنسبة لفوزي هذا العام هو ترسيخ لقلمي في الشعر النبطي، وهذا الفوز هو فوزي الثاني في هذه المسابقة، فقد حققت في النسخة السابقة المركز الثاني".
وقال علي المجيني: "الأهمية الخاصة تكمن في الفوز بقصيدة سامية في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأهمية العامة، فالجائزة عبارة عن محطة عبور لقادم المسابقات والمحافل".
تجدر الإشارة إلى أن جائزة "البردة" تحتفي بمكانة الشعر الراسخة كوسيلة تعبير إبداعية لتسليط الضوء على السيرة الشريفة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وشخصيته الفريدة من خلال اللغة وقوة التعبير اللفظي، علاوة على ذلك، تعتبر فئة الشعر انعكاسا حرفيًا لاسم الجائزة "البردة" المشتق من قصيدة البردة وهي قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ألفها الإمام الصوفي في القرن الثاني عشر..